لا شك عندي أن مصر لعبت دورا كبيرا في فكر أفلاطون؛ فالكثير من عناصر فلسفته الميتافيزيقية منها والسياسية والاجتماعية بل والتربوية والفنية إنما هي مستقاة من فكر مفكريها ومن إبداعات علمائها وفنانيها ومما ترك بصماته واضحة علي حياة أهلها ونظمهم السياسية والاجتماعية والتربوية. لقد عايش أفلاطون كل ذلك وربما قرأ نصوصا كثيرة أثناء تواجده في مصر لم نعرف عنها حتي الآن شيئا رغم أنه أشار صراحة وبوضوح إلي بعض ما نقله عنها وتعلمه منها. ولعل أحدهم يتساءل الآن: كيف يتسني لك تقرير ذلك بينما شكك بعض المؤخرين إلي اليوم في زيارة أفلاطون المزعومة لمصر القديمة؟!أولاً: زيارة أفلاطون لمصر: الحقيقة أن زيارة أفلاطون لمصر وأخذه عن فلاسفتها وعلمائها ونظامها التعليمي لم يعد موضع شك الآن من غالبية المؤرخين حتي لدي أشد المؤمنين بالمعجزة اليونانية؛ فقد كانت الرحلة إلي مصر ميسورة وسهلة في ذلك الزمان، كما كانت تكلفتها ضئيلة جداً، فضلا عن أن مصر كانت قد جذبت اليونانيين إليها منذ زمن بعيد، حيث إن زيارة كل فلاسفة اليونان من طاليس إلي فيثاغورس وغيرهما ثابتة بالنقوش الأثرية القديمة وبكتابات المؤرخين اليونان القدامي وعلي رأسهم هيرودوت، وكذلك وفقا لما أخبرنا به المؤرخون اليونان الأوائل لفلسفة الطبيعة عند المصريين القدامي كما ورد عن مانيتون، وكما ورد لدي هكتايوس في مؤلفه عن الفلسفة المصرية وقد رجح برييه أن تكون هذه الزيارة لأفلاطون إلي مصر قد تمت بعد وفاة سقراط بتسع سنوات أي بين عامي 390و 388ق.م، وقد أطلق علي هذه الزيارة سفرة أفلاطون الكبري الأولي نتيجة لإعجابه بماضيها الجدير بكل تقدير ولاستقرارها السياسي الأمثل وربما يتسق مع هذه الرواية أن معظم المؤرخين يرون أن زيارة أفلاطون إلي ميجارا قد تمت عقب وفاة سقراط مباشرة ويري بعضهم أنه قد عاد إلي أثينا بعد ذلك، وإن كان آخرون يؤكدون أنه ربما سافر من ميجارا إلي مصر مباشرة ويخمنون أنه كان متواجدا في أثينا من بين عام 395-391ق.م. وكل هذه الروايات رغم اختلافها عن بعضها في التفاصيل تكاد تتفق وتتوافق مع رواية برييه بأن زيارة أفلاطون إلي مصر كانت بين عامي 390 و388ق.م. وقد قضي أفلاطون في مصر علي الأرجح حوالي ثلاث سنوات، حيث إنه قد زار بعد ذلك وفي حوالي 387 جنوب إيطاليا حيث التقي هناك بالفيلسوف الفيثاغوري والقائد السياسي أرخيتاس وتعرف منه علي التعاليم الفيثاغورثية وقد رجح معظم المؤرخين ذلك بناء علي ما ورد بالخطاب السابع لأفلاطون وكان آنذاك في حوالي الأربعين من عمره. إذن لقد أجمع الكثير من المؤرخين القدامي والمحدثين علي زيارة أفلاطون لمصر، فهو قد نزح إليها كما نزح إليها الكثير من فلاسفة العالم القديم علي حد تعبير هنري توماس، وقد ثبت من كتاباته نفسها اعترافه بفضل المصريين عليه كرواده وأساتذته في كل ما هو سام من عمل أو فكر إن الحقيقة التي لا مراء فيها ولا يمكن الاختلاف عليها أنه قد ورد ذكر مصر والمصريين في أكثر من عشرين موضعا في محاورات أفلاطون المختلفة، وهاكم