بدأت لجنة الخمسين التي غابت عنها قامات دستورية رفيعة المستوي مناقشاتها للتعديلات الدستورية. وهو ما يستدعي قراءة تحليلية ونقدية لهذه التعديلات وما ترسيه من قواعد قانونية حاكمة من منظور مدي استجابتها لمطالب الأمة في بناء نظام قانوني, يشكل مظلة للحرية والكرامة والمساواة الإنسانية, والديمقراطية السياسية الحقيقية التي تحقق الفصل بين السلطات والتوازن بينها, والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني الحقيقي. وقبل تناول المواد الاقتصادية التي تضمنتها التعديلات لابد من الإشارة إلي أنها تمثل نقلة حقيقية بالنسبة لمدنية الدولة والتوازن والفصل بين السلطات, لكنها تجاهلت الإشارة لالتزام مصر بما وقعته من عهود ومواثيق دولية لحقوق وحريات الإنسان, ومنع ومكافحة الفساد. وتنص المادة(23) علي أن يقوم الاقتصاد المصري علي تنمية النشاط الاقتصادي وتشجيع الاستثمار..إلخ وهذا النص يجعله اقتصادا بلا هوية, حيث لا يحدد طبيعة الاقتصاد المصري ودور الدولة فيه, وهو استمرار لنفس المادة(14) في دستور2012 وتكريس لغياب الدولة عن المشاركة المباشرة في النشاط الاقتصادي وفي إيجاد الوظائف الحقيقية. وتنص هذه المادة أيضا علي وضع حد أدني للأجور والمعاشات يكفل حياة كريمة للمواطنين, وحد أقصي للأجر في أجهزة الدولة والقطاع العام وقطاع الأعمال العام, لا يستثني منه إلا بقانون. وهذا يعني بقاء الاستثناءات الفاسدة التي يجب منعها نهائيا. ولابد من تحريك الحد الأدني للأجر سنويا بنفس نسبة معدل التضخم لمنع تآكل قدرته الشرائية. وتنص المادة(24) علي أن الزراعة والصناعة والسياحة والأنشطة المرتبطة بها مقومات أساسية للاقتصاد الوطني, وهي مادة تعكس عدم علم من صاغها, فالقطاعات التي يتكون منها أي اقتصاد, هي الزراعة والصناعة والخدمات, أما السياحة فهي قطاع فرعي من قطاع الخدمات الذي بلغت مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي أكثر من53%, بينما يبلغ إسهام قطاع السياحة نحو ثلاثة وثلاثة أعشار فقط من ذلك الناتج. وقد تعرض قطاع الزراعة وحقوق الفلاحين ومسئولية الدولة تجاههم لنوع من التجاهل الفظ في التعديلات الدستورية, فليس هناك أي نص علي حماية الدولة لحقوقهم في أسعار عادلة لمحاصيلهم, أو للمواد التي يستخدمونها, وليس هناك أي نص علي منع ملكية غير المصريين للأراضي الزراعية, مما يعني استمرار الوضع الردئ القائم الذي تملك فيه الأراضي الزراعية المصرية لغير المصريين, في حين أن لدينا ملايين من الفلاحين المعدمين وخريجي التعليم الزراعي الأحق بأرض بلادهم من أحد آخر. وتنص المادة(13) علي أن الوظائف العامة حق للمواطنين وتكليف للقائمين بها لخدمة الشعب...إلخ. والمادة المقابلة لها في دستور2012( مادة64) كانت أفضل, حيث تضيف أن الدولة تتيح الوظائف العامة للمواطنين علي أساس الجدارة, وهو أساس دستوري يجبر المشرعين علي سن قوانين تمنع التمييز والاستثناءات وتوريث الوظائف كما هو الواقع المرير حاليا في القضاء وأجهزة الدولة والمناصب العامة عموما. كما تجاهلت التعديلات, النص علي أن أموال التأمينات هي أموال خاصة مملوكة للمؤمن عليهم, ينبغي أن تدار بشكل آمن وكفء لصالحهم, ولا يحق للدولة استغلالها لصالحها, وتضمن الدولة أموال التأمينات والمعاشات. وتنص المادة(17) علي أن الدولة