تحمل أزمة العالم المعاصر بتجلياتها المتعددة أبعاد أزمة حضارية كبري تشكل خطرا حقيقيا علي مستقبل الإنسانية الأمر الذي يؤكد بأن الرأسمالية التي بدأت حوالي العام1500 صارت نظاما عاجزا عن مواجهة التحديات التي تضخمت مع مرور الزمن وأصبحت تهدد معظم شعوب العالم بالإبادة من خلال المجاعات والأوبئة والحروب القبلية, فالعولمة التي تقدم إلينا علي أنها قفزة كيفية تتوج أحدث مراحل الرأسمالية أصبحت موضع تساؤل وإذا كانت الرأسمالية قد خلقت جميع الوسائل التي تسمح بحل جميع المشاكل الكبري لجميع الشعوب علي مستوي العالم إلا أن المنطق الذي يحكمها جعل من المستحيل في الوقت ذاته توظيف إمكانياتها لتحقيق الفرص المتكافئة للنمو والازدهار لمعظم هذه الشعوب. هذا التناقض في طبيعة النظام الرأسمالي يستمد استمراريته من عمليتي:( توسع الأسواق) و(التسليع), وهو توسع لا حدود له ويعمل لمصلحة رأس المال المسيطر( المراكز الاحتكارية) دون غيره. أما التسليع فيشمل كافة مجالات النشاط البشري وأخطرها علي الإطلاق الصحة وخصخصتها والتعليم وخصخصته والبحث العلمي وتسخيره لتحقيق الربح السريع علاوة علي تسليع الملكية الفكرية وخصخصتها في مجالات الثقافة الأمر الذي يحول دون التنوع الثقافي ويسعي عمدا لطمس التمايز النوعي بين الثقافات فضلا عن تسليع البيئة وخصخصتها عن طريق التجارة في حقوق البيئة وتسليع المياه وخصخصتها. والعولمة, بصورتها الراهنة, تأخذ شكل أرخبيل مبعثر في محيط بحيث يتفاوت تركيز الجزر في هذا الأرخبيل من منطقة إلي أخري فهو يتركز في المناطق التي تتوطن فيها الشركات المتعددة الجنسية ويقل نسبيا في المناطق التي حققت مستوي في التصنيع ويتلاشي تدريجيا في المناطق التي دخلت مرحلة التصنيع ولكنها لم تنجح في بناء أنظمة إنتاجية وطنية مثل العالم العربي ويكاد ينعدم في المناطق التي لم تدخل مرحلة التصنيع. وفي ظل العولمة تتعرض سلطات الدولة للضغط من أعلي من جانب القوي المتحكمة في العولمة ومن أسفل من جانب الوكلاء المحليين للعولمة( رجال الأعمال والسماسرة وتجار المخدرات والسلاح وأباطرة البيروقراطيات المحلية). وإلي جانب التوسع في الأسواق والتسليع يبرز الاستقطاب علي المستوي العالمي وهو طابع أصيل للتوسع الرأسمالي ويمثل البعد الأخطر للتدمير المرتبط بتاريخ الخمسمائة عام الأخيرة. فالرأسمالية كأسلوب للإنتاج تقوم علي أساس السوق بأبعاده الثلاثة( سوق رأس المال وسوق منتجات العمل الاجتماعي وسوق العمل) ولكن الرأسمالية بوضعها العولمي الراهن تقوم علي أساس التوسع العالمي في السوق مستندة إلي البعدين الأولين فقط ومستبعدة البعد الثالث أي سوق العمل حيث لا يسمح استمرار بقاء الحدود السياسية للدول بقيام سوق عالمي حقيقي للعمل ولهذا السبب فالرأسمالية ذات الوجه العولمي الراهن استقطابية بالضرورة علي المستوي العالمي ولا يسمح قانونها الداخلي إلا بتكرار التراكم المالي وإعادة إنتاج التنمية غير المتكافئة والتعامل مع مجموع البشر هم وصحتهم وتعليمهم وقدراتهم الابتكارية ومواردهم الطبيعية كسلع وليس بشر. وبالنسبة للمستقبل يمكن تخيل سيناريو للتطور العالمي في ظل العولمة الاقتصادية الراهنة يكرر الاستقطاب بصورة أشد علي المستوي العالمي ويعتمد علي أساليب جيدة لعمل الاحتكارات الخمسة التي يملكها المركز( الولاياتالمتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي واليابان) وتشمل هذه الاحتكارات مجالات التكنولوجيا والأنشطة المالية والموارد الطبيعية والاتصالات والإعلام التي لا تكتفي بتنميط الثقافة العالمية التي تقوم بتوزيعها وإنما تتيح المجال لمزيد من التلاعب السياسي ولا شك أن التوسع في سوق وسائل الإعلام الحديثة يعد أحد العوامل الرئيسية لتآكل مفهوم الديموقراطية أو ممارستها في الغرب ذاته. وأخيرا تأتي الاحتكارات التي تعمل في مجال أسلحة الدمار الشامل وبعد أن كانت هناك حدود لها بفضل القطبية الثنائية في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية أصبح هذا الإحتكار حاليا في يد الإدارة