القائمة التي أعدها جويت في فهرسه الذي نشره في ختام ترجمته الإنجليزية لمحاورات أفلاطون. إن القائمة تشتمل علي إحدي عشرة محاورة من محاوراته ذكر فيها مصر والمصريين في حوالي ثلاثة وعشرين موضعا مختلفا في هذه المحاورات. وفي الحقيقة أن حديث أفلاطون المباشر عن مصر في أهم هذه المحاورات وخاصة محاوراته الثلاث: فايدروس وطيماوس والقوانين هو حديث من شاهد وعاش في مصر وليس فقط من سمع عنها ممن زاروها أو من قرأ عنها في كتابات السابقين عليه. وعلي أي حال فالسؤال الآن بعد أن تأكدت لنا زيارة أفلاطون لمصر وأثبتت كتاباته وما ذكره فيها عن مصر، السؤال هو: ماذا كانت صورة مصر لديه كما كشفت عنها كتاباته المختلفة وخاصة هذه المحاورات الثلاث التي ورد فيها ذكر مصر أكثر من مرة؟! ثانياً: صورة مصر في المحاورات الأفلاطونية: (أ) مصر هي منبع الحكمة وأصل الحضارة: في نهاية محاورة فايدروس والتي يرجح أنها من المحاورات المتأخرة التي ربما كتبها أفلاطون بعد محاورتي المأدبة والجمهورية، وإذا كانت المأدبة قد كتبت فيما بين عام 385-380ق.م فيرجح أن تكون فايدروس بعدها بحوالي عشر سنوات، ويرجح البعض أنها قد كتبت بالفعل حوالي علي 370ق.م. أقول أنه في نهاية هذه المحاورة التي تشعبت موضوعاتها البحثية حيث طرح فيها المتحاورون موضوعات عدة فتحدثوا عن الحب تاره، وعن النفس تارة أخري وعن الخطابة تارة ثالثة، نجد أن أفلاطون يقحم علي الحوار وفي إطار تساؤلاته عن قيمة الكتابة متي تكون حسنة ومتي تكون سيئة وما هي الطريقة الجيدة للكتابة، يقحم رواية يدعي أنها متوارثة بين الأجيال منذ القدم عن أصل الكتابة ومخترعها فيقول علي لسان سقراط »لقد سمعت رواية تروي أنه قد عاش بمصر بالقرب من »نقراطيس« أحد الآلهة القديمة في تلك البلاد، وكانوا يرمزون لهذا الإله بالطائر الذي يسمونه كما تعلم »أبيس«، أما الإله فإن اسمه »تحوت« وهو أول من اكتشف علم العدد والحساب والهندسة والفلك وكذلك لعبة النرد والزهر وأخيرا اكتشف حروف الأبجدية«. إذن فإن مصر فيما يروي أفلاطون لنا هي مهد اختراع الكتابة حيث تعود إلي الإله تحوت إله الحكمة والمعرفة، إله الكلمة الإلهية والكاتب الأعظم عند المصريين والذي كان يعيش بالقرب من نقراطيس وليس هذا فقط بل إنه من اكتشف أيضاً عدة علوم منها علم الحساب والعدد والهندسة والفلك وهي العلوم الرياضية التي كان أفلاطون يعتبرها في نظريته التربوية التمهيد الضروري لدراسة الفلسفة وهذا ما جعله يكتب علي باب أكاديميته الفلسفية »لا يدخل علينا إلا من كان رياضياً«. وجدير بالذكر أن تحوت هو إله القمر الذي كان يتخذ في التراث المصري القديم هيئة طائر أبي قردان وقد عبد في عدة أماكن بمصر وكان المركز الرئيسي لعبادته هو مدينة هرموبوليس وقد سيطر في التراث المصري القديم بالفعل علي كل ما يتعلق بالثقافة الذهنية مثل اختراع الكتابة وفصل اللغات وبالتالي تسجيل الأحداث التاريخية والقوانين، كما كان حامي الكتابة وكان الإله المكلف بالحسابات والمسيطر علي الحروف