السمّاح عبد الله يحدث أن تدخل مقهى من مقاهى المثقفين فى القاهرة، فتجده، وهو بطبعه قليل الزيارة للقاهرة، يزورها لقضاء المشاوير، ومشاويره هى زيارة جرائد ومجلات بعينها، وهيئتى الكتاب وقصور الثقافة، وربما يعرج على دار الهلال، أما جلوسه على المقهى، فهو من قبيل المصادفات الدراماتيكية، لأنه يفضل عليها مقاهى الإسكندرية العمرانة بالعمال والحشاشين وأصحاب الحكايات الجريحة، كما أنه يفضل الإسكندرية نفسها على القاهرة، تماماً كجميع السكندريين الذين تخنقهم القاهرة، وتمنحهم بلدتهم البراح كله، وأنا من حسن حظي، أننى دخلت مرتين مقهيين فى القاهرة، ووجدته، مرة فى ثمانينيات القرن الماضى بمقهى البستان، ومرة بعد أحداث يناير بمقهى التكعيبة، فى المرة البستانية مر علينا رجل عليه سيماء التعب، وطلب منا أن نعزمه على شاى وسميط، فعزمته، وهو أعطاه خمسين قرشاً، وعندما تركنا ومشى، ظل يتحدث عنه كثيراً، وقال لى: إن هذا الرجل يشبه ابن خالته، وسألني: هل يمكن أن يكون هو؟ إنه يحمل نفس الاسم، وربما يكون من المراغة. وأنا لم أؤكد أو أنفي. فى المرة التكعيبية، كان يشكو لى من محمود قاسم، الذى أخذ المجد الأدبى كله لأنه ترك الإسكندرية وعاش بالقرب من صناعة القرار، رغم أنه فاشل عاطفياً. وعقب: لو أننى فعلت مثله، وعشت بالقرب من صناعة القرار، لأصبحت فى منطقة نجيب محفوظ نفسها، فاستفسرت: وهل سيتطلب الأمر أن تكون فاشلاً عاطفياً؟ قال بتأكيد كبير: ليس شرطاً. لكننى أكدت على هذه الشرطية، وأضفت حاسماً: هذه متلازمة قديمة منذ امرؤ القيس وصولاً لكامل الشناوي. بعد أحداث يناير، أصبح كل واحد من الأدباء رئيساً لتحرير جريدة، فصفحته الفيسبوكية فيها خمسة آلاف صديق غير المتابعين، والمجلات الورقية لا يتحقق لها مثل هذا الرقم من القراء، وهكذا ظهرت الخفايا الحقيقية للكتاب، فصفحتك على الفيسبوك فضاحة لشخصيتك وكاشفة لنواياك، فعرفنا التافهين والمتصابين والنرجسيين، وعرفنا الجادين وأصحاب الكتابة الحقيقية وذوى الأبعاد العميقة، لكن «مصطفى نصر» حل الإشكالية الكبرى التى عانى منها كثيراً، فهو كاتب غزير، وكان طوال الوقت يبحث عن نافذة يطل منها، وهكذا كانت صفحته فى الفيسبوك هى البديل الافتراضى لحلمه القديم، ومع الوقت تحول الافتراض إلى حقيقة، وانتشرت صفحته فى حياتنا الجديدة، ومن خلالها تعرفنا على مصطفى نصر الذى لا نعرفه، وعلى حكاياته مع العمال والزبالين والعربجية، على حى غربال وبحرى والنبى دانيال، على الحشاشين والعاهرات وقطاع الطرق، على سينمات الإسكندرية ويهودها وسفاحيها، والأهم أننا تعرفنا على شخصية مصطفى نصر المتوارية وراء أقنعته التى يطالعنا بها، فعرفنا كم هو طيب وعميق ومُركب، وقرأنا حجم التجارب الإنسانية الُمعقدة التى مر بها ومرت به، كان يكتب كل يوم، واليوم الذى لا يكتب فيه، يعيد نشر ما سبق وأن كتبه من قبل، تماماً كما يليق برئيس تحرير يملك الحق المطلق فى نشر ما يريد نشره بديكتاتورية رؤساء التحرير، لكن أجمل ما كان ينشره، هو ما يتعلق بالضعف الإنساني، وقد كان ماهراً وهو يحدثنا عن لحظاته تلك، وكان قادراً على أن يجعلنا نقف على أطراف أصابعنا من روعة الحكي، كان قد تحرر من فكرة المظلومية التى تطل من سطوره بين الحين والحين، وكان فرحان وهو يقدم لنا رقصته الرشيقة صباح كل يوم، وكأنه على خشبة مسرح هو فيه المؤلف والممثل والمخرج، يقع أحياناً فى أخطاء النحو واللغة والإملاء، ولا يتيقن أحياناً من صدق المعلومة، ولا تعنيه فكرة الاستئناس بالمراجع لتوثيق الفكرة التى يطرحها، يعتمد على ذاكرته، وعلى حدسه، وعلى صدق الذكريات التى تكون خوانة أحياناً، وهكذا أصبحت صفحته هى الخبزة اليومية التى نجلس إلى مائدته من أجلها، وكأننا ننتظرها بجوع كبير، وبنهم أكبر للفن والحب والحياة. من أكبر مآسى مصطفى نصر أنه لم ينجح أبداً فى أن يدخل مجال السينما، هو عاشق