مصطفى نصر روائي يمتلك سحر الحكي، يلتقط مفردات المألوف والعادي لكنه يعيد صياغته وتقديمه عبر حكايات مدهشة، في أولى رواياته "الصعود فوق جدار أملس" عبر عن مرارة هزيمة 1967، ولم تصدر الرواية إلا في عام 1977، بعدها توالت رواياته ومجموعاته القصصية ونصوصه المسرحية لكنه بقى رهين الظل عقودا، فظل يعمل بدأب عاشق لا ينتظر من محبوبه شيئا، فلم يوهن التجاهل عزمه، واستمر قابضا على قلمه يبدع لقرابة نصف قرن حتى أتته الشهرة مع روايته الأخيرة "يهود الإسكندرية". لست مؤرخا وكانت شخصية اليهودى قد ظهرت عنده سابقا في رواية "إسكندرية 67"، وينفي الروائي مصطفى نصر أن يكون تكرار ظهور تلك الشخصية لديه وتخصيص رواية تطول لتشغل 552 صفحة عنها نتج عن تأثر ما بموجة أو هوجة الكتابة عن اليهود التي راجت في العقد الأخير، ويقول: "اليهود كعادتهم سيطروا على جزء كبير من الاقتصاد المصري، وأثروا في الفن، فمخرج مثل توجو مزراحي أسهم في بناء الفن السينمائي في مصر. هذا غير نجوم السينما والموسيقى اليهود، مثل داود حسني وزكي مراد وابنته ليلى وابنه منير، وكان لليهود دور في الرياضة المصرية، فقد كان في الإسكندرية وحدها ثلاثة نوادٍ رياضية: المكابي والإسرائيلي وقطاوي. كما أن دور الصهيونية العالمية في قيام دولة إسرائيل، أثر على مصر، فقد أيده بعض اليهود، وقاومه البعض الآخر. وفي انتخابات النوادي الرياضية اليهودية، كان انقسامهم يصل لحد التشابك بالأيدي. وقد تناولت الشخصيات باعتبارها سكندرية وليس لمجرد كونها يهودية، وقد سبق أن كتبت عن فناني الإسكندرية، وأحاول – الآن – أن أتناول أبطال الرياضة السكندريين، والفنانين التشكيليين، وكتبت عن سفاحي الإسكندرية، وليس من المعقول ألا أكتب عن جماعة كان لها شديد الأثر في مدينتنا، فمازالت شوارع مدينتنا تحمل أسماء يهودية". ويذكر مصطفى نصر أنه قضى سنوات منحة التفرغ التي حصل عليها من 2002 وحتى 2005 في كتابة الرواية التي خطط لها أن تكون ثلاثية، تصدر في ثلاثة أجزاء فقد لا يقبل القارىء على رواية أجيال طويلة، لذا قرر تقسيمها بحيث تدور أحداث الجزء الأول في فترة الوالي سعيد الذي شجع اليهود لكي يأتوا إلى مصر ويتاجروا فيها. والجزء الثاني في فترة الحرب العالمية الثانية وخوف يهود الإسكندرية من قوات رومل التي وصلت إلى مشارف العلمين، إلى أن أصدر الملك فاروق أمراً ملكياً بنقلهم إلى خارج الإسكندرية. أما الجزء الثالث، فيتناول ما بعد اتفاقية كامب ديفيد. ويضيف الروائي: "في كل كتاباتي أعلن وبصوت مرتفع إنني لست مؤرخا – حتى عندما أكتب عن شخصيات فنية: سينمائية أو غنائية، أقول يا عالم أنا لست مؤرخا. وسئلت هذا السؤال كثيرا: هل كل ما في الرواية من حقائق حدث فعلا، وأجيب لقد اعتمدت على ثوابت تاريخية لا أملك تغييرها – مثل دور اليهود الإقتصادي في مصر منذ عصر الوالي سعيد – ومرض الوالي سعيد الذي أدى لانبعاث روائح كريهة من جسده يصعب احتمالها – وتواريخ الحرب العالمية الثانية واتفاقية السلام – لكن كل التفاصيل