أي كان يحسب الزمن والسنوات والتقويم وأشرف علي تقسيم الزمن. وقد أكد أفلاطون كل ذلك فيما نقلنا عنه من محاوره فايدروس كما أكده كذلك وبصورة أكثر تفصيلا في إطار مناقشته قضية الحكمة واللذة في علاقتها بمعني الحد واللامحدود أو الواحد واللا محدود مناقشة عددية وموسيقية في محاوره »فيليبوس« حيث يقول علي لسان سقراط: بحالما لاحظ إله ما أو إنسان إلهي ما... ورواية يتناقلونهانها في مصر تقول أن ذاك الإنسان هو رجل اسمه ثفت (أو ثوت) ، فذاك الرجل هو أول من لاحظ أن الأحرف الصوتية في لا محدوديتها، ليست واحدة بل كثيرة ثم عاد ولاحظ أن من الأحرف ما لاحظ له من الصوت بل له جرس ونبرة وله أيضا عدد ما، ثم فرز نوعاً ثالثا من الأحرف وندعوها الآن لا صوتية أو خرساء وبعد ذلك فصل الأحرف اللاجرسية واللاصوتية واحدا فواحدا، وكذلك الأحرف الصوتية والأحرف الوسطي علي النمط عينه حتي أدرك عددها وأطلق علي كل منها وعلي مجموعاتها اسم عناصر وإذ رأي أن أحدا منا لا يستطيع أن يتعلم حتي حرفا واحدا لذاته وفي ذاته إذا عزل عن مجموعة الأحرف، وإذ فكر أن هذا الرباط بين الأحرف هو واحد، وأنه يجعل منها وحدة من بعض الوجوه أعلن أن لها فنا واحدا أطلق عليها علم القواعد (عم الأحرف). والحقيقة التي تتبدي لنا من ذلك أن مصر ممثلة في تحوت واكتشافاته المختلفة كانت تمثل مصدرا للإلهام وللحكمة الأفلاطونية سواء فيما يتعلق بأصل الكتابة ودورها في تخليد الحكمة أو مسخها كما بدا في النقاش الذي دار بين الملك المصري القديم تاموس وحكمة وبين تحوت؛ حيث أن المبدع تحوت حينما ذهب إلي هذا الملك ليعرض عليه اكتشافه لحروف الأبجدية قائلاً: هاك أيها الملك معرفة ستجعل المصريين أحكم وأكثر قدرة علي التذكر، لقد اكتشفت سر الحكمة والذاكرة. فكان رد هذا الملك الفيلسوف عليه قائلا: يا تحوت يا سيد الفنون الذي لا مثيل له، هناك رجل قد أوتي القدرة علي اختراع الفن، وهناك رجل غيره هو الذي يحكم علي ما يجلبه هذا الفن من ضرر أو نفع لمن يستخدمونه والآن وبوصفك مخترع الكتابة، أراك قد نسبت لها عكس نتائجها الصحيحة بدافع تحيزك لها؛ ذلك لأن هذا الاختراع سينتهي بمن يستعملونه إلي ضعف التذكر لأنهم سيتوقفون عن تمرين ذاكرتهم حين يعتمدون علي المكتوب، وبفضل ما يأتيهم من انطباعات خارجية غريبة عن أنفسهم وليس بما يباطن أنفسهم، إنك لم تجد علاجا للذاكرة ولكن للتداعي. أما بخصوص الحكمة فإن ما قدمته لتلاميذك ليس هو الحقيقة بل مظهرها؛ فهم حين يتجرعون بفضلك المعلومات بغير استيعاب يبدون قادرين علي الحكم في كل شيء بينما هم في معظم الأحيان جهله لا يمكن تحملهم ومن ثم يكونون أشباه الحكماء من الرجال لا الحكماء«. لقد أكد أفلاطون وعلي لسان سقراط أيضا بعد أن روي هذا الحوار الرائع بين مكتشف الحروف والكتابة المبدع المصري تحوت وبين الملك الفيلسوف تاموس حول جدوي هذا الاكتشاف الذي غير حياة البشرية وساهم في تسجيل معالم الحضارة الإنسانية منذ ذلك التاريخ وحتي الآن، أقول لقد أكد أفلاطون أنه يوافق علي