للسينما منذ طفولته، كثيراً ما حدثنا عن سينمات الإسكندرية، وعن هذا الفضاء الفضى الساحر الذى يُخلب الوجدان بنسوته الباهرات ورجاله الوسيمين وحكاياته البهيجة، والمخرج عاطف الطيب قرأ روايته «الجهيني» وأعُجب بها جداً، وقرر أن يحولها لفيلم سينمائي، واشتغل عليها السيناريست مصطفى محرم والفنان محمود ياسين قرر إنتاجها، واشتراها منه بالفعل، وكان الوسيط بينهما هو الريجيسير الشهير حبشي، وانتظر مصطفى نصر الإعلان عن عرض الفيلم، سنة وراء سنة، وعقداً وراء عقد، ولم يحدث شيء. والمخرج هشام أبو النصر أعُجب بروايته «جبل ناعسة» واتصل به ليستأذنه فى أن يخرجها للسينما، واتفقا على التفاصيل كلها، والمخرج اشترط أن يزور حى جبل ناعسة ليتعرف على حركية الواقع لينقلها بواقعية المخرج المحترف، وزارها بالفعل، وكان يسجل بكاميرته الفوتوغرافية عدداً من الزوايا التى تصلح للكادرات السينمائية، وانتظر مصطفى نصر الفيلم سنواتٍ طويلة ولم يحدث شيء. وروايته «الهماميل» التى أشاد بها نجيب محفوظ كأهم رواية قرأها وقتها، طلبها أكثر من مخرج ليحولها لمسلسل تليفزيونى من ثلاثة وثلاثين حلقة، وجرت اتصالات هاتفية كثيرة بينه وبين المسئولين عن الدراما فى التليفزيون المصري، حتى تم الاتفاق على كل شيء تقريباً، ولم يتبق غير كتابة العقد، فتم تحديد موعد بينه وبين السيد «يوسف عثمان» رئيس قطاع الإنتاج بمدينة الإنتاج الإعلامي، ووصل الأمر لحد أن ترك المسئول الكبير لمصطفى نصر حرية اختيار المخرج والسيناريست الملائمين للعمل، فاختار فايز غالى سيناريست، ومحمد السيد عيسى مخرجاً، تم كل شيء على أجمل وأكمل ما يكون، وانتظر سنواتٍ وسنوات ولم يحدث شيء، حتى ان بعضاً من مخرجى المسرح فى الثقافة الجماهيرية، اتفقوا معه على مسرحة بعض رواياته، وانتظر سنواتٍ كثيرة جداً، ولم يحدث شيء. حالة المظلومية التى كان يعلنها بين الحين والحين، كانت فى كثير من الأحيان حقيقية، فلا شك أنه كاتب فاتن، والقائمة القصيرة لجوائز الدولة التقديرية، ضمت اسمه أكثر من مرة، وكان فى أمس الحاجة للحصول عليها، وقد حكى لى من قبل كيف أن الشاعر السكندرى عبد المنعم الانصارى تم إبلاغه بحصوله على جائزة الدولة التشجيعية، فعزم جميع أصدقائه على جاتوه سكندرى وبيبسي، وأقام حفلة تليق بأول شاعر سكندرى يحصل على جائزة الدولة، وفى صباح اليوم التالى أعلنت الجائزة التى فاز بها الشاعر سعد درويش، فاكتأب عبد المنعم الأنصاري، ومات. والحقيقة أنه منذ إعلان جوائز الدولة فى يونيو الماضى وعدم فوز مصطفى نصر بها، رغم تكهناتنا كلنا بأنها ذاهبة إليه، أصابته بغصة مريرة فى حلقه، حتى انه لأول مرة يظهر على صفحته غاضباً بشدة، ويقول بصراحة ووضوح كنت أتمنى الحصول عليها من أجل أبنائي، فهل أصابه الاكتئاب حتى مات، كما حدث للشاعر عبد المنعم الأنصاري؟ قليلة جداً المرات التى قابلت فيها مصطفى نصر، مرتين فى مقهيين قاهريين، وغير مرة فى مكتبى فى هيئة الكتاب، لكنه ترك فى نفسى إحساساً هائلاً بكبر الإنسان وجلاله ومحبته، كان على ضخامة جسمه رقيقاً جداً، وضحوكاً وابن نكتة، وكانت جلسته واحة من الهناءة والصفاء والسكينة. فى زيارته الأخيرة لى فى مكتبى بهيئة الكتاب، سألني: الرجل المتعب الذى قابلناه فى مقهى البستان القرن الماضي، وعزمته أنت على شاى وسميط، وأعطيته أنا خمسين قرشاً، هل تظن أنه ابن خالتي؟ وأنا لم أؤكد أو أنفي. تخوننى أصابعى وأنا أكتب عنك يا مصطفى، والألف كلمة التى طلبها منى ياسر عبد الحافظ لكى ينشرها فى رحيلك زادت بعض الشيء، وحكاياتك كثيرة، ومحمود قاسم حزين جداً لرحيلك، وشعبان يوسف كتب لك رسالة يقول فيها (ذنبك فى رقابنا جميعاً أيها الحبيب، ونعتذر لك عن عجزنا)، وأصدقاؤك وأشباهك من رؤساء التحرير الافتراضيين أقاموا لك سرادقاً كبيراً ممتداً على طول الفضاء الأزرق، فاذكرنا أيها الحبيب، اذكرنا حتى نلقاك.