السوق العالمية التي انشأتها الرأسمالية الغربية سوق مبتورة لأنها تقتصر علي تبادل السلع وتداول رأس المال دون العمل التصنيع نظام يلف كل الفروع الإنتاجية بالمجتمع بدءا بالزراعة حتي الصناعة والخدمات لإنتاج الاحتياجات اللازمة لمعيشة الشعب إذا كانت الرأسمالية الأوروبية والأمريكية حققت تصنيع وتطور بلادها فإنها بذلك قد أغلقت باب التطور في مجتمعاتنا أحمد عبد الحليم حسين الظرف العام لتشكل الرأسمالية المحلية : بزوغ ثم توسع النمط الرأسمالي أدي إلي "رسملة" الأمم المتخلفة ومنها مصر تدريجيا لكنها رسملة قائمة علي تحول طبقة كبار ملاك الأرض الإقطاعيين أو شبه الإقطاعيين إلي رأسماليين ، بما يتضمن "تكيف" الطبقة مع الأوضاع الرأسمالية الصاعدة في أوربا وبسبب من ضرورة فتح أسواقها ووضع طبقتها العاملة وجيشها الاحتياطي من فقراء الفلاحين والمعدمين المتحولين إلي عمال زراعيين أو صناعيين تحت سيطرة الاستعمار والإمبريالية التي هي أعلي مراحل الرأسمالية. سقوق مبتورة السوق العالمية التي أنشأتها الرأسمالية الغربية سوق مبتورة لأنها تقتصر علي تبادل السلع وتداول رأس المال دون العمل. فانتقال العمالة من الجنوب إلي الشمال محظور إلا في أضيق الحدود وبغرضين أساسين الأول الضغط علي عمال المراكز لخفض الأجور أو لعدم تصاعدها بالتلويح بإمكانية استيراد العمالة الأجنبية والثاني قبول العمالة ذات الكفاءات الخاصة وذوي المواهب لتضيف إلي تطور مجتمعاتها علميا وتقنيا. لكن هل فتح سوق العمل يفتح باب التطور أمام المجتمعات المتخلفة ؟ بالقطع لا. لأن العمالة الفائضة في هذه المجتمعات نشأت ليس نتيجة غلق سوق العمل الرأسمالي المركزي أمامها بل نتيجة منع تصنيعها أساسا وهو (التصنيع) يستطيع استيعاب العمالة الفائضة عن حاجة النشاط الاقتصادي الخامل فيها وتطورها الملجوم. إذن السوق الرأسمالية العالمية ما يميزها ليس غلقها أمام عمال الجنوب لكن غلقها أمام الصناعة فيه وبمنع قيامها أصلا أو بالسماح بقيامها في الحدود التي تسمح بها المراكز وبما يلقي بالصناعات الملوثة للبيئة أو غير المحتاجة إلي تكنولوجيا متقدمة إلي هذه البلاد. هذا الإغلاق هو الذي يؤسس للعلاقة غير المتكافئة بين المراكز والأطراف. ذلك أن قيام الصناعة ثم انتقالها من المحيط إلي المراكز يؤدي بالتبعية إلي انتقال العمالة أو يشير إلي إمكانية تحقق ذلك. لأنه سيعبر عن "تساوي" الطرفين ، بينما تحرير انتقال العمالة لا يقضي بالضرورة إلي تحرير انتقال الصناعة. إذن العالم ينقسم بصفة أساسية إلي دول مصنعة وأخري زراعية أو منتجة للمواد الأولية وفي أحسن الأحوال إلي دول مصنعة للصناعات القذرة أو غير الحاكمة وبما لا تعد الصناعة فيها هي أسلوب الإنتاج المسيطر. عزز من هذا الاحتجاز نتائج الإلحاق الاستعماري المبكر لبلادنا والبلاد المثيلة التي أنتجت رأسمالية ضعيفة متهاونة تفضل ما يتركه لها الاستعمار من نشاط علي مواجهته وانتزاع