ما قاله مواطن طيبة بخصوص هذا الاكتشاف للكتابة، »إذ أن كل من يظن أنه ترك بالكتابة فنا أو من يظن أنه قد تلقاه معتقداً أن الكتابة تنطوي علي تعليم مؤكد واضح فلا شك أن مثل هذا الشخص هو رجل علي قدر كبير من السذاجة وأنه لابد جاهل بنبوءة آمون إذ سيتصور أن البحث المكتوب بالقياس إلي من يعرف هو أكثر من مجرد وسيلة لاسترجاع ماقد سبق علمه«. إن أفلاطون أميل إلي رأي الملك الذي يقلل من شأن هذا الاكتشاف فيما يتعلق بالمعرفة والحكمة، فهو ليس مناط المعرفة بل هو مجرد تجميد لها في نص مكتوب. ومن ثم لا ينبغي أن تتوازي قيمة كتابة نواتج الحكمة والمعرفة مع قيمة تسجيلها، فالأهم لدي الإنسان الواعي هو أن يعرف وأن يلقن معارفه وحكمته لغيره شفهياً وهو حينما ينقلها بين تلاميذه المختلفين وأجيالهم شفهيا يجددها وتتجدد وتتطور بتطور فكره وعبر مناقشاتهم بينما لو سجلها مكتوبة مستفيدا من هذا الاكتشاف الخطير - اكتشاف الحروف وعلم الكتابة فإنها تتجمد عند اللحظة التي سجلت فيها. إن أفلاطون كأستاذه سقراط ممن يؤمنون إذن بتجدد المعرفة وبجدوي الحوار والمناقشة رغم أنه قد مجد هذا الاكتشاف المصري الخطير للكتابة باعتبارها قد أصبحت سر أسرار الحفاظ عليها ووعاء ضرورياِ لها؛ إنه علي الرغم من أن العقل المشحون بالمعرفة وتجددها عبر تناقلها وتجددها شفهيا عند أفلاطون خير من العقل المشحون بالمعلومات التي يحفظها عبر النص المكتوب الذي تجمد عند لحظة معينة إلا أنه بلا شك قد قدر لهذا الاكتشاف الخطير اكتشاف الحروف والكتابة أنه نقطة البداية العظمي للحضارة الإنسانية وبداية تسجيل المنجزات الحضارية والكاشف عن مدي تطورها عبر العصور، فضلا عن أن هذا الاكتشاف الخطير هو نقطة البداية لاكتشافات أكثر تطورا وعمقا فمن علم الحروف أو علم الكتابة إلي علوم العدد والحساب والهندسة وكذلك علم الموسيقي وعلم الأصوات وعلم الفلك، وهذه العلوم جميعا إنما تمثل عند أفلاطون الأساس الذي يستند عليه ويحلل من خلاله معني الخير والشر، والعلاقة بين اللذة والحكمة، والعلاقة بين الحد واللامحدود، إننا نستطيع أن نقول بثقة وبدون خوف الوقوع في الزلل أن الفقرة التي أوردناها من قبل في محاوره فيليبوس« تكشف بما لا يدع مجالا للشك أن هذا النقاش الذي تطور عبر محاورات أفلاطون السابقة حتي كتابه فيليبوس وهي من المحاورات المتأخرة جداً بين كتابات أفلاطون والتي يتبدي فيها آخر تطور لنظرية المثل وآخر تطور لنظريته الأخلاقية والكاشفة عن موقفه النهائي عن الخير الأقصي للإنسان باعتباره مزيجا من حياة اللذة وحياة الحكمة. أقول إن هذا النقاش قد استفاد فيه أفلاطون كثيرا من زيارته لمصر ومن معرفته بالكثير من أسرار الفكر المصري القديم الذي يمثل أصلاً من اصول المثالية الأفلاطونية. (ب) مصر هي بلد النيل والتاريخ العريق والحافظة لتاريخ العالم القديم: ويتوقف أفلاطون طويلا عند مصر وحضارتها والعلاقة بين الحضارة المصرية والحضارة اليونانية في محاورة طيماوس، تلك المحاورة التي يمكن اعتبارها إلهاما