يعد مشروع الدستور المصري المعدل, أول خطوة كبيرة وفارقة في إعادة بناء النظام السياسي-الاقتصادي-الاجتماعي في مصر, فهو يؤسس بدرجة مقبولة لدولة مدنية حديثة ومتنورة وقائمة علي أساس المواطنة أي تساوي بين أبنائها بلا تفرقة طائفية أو عرقية أو نوعية, ويؤسس لدولة تحترم حرية وحقوق الإنسان, ولبناء نظام سياسي ديمقراطي يتسم بالفصل بين السلطات والتوازن بينها, ويؤسس لبناء نظم للأجور والضرائب والصحة والتعليم والبحث العلمي, تشكل نقلة هائلة في ضمان تقدم مصر وتطورها, ونقلة في ضمان حقوق الشعب وفقرائه في الرعاية الصحية والتعليمية بصورة عادلة. وهذا المشروع رغم كل ما يرد عليه من ملاحظات أو حتي اعتراضات علي بعض المواد, يستحق أن نفخر به وأن نصوت عليه بنعم. فالفارق هائل بين أن يكون لديك مثل هذا الدستور الجيد الذي أعدته لجنة تأسيسية ممثلة للأمة, ويمكن تعديل المواد التي توجد تحفظات أو اعتراضات عليها من خلال مجلس الشعب القادم, الذي سينطوي علي الأرجح علي درجة معقولة من التنوع والتوازن, مقابل دستور مشوه وفاتح لعصر ظلامي يهدد بتخريب مستقبل واستقرار ووحدة بنيان الأمة, ويهدد بإعادة بناء نظام ديكتاتوري بسلطات مطلقة للرئيس, ولا يضمن الحقوق الاقتصادية-الاجتماعية للشعب المصري, وتم اختطافه بلجنة تأسيسية سيطر عليها فصيل واحد بصورة استحواذية نهمة وجاهلة, ومنعت المحكمة الدستورية من البت في دستوريتها, مثلما كان الحال مع دستور إخوان التطرف والإرهاب الذي تم اختطافه عام.2012 وسأركز هنا علي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في هذا المشروع الدستوري الذي أتي بسبع نقاط مضيئة كبري تشكل علامة فارقة في التاريخ الدستوري لمصر. والأولي هي النص في المادة18 علي تخصيص نسبة3% علي الأقل من الناتج القومي الإجمالي للإنفاق العام علي الصحة. وهو نص يجبر أي حكومة علي تخصيص هذه النسبة وإلا أصبح مشروع موازنتها العامة غير دستوري. وهذا النص يضمن تحقيق الرعاية الصحية الحقيقية والشاملة للفقراء ولكل الشعب في المستشفيات العامة, ويضمن تطوير تجهيزات ومعدات المستشفيات, ويضمن تقديم أجور كريمة للأجهزة الطبية والتمريضية والإدارية والعمالية بقطاع الصحة.والنقطة المضيئة الثانية, هي النص في المادتين19, و21 علي تخصيص4% من الناتج القومي كإنفاق عام علي التعليم, و2% للإنفاق علي التعليم العالي, بما مجموعه6% من الناتج القومي الإجمالي, مقارنة بأقل من4% في موازنة د. مرسي وموازنات مبارك, وهي طفرة ستتيح تطويرا جبارا للعملية التعليمية, عبر تقديم أجور كريمة للأجهزة التعليمية والإدارية والعمالية بقطاع التعليم بكل مستوياته, وتطوير المعدات والأجهزة والمعامل والمناهج, وتطوير وتوسيع الأبنية التعليمية وتخفيف كثافة الطلاب بالفصول, والقضاء علي الدروس الخصوصية وتجريمها نهائيا, وإنقاذ الأسر المصرية من أعبائها التي تزيد علي20 مليار جنيه سنويا. والنص في هذه المادة أيضا علي أن التعليم الإلزامي يمتد حتي الثانوية العامة أو الفنية, والتعليم مجاني في كل المراحل. والنقطة المضيئة الثالثة هي النص في المادة23 علي تخصيص نسبة لا تقل عن1% من