الدولة كنموذج في إقليم معين, أو علي مستوي العالم, تعني أن تلك الدولة قد أقامت مجتمعا ودولة علي درجة من التقدم في مجالات الحياة العلمية أو الاقتصادية أو الثقافية أو السياسية, أو في تلك المجالات مجتمعة بحيث تصبح مثالا يحتذي من جانب دول أخري في الإقليم الذي تنتمي إليه الدولة, أو فيه وفي خارجه. وفي حالة النموذج قد لاتسعي الدولة إلي لعب دور خارجي يستهدف نقل ذلك النموذج إلي دول أخري. وكمثال علي ذلك نشير إلي دول جنوب شرقي آسيا, وبخاصة ماليزيا وسنغافورة وكوريا الجنوبية, علي اختلاف بين تلك النماذج من حيث أعمدة كل منها الأساسية. ونموذج آخر علي المستوي الدولي يتمثل في الولاياتالمتحدة في مرحلة ماقبل الحرب العالمية الثانية. وذلك بالنسبة لدول أوروبا الغربية ودول أمريكا اللاتينية. وفي مرحلة ما بعد تلك الحرب تحولت الولاياتالمتحدة إلي نموذج ودور معا. فقد أصبحت نموذجا لبنيان سياسي ديمقراطي للدول الفاشية المهزومة في أوروبا( المانيا وإيطاليا), وفي آسيا( اليابان), وتعزز النموذج بالدور الذي أخذت تلعبه السياسة الأمريكية بتقديم خبرتها في مجال العمل السياسي الديمقراطي كأساس لعملية إعادة بناء الأنظمة السياسية لتلك الدول علي قواعد الديمقراطية الليبرالية. وتزامن مع ذلك تدشين مشروع مارشال لإعادة بناء اقتصادات الدول الأوروبية المهزومة والمنتصرة علي السواء, وذلك من عام1947, وقبيل بدء أولي خطوات بناء الاتجاه الأوروبي, فضلا علي تأسيس حلف شمال الأطلسي منذ عام.1949 وهكذا انتقلت السياسة الأمريكية من مرحلة النموذج دون الدور, إلي مرحلة الدور المستند إلي نموذج. أما حالة الاتحاد السوفيتي السابق فقد كانت مختلفة, لأنه قبل الحرب العالمية الثانية لم يكن نموذجا يحتذي من جانب دول شرق أوروبا, بل إن الخطأ الاستراتيجي لهتلر وغزوه واحتلاله للاتحاد السوفيتي, رغم توقيعه معاهدة عدم اعتداء متبادل معه, هو الذي دفع الآخر, بعد انتصاره علي هتلر, إلي دخول شرق أوروبا والسيطرة عليها حتي يصل إلي شرق المانيا, ويفرض, من ثم, التقسيم علي ألمانيا وعلي عاصمتها برلين. غير أن الاتحاد السوفيتي لم يكن يمثل لدول شرق أوروبا نموذجا يحتذي طواعية وبإرادة وطنية حرة من جانب كل من تلك الدول, وذلك يعني أن النموذج السوفيتي الشيوعي قد فرض علي تلك الدول بموجب الوجود العسكري القوي المباشر الذي تحول إلي سياسات اقتصادية واستراتيجية ودفاعية مشتركة مع موسكو. ولذلك, ورغم بقاء الاتحاد السوفيتي في دول شرق أوروبا حتي تحلله في ديسمبر1991, فإن الوجود, أو النموذج مجازا, قد تحلل في اللحظة ذاتها أيضا, وبدأت تلك الدول في الأخذ بالنموذج الغربي حتي أصبحت دولا أعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. وإحدي الدلالات المهمة هنا تتمثل في حقيقة أن فعالية الدور ونفوذه يتوقفان علي اعتبارات من بينها أن يكون خلف الدور نموذج فاعل حيوي مقبول من جانب مستقبلي الدور, فإن غاب النموذج أو تحلل ذهب الدور سدي. وفي حالة مصر, لدينا حالتان تستحقان مزيدا من الدراسة, هما حالة محمد علي وحالة جمال عبد الناصر. ولقد أقام محمد علي دولة قوية في مصر, وذلك في مجالات القوة العسكرية والاقتصادية والعلمية. وقد ترجم ذلك في شكل سياسات' هجومية' أو' توسعية' خارج مصر. ولم يكن هناك دول أخري في الجوار العربي أو الأفريقي بحيث يمكن الحديث عن قبولها أو رفضها لدور مصر محمد علي الذي تجاوز الإقليم ووصل إلي' نوارين' البحرية التي تقع بالقرب من عاصمة الدولة العثمانية, والتي هزم فيها عام1827 بتحالف دولي كبير لم يكن ليسمح لتجربة محمد علي ولنموذجه