مصريا خالصا لأفلاطون فيما ورد فيها من نظريات فلسفية حول أصل العالم وكيفية الخلق وتركيب الكائنات الحية ومكانة النفس في الطبيعة الإنسانية. إن مجرد القول بأن بعض التعابير التي وردت فيها تشي بأنه ربما طالع نصوصا لهيرودوت متعلقة بمصر لا يعني مطلقا أنه قد اكتفي بما قرأ من هيرودوت أو بما سمع من غيره حول مصر؛ فهيرودوت كان يهتم في تأريخه بالذات بالمقارنة بين معتقدات وعادات المصريين ومعتقدات وعادات اليونانيين وإبراز مدي التشابه وقدر الاختلاف بين هؤلاء وأولئك ومدي تأثر اليونانيين بما شاهده هو نفسه في مصر علي جميع الأصعدة وفي مختلف مجالات الحياة. لكن أفلاطون فيما يوروده هنا في طيماوس يتجاوز ذلك بكثير حيث يلتقط عند اليونانيين القدامي وعند معاصري صولون من أهل مصر أوجه شبه من شأنها أن تفرض فكرة تلاحم قديم بين الشعبين وقد اعتمد في ذلك فيما يقول البيرريفو علي ملاحظاته الشخصية، وحاول أن يؤكد صحة روايته عبر التأكيد علي تاريخيتها مستندا في ذلك علي استشهاده برواية صولون كبير مشرعي اليونان وكذلك مستندا علي روايات وشهادات كهنة مصر القديمة الذين ورد ذكرهم في ثنايا رواية صولون نفسه. يبدأ أفلاطون المحاورة بتمهيد بين المتحاورين يفضي إلي رواية صولون الذي زار مصر وتوقف فيها خاصة عند مدينة كبيرة هي مدينة سايس (صان الحجر) التي خرج منها الملك أمزس (أو أحمس) الذي كان ينتمي إلي السلالة أو الأسرة السادسة والعشرين، وأخذ يتعرف علي كهنتها ومشايخها الأكثر خبرة وحاول أن يدفعهم دفعا لأن يقصوا عليه جانبا من الأحداث الماضية السحيقة التي مرت ببلاده، وفيما بدأ أحدهم الحديث معه حول الإنسان الأول ونسله وما واجهوه من أحداث جسام وكيف نجوا من الطوفان، قاطعه أحد كهنة مصر القديمة وكان طاعنا في السن قائلاً: »صولون يا صولون، أنتم الهلين تلبثون دوما أطفالا وليس من شيخ هليني ... أنتم جميعكم فتيان بأرواحكم، إذ لا تحفظون فيها زعماً قديما مستمرا من نقل أو تلقين عتيق ولا علما مغبرا مع تراخي الزمان. لقد لخص الكاهن المصري هنا لصولون الفرق الكبير بين الإنسان اليوناني وبين غيره من البشر؛ فهو إنسان مغوار مقامر يتمتع بروح الشباب الدائم وأفكاره دائما متجددة ولا تعتمد علي التقليد ولا تهتم بالنقول، وفوق كل ذلك وبعده لا يحتفظ بذاكرته بالأحداث الماضية، إن هذه الخصائص التي عبر عنها هذا الكاهن المصري واختص بها الإنسان اليوناني استهدفت من جانب آخر أن اليونانيين بالنسبة إلي المصريين يعدون أطفالا في مهد حضارتهم رغم أنه أكد في الفقرة التالية علي عراقتها هي الأخري، حيث يقول مستكملا حديثه مخاطبا صولون: »لا تعلمون أن أبهي وخير أمة أخرجت للناس ظهرت عندكم وفي بلادكم، ومنها انحدرت أنت وجميع رعايا دولتكم الحاضرة، إذ قد بقي فيكم قسط زهيد من زرع تلك الأمة وقد فاتكم هذا الأمر لأن المتعاقبين من تلك الأمة خلال أجيال وأجيال قد تلفوا وهم لا ينطقون بلغة الكتابة، لأن دولة الأثينيين الحاضرة كانت مزدهرة يا صولون في العصور الغابرة قبل