الناتج القومي الإجمالي للإنفاق علي البحث والتطوير العلميين, وهي نسبة تعادل بين خمسة وعشرة أمثال ما كان يخصص للإنفاق العام في هذا المجال في عهدي مبارك ومرسي, وهو ما سيمكن مصر من تطوير مؤسساتها البحثية وإمدادها بأحدث المعدات, وتقديم رواتب كريمة للعلماء, وتمويل كاف للأبحاث العلمية. وللعلم فإن أكثر من60% من زيادة إنتاجية العمل ورأس المال في العالم, تعود إلي التحديث التقني الذي تتيحه الإنجازات العلمية وبراءات الاختراع الجديدة. والنقطة المضيئة الرابعة هي إلغاء الاستثناء من الحد الأقصي للأجر للعاملين لدي الدولة في المادة27, مقارنة بإتاحة الاستثناء من الحد الأقصي للأجر بقانون في المادة14 من دستور إخوان التطرف والإرهاب. وهذا يعني أن باب جهنم للرواتب الأسطورية لبعض القيادات, والتي تجور علي أجور باقي العاملين سوف تنتهي بصورة ملزمة بالدستور, وستكون هناك درجة أعلي من العدالة والشفافية في توزيع مخصصات الأجور وما في حكمها. وسيبقي تحويل هذا المبدأ الدستوري إلي قوانين واضحة, وتطبيقها بصرامة, بابا رئيسيا لإصلاح نظام الأجور. والنقطة المضيئة الخامسة هي تعديل ما اقترحته لجنة العشرة, وتأكيد إتاحة الوظائف العامة علي أساس الكفاءة والجدارة في المادة14, وهي مشابهة في ذلك لدستور2012, وكانت لجنة العشرة قد أزالت كلمة الكفاءة, واقتصرت علي مبدأ إتاحة الوظائف العامة للمواطنين دون تحديد أساس حصولهم عليها, وهو ما كان سيتيح تجاوز المتفوقين في تعيينات الأجهزة القضائية لمصلحة أبناء العاملين في تلك الأجهزة. والنقطة المضيئة السادسة هي إقرار مبدأ تعدد الشرائح الضريبية وتصاعد معدلاتها بالاتساق مع المقدرة التكليفية للممولين, أي لمن يدفعون الضريبة, وهذا هو الأساس الرئيسي لأي نظام ضريبي عادل يعفي الفقراء ومحدودي الدخل من دفع الضرائب, ويتدرج في معدل الضريبة تبعا لحجم الدخول. والنقطة السابعة هي النص في المادة49 علي تجريم الاعتداء علي الآثار والإتجار فيها والنص علي عدم سقوط هذه الجريمة بالتقادم, مقارنة بمادة ديباجة لا تنص علي تجريم ذلك الفعل الأثيم في دستور.2012 وهناك نقاط كنا نأمل أن يتضمنها الدستور مثل منع ملكية غير المصريين للأراضي الزراعية في مصر في ظل وجود جيوش من الفلاحين المعدمين ومن العاطلين من خريجي التعليم الزراعي, والتجريم الصارم لتلويث النيل والبحيرات والبيئة, والنص علي فرض الضرائب علي استخراج الثروات الناضبة وعلي المكاسب الرأسمالية وغيرها من النقاط, لكنها أمور يمكن استدراكها من خلال مجلس الشعب والرئيس القادمين, إذا صوت الشعب في الانتخابات لمن يطرحون ويؤمنون ببرامج سياسية واقتصادية واجتماعية تحقق مصالح الشعب في التنمية والعدالة والتقدم. وبشكل شخصي أشعر باعتزاز بأن التغيرات الإيجابية العظيمة في المواد التي أشرت إليها تتوافق مع ما اقترحته في كراسة استراتيجية أصدرها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية وتم إرسالها لكل أعضاء لجنة الخمسين, وهي بعنوان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في الدستور المصري الجديد. لمزيد من مقالات أحمد السيد النجار