الصغيرة والشخصيات من وحي خيالي وهي تصنع أسطورة فنية لا حقيقة تاريخية". لكل إسكندريته إذا كان مصطفى نصر ومجايلوه من روائيي المدينة كتبوا عن المدينة التي عاشوها وعاشت فيهم، فإن كتابا غيرهم كتبوا عن إسكندرية أخرى، عن إختلاف صور المدينة لدى كل فريق؛ يقول نصر "حي بحري هو أهم حي في اسكندريتنا، وأستطيع أن أقول إن أي سكندري لا بد أن ينتمي إليه حتى لو لم يسكنه، والإسكندرية بالنسبة لمصر تمثل حي بحري للسكندريين، فكل المصريين مرتبطين بالإسكندرية حتى لو لم يقيموا فيها، معظم شعراء مصر كتبوا عنها، ومعظم الكتاب كتبوا عنها، لكن كتابة أهلها تختلف. فلورانس داريل لم يصور الحياة في الإسكندرية، بقدر ما صور حياة الجاليات الأوروبية التي تعيش فيها، وكل أبطال نجيب محفوظ في رواياته عن الإسكندرية، جاءوا من خارج الإسكندرية. فهو لم يقدم شخصية سكندرية واحدة ذات ملامح سكندرية واضحة، وهذا ذكاء من نجيب محفوظ، ففي ميرامار، مثلا، كل سكان البنسيون – جاءوا من خارج الإسكندرية – فلكل اسكندريته وللإسكندرية عالم سري لا يعرفه إلا أهلها الذين نشأوا وعاشوا فيها، لذلك فصورتها الحقيقية رسمتها أقلام روائييها وليس سواهم. أما اسكندريته هو فيقول عنها "أنتمي لأصول صعيدية، وعشت في الإسكندرية والصعيد معا، لكن الإسكندرية الأقرب إلى قلبي، كما أنني بطبيعتي – محب وميال لقراءة التاريخ، فقرأت تاريخ الإسكندرية، بل اتصلت بأساتذة التاريخ الحديث في آداب الإسكندرية". ويضيف "أنا لم اختصر الإسكندرية في حي غربال كما قال البعض – فقد كتبت أكثر من رواية عن أحياء سكندرية أخرى – فروايتي جبل ناعسة تدور في منطقة تابعة لحي كرموز – وروايتي الهماميل تدور في منطقة تابعة لحي اللبان – وروايتي الإسكندرية 67 تدور في حي بحري، وأزعم بأنني أعرف حي بحري أكثر من بعض سكانه، لكن حي غربال هو الأقرب إلى قلبي – والمنطقة التي أكتب عنها لم أسكنها قط، لكن جدتي كانت تسكنها، ومازلت للآن أحتفظ بأصدقائي فيها. وهي كنزي الذي أعتز وافتخر به، ولا أمل من الكتابة عنه. كتبت في روايتي ليالي غربال عن نشأة المنطقة وتطور الحياة فيها وعادات وتقاليد سكانها، وتأثير قيام ثورة يوليو 1952 عليها. ويضيف الروائي: في أولى رواياتي "الصعود فوق جدار أملس" أردت أن أعبر عن مرارة هزيمة 1967، وفي "الجهيني" ناقشت أزمة الديمقراطية من خلال أول انتخابات جرت بعد الثورة في 1957، وفي "جبل ناعسة" تحدثت عن الكتاب المفروضين علي الساحة الثقافية. وفي "الهماميل" نبهت إلى ما قد يحدث من سلبيات الانفتاح. وفي "اسكندرية 67" تحدثت عن الفشل الإسرائيلي في تدمير بوارج مصرية في يونيو 1967، وفي "سينما الدرادو" ربطت بين ما يحدث في الحياة وما يحدث في عالم السينما، وهكذا في كل أعمالي رصدت تحولات المدينة لذلك فأنا حزين لما آلت إليه الأمور في مدينتي وهي أجمل وأهم مدينة في العالم. أهلها يمتازون بالرقي والتحضر، الجاليات الأجنبية جعلت شعبها محباً للفنون. ورث شعب الإسكندرية من أجداده السكندريين