سوقها من بين أنيابه الأمر الذي لو تم لكانت قد وضعت حواجز أمام تدفق السلع ورأس المال الأجنبي لحماية سوقها الوطنية. إلا أنها لعجزها لم تفعل ولن تفعل حتي لو "رغبت" لأن "القدرة" غير "الرغبة". معني التصنيع وفرص تحققه التصنيع نظام يلف كل الفروع الإنتاجية بالمجتمع بدءاً بالزراعة حتي الصناعة والخدمات لإنتاج الاحتياجات اللازمة لمعيشة الشعب. ويؤدي نشوء الصناعة في فرع إنتاجي معين إلي انتقاله إلي فرع آخر وفق منظومة أفقية ورأسية مخططة بعناية محققا تراكما رأسمالياً يسمح بالانتشار والاحتفاظ بالسوق الوطنية. إذن الأمر لا يتعلق بصناعة محددة بل ب"تصنيع" شامل يصبح هو الأسلوب الأساسي للإنتاج في المجتمع المعني. وإذا كانت الرأسمالية العالمية الاستعمارية ثم الإمبريالية قد أغلقت باب التصنيع الشامل أمام بلادنا والبلاد المماثلة فإن التصنيع حدث في مجتمعات متخلفة أو علي الأقل في ذيل قائمة الدول الرأسمالية مثل روسيا بفضل الثورة الاشتراكية التي خرجت بها من نطاق الرأسمالية العالمية واعتمدت تطورا اشتراكيا أساسه تصنيع وكهربة البلاد. ورغم فشل النظام بعد استمرار دام أكثر من سبعين عاما لأسباب ليس مجال بحثها الآن إلا أنه في التحليل الأخير حقق مجتمعا صناعيا لم يكن يتحقق إلا بخروجه عن نطاق رأس المال العالمي والهيمنة الاستعمارية (يعاد إدماجه في النظام العالمي من موقع التبعية مرة أخري) وحدثت محاولة للتصنيع في بلاد الثورات التحريرية الوطنية في الخمسينات مثل النظام الناصري وبعض نظم أفريقيا وآسيا لكن مع بقائها في إطار النظام الرأسمالي العالمي ولم تقطع معه فعادت إلي حظيرة التبعية بعد محاولة الانعتاق منها بالطريقة غير الثورية ولم تنجح مثل ما نجحت المجتمعات التي قطعت مع الرأسمالية العالمية. كما سمحت القوي العالمية تصنيع بعض المجتمعات المتخلفة والسماح برفع حاجز انطلاقها من باب ضرورات إدارة "الحرب الباردة" بين النظامين الاشتراكي والرأسمالي عندما كان هناك معسكر اشتراكي. وتم هذا السماح تحت رعاية هذه القوي ودعمها لتقدم "إغواء" لدول الجنوب للتقدم في طريق "الرسملة" قياسا علي نجاحها في هذه البلاد (كوريا الجنوبية - تايوان - هونج كونج - سنغافورة - ..) وعندما سقطت النظم الاشتراكية بدءا من التسعينات من القرن الماضي تخلت الإمبريالية عن حمايتها لهذه الرأسماليات الوليدة وتركتها لأزماتها الاقتصادية والمالية والاجتماعية تنهش فيها. ومع ذلك تنشر الإمبريالية نوعا من "الصناعة" علي دول الجنوب يؤكد علاقة التبعية ويؤيدها عن طريق الشركات متعددة الجنسية التي تهرب من مجتمعاتها وتقاليدها التي تتيح حقوقا مكتسبة لطبقاتها العاملة نتيجة قوة اتحادات عمالها ونقاباتها ومن الأجور المرتفعة نسبيا إلي بلاد الجنوب مثل بلادنا لتستفيد من رخص الأجور والاستغلال الرأسمالي من دون حماية للعمال. وحتي في هذا التصنيع فهي تقيم مصانع تصنيع لأجزاء في بعض البلاد أو