الأمريكية. وتحدد هذه الاحتكارات الخمسة مجتمعة الإطار الذي يعمل بداخله قانون القيمة المعولم الذي يعمل آليا علي تضخيم القيمة المضافة المزعومة التي تقدمها أنشطة الاحتكار الجديدة لمصلحة المركز كما تنشئ تسلسلا هرميا جديدا بالنسبة لتوزيع الدخل علي المستوي العالمي يؤدي إلي ترسيخ اللامساواة وتوسيع نطاقها. ويواجه العالم اليوم بداية انتشار موجة ثالثة من التوسع الامبريالي شجعها إنهيار النظام السوفيتي والأنظمة الوطنية في العالم الثالث. كما أن أهداف رأس المال المسيطر لم تتغير فهي لاتزال تتمحور حول التوسع في الأسواق ونهب الموارد الطبيعية للكرة الأرضية والاستغلال المفرط لاحتياطي القوي العاملة في التخوم علي الرغم من أنها تعمل في ظل ظروف جيدة وتختلف كثيرا من بعض النواحي عن كل التي كانت تميز المراحل السابقة من التوسع الامبريالي. وقد تجدد الخطاب الايديولوجي الموجه للرأي العام الغربي إذ أخذ يتأسس علي أفكار مثل( واجب التدخل دفاعا عن الديمقراطية) و(حقوق الإنسان) وبقدر ما يظهر أمام شعوب أسيا وأفريقيا بوضوح ما يحتويه هذا الخطاب من تزييف وتضليل لما يمثله من ازدواج في المعايير إلا أن الرأي العام الأوروبي والأمريكي لايزال يلتف حوله بنفس السهولة التي ألتف بها حول خطاب المراحل السابقة للإمبريالية. وتتميز اللحظة الراهنة بقيام مشروع أمريكي شمالي للهيمنة العالمية ويحتل هذا المشروع المسرح العالمي وحده إذ لا يوجد حاليا مشروع مضاد يعمل علي الحد من تحكم الولاياتالمتحدة كما كان الحال في مرحلة القطبية الثنائية(19991945) خصوصا وإن المشروع الأوروبي مع إلتباس أصله قد دخل مرحلة من التراخي كما تخلت عن ذلك دول الجنوب التي تطلعت في مرحلة باندونج(1955-1975) إلي الوقوف جبهة واحدة ضد الامبريالية الغربية. أما الصين التي تقف وحدها فلم يعد لها من طموح سوي حماية مشروعها القومي ولم تعد تتقدم للعب دور نشط في تشكيل العالم. وتتطلع الاستراتيجية الأمريكية لتحقيق عدة أهداف تتلخص فيما يلي: 1- تحييد وإخضاع الشركاء الآخرين( أوروبا واليابان) وتحجيم قدرة هذه الدول علي التحرك خارج إطار الحضن الأمريكي. 2- التحكم بلا شريك في الشرق الأوسط وآسيا الوسطي واستنزاف مواردهما البترولية. 3- منع قيام كتل إقليمية تستطيع التفاوض حول شروط العولمة. 4- تهميش مناطق الجنوب التي لا تمثل قيمة إستراتيجية. وتهتم الولاياتالمتحدة بتغليف مشروعها الامبريالي في إطار لغة( المهمة التاريخية للولايات المتحدة) ويقدم المسئولون الأمريكيون الهيمنة الأمريكية علي أنها بالضرورة( خيرة) ومصر للتقدم والوعي والممارسات الديموقراطية. ويربط هذا الخطاب بشكل آلي بين الهيمنة الأمريكية والسلام العالمي والتقدم المادي كأفكار لاتنفصل عن بعضها البعض ولكن الحقيقة غير ذلك تماما. وتلعب وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية دورا محوريا في الترويج لهذا المشروع, ومن ثم تضليل الرأي العام الغربي الذي لايزال يعتقد أن الحكومات الأوروبية والأمريكية ديمقراطية ولذلك فهي لا يمكن أن تمارس الشر فهذا دور محجوز للدكتاتوريات في دول الجنوب فقط وهذا الإعتقاد الراسخ لديهم يجعلهم يتغافلون عن الوزن الحاسم لمصالح رأس المال المسيطر. والعولمة التي تقدم دائما علي أنها قدر يفرضه التقدم الاقتصادي والتحول الإيجابي لكافة المجتمعات هي في الحقيقة إستراتيجية للهيمنة تعمل علي تحقيق السيطرة المزدوجة للولايات المتحدة علي العالم إقتصاديا وسياسيا وعسكريا. ولكن تبقي الهيمنة دوما متعددة الأبعاد ونسبية وهي متعددة الأبعاد بمعني أنها ليست فقط إقتصادية وإنما سياسية وأيديولوجية بل ثقافية وعسكرية. وهي نسبية لأن الاقتصاد الرأسمالي العالمي ليس إمبراطورية عالمية يتحكم فيه مركز واحد علي الدوام, فمركز الهيمنة مضطر للوصول إلي حلول وسط مع الآخرين حتي إذا كانوا في وضع خاضع مؤقتا فما بالك إذا كانوا يرفضون هذا الوضع, ومن هنا فالهيمنة مهددة علي الدوام بتطور علاقات القوي بين الشركاء في النظام العالمي لمزيد من مقالات د. عواطف عبدالرحمن