تلتزم بتوفير الرعاية الصحية وتخصص لها نسبة كافية من موازنتها العامة. وفي ظل مادة قاصرة مناظرة في دستور2012, تم تخصيص واحد وستة أعشار من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق العام علي الصحة, في حين أن العالم إجمالا خصص وفقا للبنك الدولي, نحو ستة وستة أعشار من الناتج العالمي كإنفاق عام علي الصحة عام2010, وخصصت له الدول النامية نحو3% من نواتجها. ويجب تعديل هذه المادة لتلزم الدولة بتخصيص نسبة كافية من موازنتها العامة, تتوافق مع ما تطلبه منظمة الصحة العالمية,. أما المادة(25) فتنص علي أن الثروات المعدنية والموارد الطبيعية ملك للشعب وعوائدها حق له...إلخ, وهذه المادة تتجاهل النص علي إلزام الدولة بالحصول علي أسعار عادلة تماثل الأسعار العالمية لهذه الثروات بدلا من الأسعار الهزلية الراهنة واستخدام عائد استغلالها في بناء مشروعات إنتاجية يستفيد منها الجيل الحالي ويورثها كمشروعات إنتاجية للأجيال القادمة. تنص المادة(26) علي أن تلتزم الدولة بحماية نهر النيل وموارد المياه والشواطئ والبحار والمحميات وإزالة ما يقع عليها من تعديات وينظم القانون وسائل الانتفاع بها, وهي مادة ديباجة لا تجرم الاعتداء علي نهر النيل وانتهاك الحقوق العامة فيه وتلويثه بمياه الصرف الصناعي والزراعي والصحي المسبب للعديد من الأمراض والمدمر للثروة السمكية ولنوعية الإنتاج الزراعي عموما. وتنص المادة(27) علي أن تلتزم الدولة بحماية الآثار وصيانتها والعمل علي استرداد ما استولي عليه منها, وهي مادة ديباجة تفتح الباب لاستمرار العقوبات الهزلية علي جرائم سرقة الآثار التي ينبغي تجريمها ومعاقبة من يقترفها بصورة صارمة ورادعة. أما المادة(32) فتنص علي أن يقوم النظام الضريبي وغيره من التكاليف العامة علي أساس العدالة الاجتماعية, وأداؤها واجب وفقا للقانون. وهذه المادة لا تتضمن أي إشارة إلي تعدد الشرائح الضريبية وتصاعد معدلاتها وشمولها للمكاسب الرأسمالية وللثروات الناضبة. كما لم تنص علي إعفاء الفقراء ومحدودي الدخل من الضريبة, وتحريك حد الإعفاء الضريبي بنفس نسبة معدل التضخم سنويا. كما لم تنص علي أن تصب كل أنواع الضرائب والرسوم والغرامات والإتاوات في وزارة المالية, بما يفتح الباب لاستمرار تسرب جزء كبير منها للصناديق الخاصة ولجهات لا يحق لها الحصول مباشرة علي الإيرادات العامة مثل الوحدات المحلية التي يؤدي هذا الوضع لتباين هائل في إيراداتها من محافظة لأخري. وفي المادة(183) تم تكريس هيمنة الرئيس علي الأجهزة الرقابية, من خلال إعطائه سلطة تعيين رؤساء الأجهزة الرقابية بعد موافقة مجلس الشعب بأغلبية أعضائه. وبما أن الدور الأساسي لتلك الأجهزة هو مراقبة تصرفات السلطة التنفيذية في المال العام, فإنه ينبغي إبعاد الرئيس باعتباره رأس السلطة التنفيذية عن عملية تعيين رؤسائها نهائيا, مع إعطائها استقلالية كاملة. وتنص المادة(184) علي أن تقدم الهيئات والأجهزة الرقابية تقاريرها السنوية إلي الرئيس ومجلس الشعب الذي ينظرها ويتخذ الإجراء المناسب حيالها. والمنطقي أن تقوم تلك الأجهزة بإحالة قضايا الفساد للقضاء مباشرة دون حاجة لإذن من الرئيس أو مجلس الشعب, كتعبير عن استقلاليتها الضرورية لضمان كفاءة وفعالية نظام منع ومكافحة الفساد. لمزيد من مقالات أحمد السيد النجار