تجميع بعضها علي أن المنتج النهائي يكون في العواصم الرأسمالية. الأمر الذي يسمح لها بإغلاق مصانعها في الجنوب إذا استشعرت خطرا من أي نوع مثل صعود الحركة النقابية العمالية أو ظهور توجهات لتأميم المصالح الأجنبية أو غير ذلك. وهكذا نجد أنفسنا أمام "صناعة" لا "تصنيع" صناعة تحقق أقصي ربح للرأسمالية العالمية مستغلة رخص الأيدي العامة أو قربها من أسواق الاستهلاك وتوفيرا لنفقات النقل أو قربها من أسواق المواد الخام لكنها صناعة محكومة باحتياجات الرأسمالية العالمية وقد تكون فائدتها الوحيدة هي تشغيل جزء من القوي العاملة. الأمر الذي يعتبرها بعض الباحثين "صناعة التراحيل". لقابليتها للرحيل في أي وقت ولأن فوائضها المالية يعاد تصديرها إلي المركز الاستعماري دون أن يوظف في المجتمع المحتضن لها. التصنيع من موقع التبعية معني هذا أن النظام الرأسمالي العالمي لا يسمح حتي بالتطور الرأسمالي المستقل لبلادنا. والتطور الرأسمالي المسموح به في بلادنا هو التطور الرأسمالي التابع والمتحقق في إطار الدورة الاقتصادية للرأسمالية الاحتكارية العالمية في إطار من عدم التكافؤ الذي يتم في سوق حرة مفروضة من المراكز الشمالية علي بلادنا تكرس التبعية واللاتكافؤ ويصبحون هم أحرارها ونحن عبيدها. بما يعني ويؤكد استحالة التطور الصناعي في إطار نظام رأسمالي. ويصبح شعار "اللحاق" بالعالم المتقدم شعارا فارغا من المضمون ومستحيل التحقق ويقصد به تضليل الجماهير وإطالة أمد حكم الكومبرادور. والأمر يتطلب تغيير البني السياسية الطبقية الحاكمة ومعها الثقافة والفكر ودور الدولة لتكون معبرة عن الحلف الطبقي الوطني الشعبي في الاقتصاد والمجتمع لتدفع الميول الوطنية الشعبية والملكية العامة وتدفع الإنتاج إلي توفير الاحتياجات الشعبية الأساسية أولا. يعزز ذلك نهضة تعليمية هائلة وحريات سياسية ونقابية واسعة تساعد علي تبديد اغتراب الجماهير عن مجتمعها بمشاركتها في صنع حاضرها ومستقبلها وتتملك مصيرها. وإذا كانت الرأسمالية الأوربية والأمريكية الشمالية حققت تصنيع وتطور بلادها وأقامت مجتمعات رأسمالية متقدمة فإن انتقالها إلي مرحلة الاستعمار ثم الإمبريالية ثم العولمة (كإمبريالية جماعية علي شعوب العالم المتخلف) تكون قد أغلقت باب تطور مجتمعاتنا وتصبح الرأسمالية التابعة في بلادنا عاجزة عن ذلك بفضل السيطرة الاستعمارية عليها ورضوخها استسلاما للهيمنة ويصبح نقيضها (الحلف الوطني الشعبي) هو الموكل إليه تحقيق المهمة انسلاخا من النظام الرأسمالي العالمي. والدليل أن مصر لا تعد دولة صناعية رغم بدء صناعتها منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر ورغم مرورها بمرحلة الحكم الوطني (في العهد الناصري) لكنها لم تقطع مع الاستعمار والإمبريالية ولم تبن اقتصادا مستقلا معتمدا علي الذات خارج آليات النظام الرأسمالي العالمي ولم تحكمها في كل تاريخها وحتي الآن سلطة وطنية ديمقراطية.