القدامى، القدرة على السخرية. كل الساخرين سكندريون: أحمد رجب وجلال عامر وغيرهما. المساليب وعن خروجه روائيا من فضاء الإسكندرية لمرة وحيدة حينما كتب رواية "المساليب" يقول: جاء والدي من بلدته "المراغة" للإسكندرية وتزوج من "مراغية" مثله – كما جاء الكثير من عائلتي رجال ونساء، فعشت الصعيد مع الإسكندرية؛ خاصة أنهم سكنوا منطقة كل سكانها – تقريبا – من بلدتهم، ماتت أمي وأنا صغير، فعوضني الله بثلاث أمهات: جدتي لأمي التي عشنا في بيتها إلى أن تزوج أبي، ولم تتخل عنا طوال حياتها، ثم أختي التي تكبرني بعامين، فقامت بدور الأم الحنون، وزوجة عمي التي أحبتني وأخذت منها حكايات ومعلومات ثرية عن الإسكندرية والصعيد ومنها حكاياتها عن "المساليب" ونوادر نسائهم، وهم يشبهون الغجر المتواجدين في بلاد كثيرة من العالم، ويوجد كثيرون منهم في مصر خصوصا في قرى الوجه القبلي، ومن خلالهم وظفت رؤيتي التي أردت توضيحها. والمساليب كان يعرفهم شاعر العامية عبدالرحمن الأبنودي، وأخذ السيرة الهلالية عن أحد رواتهم، فالغناء والموسيقي من اهتماماتهم. فهم فئة غير مجهولة وأذكر أن الروائي عبدالوهاب الأسواني عندما علم بأننى كتبت هذه الرواية. قال لي: أنت سبقتني فقد كنت أنوي أن أكتب عنهم. سينما ألدورادو وعن الحضور اللافت للسينما في رواياته، يتذكر نصر: نشأت في حي شعبي فقير، حتى مقاهيه لم تستطع أن تمتلك التليفزيونات، وهواة مشاهدة مباريات الكرة، كانوا يذهبون لشارع إيزيس – أقرب شارع رئيسي لحينا – لمشاهدة هذه المباريات في مقاهيه، وكانت السينما، خاصة سينمات الدرجة الثالثة – هي المتنفس لنا، فقد كانت تذكرتها بتسع مليمات، وكنا نجلس متجاورين على دكك خشبية. شاهدت في هذه السينمات أفلاما، قبل أن أتعلم القراءة والكتابة. فتغلغلت السينما في كل أعضاء أجسامنا. وظفت في كتاباتي تقنياتها، مثل الفلاش باك الذي استخدمته بجودة – ولولا السينما ما استطعته، والكثير يحسون بقدرتي على تقديم مشاهد في قصصي ورواياتي وكأنهم يشاهدون فيلما سينمائيا، وكنت أرغب في أن أطلق على روايتي "سينما الدورادو" اسم "بحب السينما"، لولا أن فيلماً بهذا الاسم عرض قبل نشر الرواية. العقاب بالتجاهل لا ينفي مصطفي نصر أنه دفع ثمنا باهظا لبقائه في الإسكندرية وعدم نزوحه للقاهرة، يقر بذنبه قائلا: "لقد تعاملت مع المجتمع الأدبي بطريقة خاطئة، ركزت على الكتابة على أمل أن تفسح – هي – المجال لي وتجعلني معروفا، واكتشفت بعد وقت متأخر أنه لا بد من وجودي شخصيا، كما أن بعدي عن القاهرة أبعدني عن المجتمع الأدبي . ويضيف مدللا على ذلك "فقد أثنى صديق على كتاباتي أمام أستاذ للأدب فقال: أعلم. لكننا لا نراه في ندواتنا بالقاهرة. ثرت غاضباً: المفروض أن يكتفي بقراءة كتاباتي". ويستكمل بأسى: كتب الراحل جمال الغيطاني في مقالة في أخبار الأدب عن سبب عدم نيلي المكانة التي رآني أستحقها، وأجاب بقوله "أكيد بقاؤه في الإسكندرية وبعده عن القاهرة – مركز الضوء الثقافي – هو السبب". (خدمة وكالة الصحافة العربية)