أعظم بوار انتاب البشر بالمياه. والطريف هنا أن الكاهن المصري لم يكتف بذلك تأكيدا علي عراقة دولة أثينا وعمقها التاريخي، بل يؤكد له فيما يلي من فقرات: »إن بلادكم سبقت بلادنا بألف سنه« وبلادنا أتت بعدها في الزمن وقد سجل بالكتابة في هياكلنا حساب السنين التي مرت علي حضارة وطننا هذا، أما مواطنوك الذين عاشوا منذ تسعة آلاف سنة فسأبين لك قوانينهم بإيجاز وسأروي لك أبهي مآثرة أتوها...«. وقد كان الكاهن المصري كريما مع ضيفه إلي حد أن أوضح له أن الشرائع المصرية الحالية التي تبهره (أي تبهر صولون) إنما هي صورة لقوانين أثينا قبل ذلك العهد بتسعة آلاف سنة وختم فقرته التي أكد فيها ذلك بقوله: »لقد اتبعتم سننا مثل هذه السنن (يقصد السن الحالية للمصريين) وتفوقتم علي الناس طرا بكل ضرب من المناقب علي ما يليق بأولاد الآلهة وأربتهم«. والحقيقة أنني لا أدري هل هذا الذي قاله الكاهن لصولون حقيقة أم سخرية؛ هل صحيح أن أثينا أقدم من مصر وهل سبق الأثينيون مصر حضاريا ووجودا بألف عام وحال دون كشف ذلك جهل أهل أثينا بالكتابة!! أم أن الحقيقة هي العكس وهي أن الأثينيين المعاصرين لهذا الكاهن ولصولون علي فرض صحة هذا اللقاء تاريخيا هم من نقلوا كل نظم وشرائع المصريين وقصد الكاهن المصري أن يسخر من صولون وأن يوضح له بطريقة ساخرة أن ما يشاهده في مصر هو أصل كل ما لدي الأثينيين واليونانيين من حضارة ونظم وشرائع وعبادات! أعتقد أن الاحتمال الأخير هو الأصوب فإن هذا هو ما أكده هيرودوت في الجزء الذي كتبه عن مصر في تأريخه، إذ أكد أن معظم المظاهر الحضارية اليونانية إنما هي منقولة عن مصر بما في ذلك حتي أسماء الآلهة وطرائق العبادة. وفي اعتقادي أن مجريات الحوار بعد ذلك في طيماوس ومنذ أن يبدأ حديث طيماوس في الفقرة 30 وما بعدها عن علة خلق العالم وكيفية إيجاده باعتباره كائنا حيا نظمه العقل الإلهي المنظم لكل ما في الوجود والذي حول الفوضي إلي نظام دقيق بفكره وعمل مساعديه، إنما هو من وحي ما تلقاه أفلاطون من معارف وتعاليم أثناء زيارته هو الشخصية لمصر القديمة وأن كل ما جاء علي لسان طيماوس في هذه المحاورة إنما هو تأثر بالرؤية المصرية القديمة لنشأة العالم الطبيعي وخاصة النظرية المنفية التي تؤكد علي أن الإله بتاح فكر وتدبر ثم نطق فكان كل الوجود بما فيه من نظام وخيرية. وبالطبع فإن ما يصدق علي علاقة محاورة طيمارس بالفكر المصري القديم يمكن أن يقال علي ما ورد في المحاورة الملحقة بها محاورة أكرتيس أوكريتياس، وإن كان أفلاطون في هذه المحاورة الأخيرة كان أكثر وضوحا حينما قال في مطلعها علي لسان أكرتيس: »إننا إذا تذكرنا ذكري وافية وروينا أقوال الكهنة المصريين وقد نقلها صولون إلي ديارنا فأنا أعرف تقريبا أننا سوف نبدو لهذا الجمهور بمظهر من أنجز ما يليق به إنجازا مقبولا«. وكما أكد ذلك مرة أخري في فقرة تالية بقوله: »وأقول هذه الأشياء وأقيم الدليل علي قولي معتمدا في ذلك علي رواية صولون.. وإن أمجاد كل هؤلاء الرجال قد سردها أولئك الكهنة (يقصد كهنة مصر) في حديثهم عن الحرب التي وقعت آنذاك..