لعصور طويلة( بدائية) لم يكن متاحا للإنسانية أن تحلم أحلاما كبيرة, ينطوي فيها العالم علي مثل إنسانية عليا, والإنسان علي فضائل أخلاقية أسمي. ففي زمن البداوة, حيث تغذي الناس علي جمع الثمار وتنافسوا علي الصيد والمرعي, ساد قانون الغاب, وكانت قوة الجسد هي العنصر الحاسم في صون الحياة وتقرير المصائر, حيث تمتع البدائي بحرية قهر الآخرين بلا محاذير, وفي المقابل لم يكن يضمن لنفسه الحياة إذا ما وهن جسده, فعندها يتحول من صائد كبير, إلي صيد صغير, وتكون النهاية.. ومع بزوغ عصر الزراعة ظهرت المجتمعات المستقرة والمنظمة سياسيا, فكان الناس يزرعون ويحصدون ويتكافلون فيما بينهم, تحميهم قوة السيف من الأغراب عنهم. لقد بدأ الشعور بالأمن, وشرعت المدنية في السير علي طريق الارتقاء, فأخذ الفلاسفة والمفكرون يحلمون بعالم جديد يخلو من أنانية الحكام وغرائز العدوان وأحلام التوسع لدي الدول والجماعات.. إنه الفكر اليوتوبي. ورغم نبلها, لم تكن الأفكار اليوتوبية فاعلة في التاريخ, إذ لم يستطع المؤمنون بها أن يحققوها علي الأرض, بل يمكن القول إنها استخدمت, كالأديان أحيانا, ركيزة لفرض الهيمنة السياسية, بدلا من أن تلعب دورها الأصلي, كمصدر إلهام للضمير البشري, يسهم في حصار نزعات الشر والقبح في التاريخ الإنساني الطويل. وربما كانت أول يوتوبيا تتمثل في جمهورية أفلاطون, التي حاول فيها الفيلسوف الكبير إرساء القوة( السياسية) علي أرضية( المعرفة) الفلسفية, ليكون الحاكم( حكيما) قادرا علي نشر الفضيلة ورعايتها من خلال إشاعة المعرفة وترسيخها, حيث ذهب أفلاطون, ومن بعده أرسطو, إلي الثقة بالروح الإنسانية, فالإنسان لا يرتكب الخطأ وهو عارف, بل نتيجة جهله, وما إن يعرف حتي يغادر حظيرة الشر إلي فضاء الخير. وعلي الطريق الفردوسي هذا دعا أفلاطون إلي تحقيق حلم المساواة حيث الأشياء كلها ملكا مشاعا, والخير العام في حال من الازدهار بفعل غياب الملكية الخاصة التي طالما قضت علي مبدأ المساواة. ولكن إذا علمنا أن تلك المساواة المشاعية التي تأسست عليها جمهورية افلاطون قد انطوت علي استبعاد للعبيد والمرأة ناهيك عن الأطفال, بدلا من مكافحة الرق, واحترام المرأة, كما انطوت علي احتقار للفكرة الديمقراطية نفسها باعتبارها شعبوية تناقض سلوك الحكماء, أدركنا إلي أي مدي كانت المثالية الأفلاطونية حاضنة لقيم استبدادية ونزعات هيمنة أبوية بتعبيرات اليوم, ومفاهيم العصر, رغم بريقها المثالي الخادع, والذي ربما كان عصيا علي الكشف في زمانه. وتمثل( مدينة الله) التي دعا إليها القديس أوغسطين في القرن الخامس الميلادي نموذجا لليوتوبيا الدينية للعصور الوسطي الأوروبية, ربما كانت البداية لنزعة الهيمنة السياسية باسم فكرة دينية مثالية, فقد حاول القديس/ المفكر أن يضع فصلا بين المدينة السماوية والمدينة الأرضية, مقدما, كما هو متوقع, السماء علي الأرض مختصرا السماء في الكنيسة التي هي مدينة الله, والأرض في الدولة أو الإمبراطورية التي هي مدينة الإنسان أو ربما الشيطان, تلك التي لا تملك أية سجايا أخلاقية خاصة بها. ومن ثم فإن ما يحدد كونها مدينة الإنسان أو الشيطان إنما هو قدرتها علي العمل في خدمة الكنيسة. هذه النظرة الأوغسطينية للعلاقة بين المدينتين هي التي استخلص منها البابا جريجوري السابع نتائجها النهائية السلبية. كان جريجوري, أحد أخطر البابوات في تاريخ الكنيسة, هو من قام بالتصدي ل' التقليد العلماني' الذي كان يضمن سيطرة العلمانيين علي الكنيسة, وأدي إلي ما عرف باسم' السيمونية'( أي نظام بيع الوظائف الدينية من قبل الدولة/ الإمبراطورية). لقد اعتبر السلطة السياسية, في الأصل, من خلق