«. إذن فكل الرواية التي وردت عن الأطلنتيس في محاورة أكرتيس إنما هي رواية مصرية نقلها إلي بلاد اليونان صولون واحتفظ بها أكرتيس وعبر عنها في هذه المحاورة. وهو ينص علي ذلك صراحة في الفقرة حينما قال أن جده صولون قد نقل مخطوطات هذه القصة من مصر إلي اليونان وأنه لا يزال يحتفظ بها«.. وهذه المخطوطات قد كانت طبعاً عند جدي (صولون) ولا تزال إلي الآن وقد أكببت علي درسها وتأملها وأنا بعد غلام صغير«. إن كل ذلك يشي بأن مصر هي ملهمة أفلاطون الجانب الأكبر من فلسفته الطبيعية والإلهية التي عبر عنها في طيماوس، وهي منبع معظم الروايات التاريخية التي تحدثت عن تلك الحضارة القديمة التي بادت حضارة الأطلنتيس، فهي الحافظة لتاريخ الأمم السابقة كما أنها مهد التاريخ والحضارة الإنسانية في ذهنية اليونانيين من صولون حتي أفلاطون. (ج) هي القدوة في نظمها الأخلاقية: أما فيما يتعلق بالجانب السياسي والتعليمي في فلسفة أفلاطون، فهو بلا شك في جانب كبير منه أيضا متأثر بما شاهده أفلاطون في مصر من نظم سياسية واجتماعية مستقرة، وجيدة، وما وجده لدي المصريين من نظام تربوي وتعليمي متطور ومتوازن أبهره فامتدحه في غير موضع من محاوراته. لقد ذكر أفلاطون مصر في محاوراته السياسية الثلاث (الجمهورية السياسي القوانين) وإن كانت أشارته إليها في المحاورتين الأولي والثانية سريعة إلا أنه قد توقف في مواضع عديدة من محاورته الأخيرة عند مصر ممتدحا نظمها التعليمية والتربوية. لقد أشار أفلاطون عرضا في الجمهورية إلي المصريين مقترنين بالفينيقيين واصفا إياهم بالمهارة الفطرية في التجارة، لكن هذا لا يمنع من أن ثمة تأثرا أفلاطونيا بمصر في هذه المحاورة التي رسم فيها معالم المدينة المثالية لديه، حيث إنه بدأها بالحديث عن العدالة وربط بين العدالة وتطبيقها في الدولة عبر النص علي نظام طبقي محدد تمارس فيه كل طبقة وظيفتها متحلية بفضيلتها حتي تستقيم الدولة ولا تتداخل اختصاصات الأفراد فيها. وهذا الاقتراح للتخصص، وإبراز فكرة العدالة وقيام الدولة عليها، وهذا النظام الطبقي الصارم الذي تحدث عنه أفلاطون وضرورة تحلي الجميع بالفضائل إنما هي كلها أفكار يمكن مقارنتها بما شاهده أفلاطون في مصر؛ فالفكر السياسي المصري كله يقوم علي الماعت العدالة والنظام) وكل النظام السياسي المصري يحترم الطبقية كما ينظر إلي الملك الحاكم كأنه إله ويسبغ عليه كل الحكمة ومن ثم فكل ما يقوله هو القانون الذي يجب أن يحترم من قبل الجميع. ولا شك أن الدولة المثالية عند أفلاطون بما فيها من نظام ملكي يقوم علي الحكمة التي تكاد تجعل الفيلسوف أو الحكيم هو الحاكم بأمره في المدينة المثالية إنما هو نظام يحاكي ما كان موجوداً في مصر أكثر من محاكاته لأي نظام سياسي كان موجودا في بلاد اليونان. وقد أشار أفلاطون كذلك في محاورة »السياسي« إلي النظام الملكي في مصر القديمة والطابع الكهنوتي الذي يميزه، مما يؤكد أنه قد تعرف أيضا علي هذا النظام