البلطجية والقتلة, وأن الدولة ليست إلا قابيل الذي قتل أخاه' هابيل' فيما السلطة الشرعية الوحيدة في العالم هي سلطة القساوسة, ولا سيما أسقف روما, نائب المسيح علي الأرض, فأولئك الذين يخضعون لهذه السلطة التي أرستها السماء هم فقط المنضوين في مدينة الرب, وهنا انقلب الوضع لصالح الكنيسة التي أخذت تتلاعب بالدولة, ودخلت أوروبا في النفق المظلم للعصور الوسطي. وثمة أخيرا يوتوبيا إيديولوجية صرفة( شيوعية) بنت أحلامها علي( الاشتراكية العلمية), التي عولت علي قيمتين متطرفتين في الحقيقة: الأولي هي النزعة المساواتية المطلقة. والثانية النزعة العلمية المتطرفة. وكلاهما معا صاغتا نموذج للإنسان أقرب واقعيا إلي( الروبوت), إنسان لا يعبأ بالمشكلات الأخلاقية التي تعني بالخير والشر, لأن قضية الشر فردية, تقوم علي الحرية وتفترض التفاوت الأخلاقي بين الناس, أما اليوتوبيا فكل شيء فيها مخطط تماما علي نحو كلي وجماعي. ولذا يضمحل عالم الإنسان الداخلي الهائل ليتحول إلي نقطة هامشية زائفة, ليست له شخصية, بل مجرد( سيكولوجية) قائمة علي وظيفته في عملية الإنتاج, ليس لديه نفس كاملة تتعذب وتتألم وتندم وتتوب, ولا يحيا حياة كاملة مفعمة بالطموح والأمل, والإخفاق والإحباط, وإنما هو كائن يلعب دورا في بنية كلية شاملة تتجاوزه, مثل ترس صغير في آلة كبيرة تستوعبه وتتجاوزه, إنه في الأخير كائن وظيفي يلعب دورا في( المؤسسة) وليس كائنا إنسانيا حقا يعيش الحياة, فالحياة الحقة هي الحرية, وهو محروم من الحرية. وهكذا نزعت الشيوعية كل ممكنات الحرية لدي الإنسان كي تمنحة حياة( منظمة) خالية من الألم, غير أن المفارقة الكبري أنها زادت من ألمه, بنفس القدر الذي خصمت به من حريته, فكان سقوطها المدوي بعد أن برز خداعها الكلي, ولكن يبقي السؤال: هل كانت الشيوعية هي اليوتوبيا الأخيرة أم أن التاريخ لا يزال حاملا لأوهام أخري قد يقذف بها في وجوهنا يوما ما؟. وفي اعتقادي أن التصورات الإختزالية عن العالم, وعن أدوات التأثير فيه, تلك التي تستبطنها وترفع شعاراتها تيارات الإسلام السياسي, إنما تمثل( يوتوبيا جديدة), تستبدل النزعة المثالية لدي الفكر اليوتويي بالنزعة بالغيبية المرتبطة بالدين, وتهرب من الصراع علي الأرض داخل عالمنا, ولكن ليس إلي عالم جديد ممكن داخل زماننا وعلي كوكبنا كما سعي الفكر اليوتوبي, بل إلي عالم غيبي لا يمكن استدعائه إلي عالم الشهادة/ التاريخي/ الراهن, وإن أمكن ترتيب عالمنا الشاهد علي أساس من اليقين به. وهكذا تمثل تيارات الإسلام السياسي نوعا من اليويتوبيا الرديئة التي تحمل كل عيوب الفكر اليوتوبي الوضعي, وتفتقر, في المقابل إلي جل مميزاته, اللهم عدا اليوتوبيا الشيوعية التي جسدت القصورات ذاتها والمثالب جلها, لأنها انعكست في تجربة عملية وواقعية مفعمة بالاستبداد والوحشية. إن المتأمل للنص القرآني يجد فيه احتراما بالغا وتقديرا واسعا للروح الإنسانية, ولقيمة الإنسان كذات فردية مسئولة عن نفسها, قادرة علي تلقي الرسالة الإلهية وفهمها وممارستها, فعلي أساس هذا التقدير للشخصية الإنسانية تتأسس رسالة الإستخلاف الإلهي علي الأرض في عالم الشهادة, ثم يكون الحساب بالثواب والعقاب في عالم الغيب. وترتيبا علي ذلك, يمكن القول بأن الإسلام الصحيح, كما تكشف عنه الرؤية القرآنية للوجود, إنما يرفض مقولات ومنطلقات الإسلام السياسي كنمط تفكير يوتوبي وخلاصي, عنيف ودموي, يقوم علي تسلط جماعي وروح قطيعية, تسعي لبناء كهانة دينية تعمل بمثابة الحاجز بين الله والإنسان, وكهانة سياسية تعطل نمو الذات الفردية للمسلم الحر, المريد سياسيا والمسئول أخلاقيا. لمزيد من مقالات صلاح سالم