الملكي المصري عن قرب وعرف خصائصه والعلاقة التي كانت تربط الملك المصري برعيته وبمواطنيه. وقد بلغ الإعجاب الصريح من أفلاطون تجاه النظم السياسية والاجتماعية والتربوية المصرية مدي بعيدا في آخر محاوراته عموما ومحاوراته السياسية علي وجه الخصوص »القوانين«، ففيها نجد تأثر أفلاطون الواضح بهذه النظم وإشادته اللامحدودة بها؛ ففي الكتاب الثاني من المحاورة، محاورة القوانين يتحدث أفلاطون عن التربية الفنية مؤكدا أنها تستند علي التمييز بين الفن الجيد والفن الرديء، ويضرب مثالاً بفن الموسيقي وضرورة أن يكون لدينا قواعد وتقاليد محددة للحكم عليها كما ورد في صحف الفن المصري؛ فقد اهتم المصريون جدا فيما يري أفلاطون بوضع هذه القواعد والاحتفاظ بها والالتزام بها. يقول الأثيني بلسان أفلاطون: ».. ترك المواطنون في كل مجتمع أحراراً فيما يفعلوه فيما عدا مصر يرد كلينياس: أرجو بالنسبة لمصر ذاتها أن تخبرني كيف نظم القانون الأمور هناك؟! فيقول الأثيني: إنه ليبدو أن ذلك الشعب قد عرف منذ أمد بعيد صدق ما نؤكده الآن. ذلك أن هذه الوقفات وتلك الإيقاعات يجب أن تكون جيدة إذا كان علي الجيل الشاب من المواطنين أن يعتاد ممارستها، وهكذا نجدهم قد سحبوا كل القوائم ذات الأمثلة القياسية، ودشنوا نماذج لها في معابدهم وكان محرماً علي النقاشين وكل من يزاول أنواع الرسم الأخري أن يجدد في هذه النماذج أو أن يحتفي بشيء غير هذه النماذج القياسية التقليدية، وما يزال ذلك التحريم قائما بالنسبة لهذه الفتون وللموسيقي في كل فروعها وإذا ما فتشت عن صورهم وعن بديل هذه الصور في نفس المكان فإنك ستجد أن عمل عشرة آلاف سنة مضت ليس بأحسن ولا بأسوأ مما هو أمامنا اليوم وأنا أعني ما أقول بكل دقة ولا أتكلم كلاما غير محدد، وكلاهما يعرض فناً متسابها أو فناً بعينه. كلينياس: وذلك من أشد الأحوال عجباً. الاثيني: وهو بالأحري من معجزات مشرعيهم ورجال السياسة عندهم. إذن لقد اعتبر أفلاطون أن القواعد الفنية التي ربي المصريون شبابهم عليها من معجزات مشرعي القوانين المصرية ومن معجزات السياسة المصرية، وقد شغل أفلاطون في ثنايا هذا الكتاب الثاني من المحاورة بالنظام التعليمي وخاصة في مجال الفنون عامة وفن الموسيقي علي وجه الخصوص. إن مصر بالنسبة لأفلاطون في هذا الأمر تمثل النموذج الذي ينبغي أن يحتذي. وهكذا الحال في الكثير من جوانب العملية التعليمية؛ إذ يعود أفلاطون في الكتاب السابع من نفس المحاورة إلي مصر القديمة ليؤكد ضرورة أن يتعلم الأطفال والتلاميذ ما يتعلمه أمثالهم في مصر بغير صعوبة، حين يتعلمون في مصر عبر الألعاب كيف يكتشفون عوامل الأعداد (معاملات الأعداد) وكيف لا يمكن قياسها والمساحات والأحجام. وينبغي أن يتضمن المنهج في التعليم الثانوي في الصفوف المتأخرة للمراهقين موضوعا واحدا هو الحجوم غير المعقولة والجبر حتي المعادلات التربيعية، ويجب كذلك تعليمهم علم الفلك إلي حد يكفي لأن يفهموا فهما سليما حركات الكواكب وسرعتها والنسب الصحيحة في مداراتها.