أن يتحول إلي دور دولي, وليس فقط إقليميا. وهكذا كانت تجربة محمد علي أقرب إلي الدور منها إلي النموذج, لأن الجوار الإقليمي لم يكن يقوم علي دول أو فاعلين دوليين يتطلعون إلي التقدم والبناء والتنمية علي هدي من الحالة المصرية. وبعد أكثر من قرن علي إنتهاء تجربة محمد علي عرفت مصر تجربة عبد الناصر الذي مثل نموذجا ولعب دورا. أما النموذج فهو نموذج الاستقلال الوطني والبناء التنموي والعدالة الإجتماعية. لقد كان لذلك النموذج بريقه لأن طرحه جاء متزامنا مع بدايات مرحلة التحرر الوطني وانتهاء مرحلة الاستعمار الأوروبي التقليدي في الوطن العربي( الدائرة العربية) وفي أفريقيا( الدائرة الأفريقية). ولقد زاد بريق ذلك النموذج في ضوء الكاريزما المبهرة لعبد الناصر لدي الشعوب وبسبب الإرادة المخلصة لمساعدة شعوب البلاد العربية والأفريقية, وهو ما ترجم في قبول وتأييد شعبي جارف من جانب تلك الشعوب لمصر عبد الناصر النموذج والدور. غير أن تلك التجربة قد أنهيت, مثل تجربة محمد علي, بسياسات أمريكا والغرب الهادفة إلي نسفها. وقد ساعد علي فشل تلك التجربة الكبيرة بعدها عن الأسس الديمقراطية, وما ترتب علي ذلك من سوء في إدارة العملية السياسية علي النحو الذي جعل النظام غير قادر علي المواجهة الفاعلة والسليمة لأزمة وحرب1967 التي ضربت تلك التجربة- كنموذج وكدور- علي نحو مازلنا ندفع بعض ثمنه حتي الآن. ومع ثورتي يناير2011 ويونيو2013, ونجاح الشعب المصري في فرض إرادته مرتين عبر ثورتين يفصل بينهما أقل من عامين ونصف العام, ينفتح أمام مصر مجددا أبواب الأمل في بناء نموذج جديد يمكن أن تحتذي به دول أخري, عربية وإفريقية, في صياغة مستقبل أفضل لشعوبها. أما النموذج الذي يمكن أن تمثله مصر فهو يؤخذ من شعارات الثورتين, عيش, حرية, كرامة إنسانية, وعدالة إجتماعية. وتلك شعارات جامعة وطامحة, فهي تعني إنشاء نظام جديد, بموجب عمليتي انتقال ثم تحول ديمقراطي, يوفر للشعب, وخاصة أغلبيتة الفقيرة, عيش أفضل ومستوي معيشة أرقي, وحرية أعلي في كل مجالات الحياة, وكرامة إنسانية يحصل عليها الفرد المصري لكونه إنسانا ومواطنا, وعدالة اجتماعية تزيل, أو تضيق, الفجوات الاجتماعية الواسعة التي تفصلهم عن ذوي الدخول العالية. غير أن ذلك النموذج حتي يتأسس ويتغذي وينمو يحتاج إلي سياسات وطنية متقدمة في مجالات البحث العلمي والتطوير التكنولوجي, فبدون علم لا سياسة. ويحتاج ذلك النموذج أيضا إلي معالجة شجاعة لقضايا وأزمات الأمن والاقتصاد. فبدون أمن لااقتصاد, وبدون اقتصاد لاأمن ولاسياسة ولاعلم. ولا شك أن المكون الثقافي لمصر نموذجا ودورا كان دائما- وإن بدرجات متفاوتة- هو أهم مكونات ذلك النموذج والدور. ولايزال ذلك البعد الثقافي الحضاري في صدارة مكونات النموذج والدور المصريين, ولكن استعادة وإحياء النموذج والدور المصريين أمر يحتاج إلي بصيرة وإدارة. حقا إن مصر لديها من الباحثين والخبراء والمهندسين والأطباء رصيد ضخم يقدر علي خدمة هدف مصر الرامي إلي إحياء دورها ونموذجها في بلاد منابع النيل مثلا من خلال مشاركتهم في مشاريع توليد الكهرباء, وتوفير المياة المفقودة, ومعالجة المرضي في الريف والتواصل بين المثقفين والفنانين والمفكرين. وربما يكون من المفيد أن نتجاوز خط إحياء النموذج والدور إلي مستوي تعزيزه ودعمه وتقويته, وذلك بالتعلم من أخطاء الماضي, وبشكل أوضح, بالتقدم علي مسار الديمقراطية السياسية, والعدالة الاجتماعية, وإعادة بناء منظومة الأمن بفاعلية وحيوية سياسية تتفق مع قواعد الديمقراطية, وفوق كل ذلك, بناء منظومة بحث علمي وتطوير تكنولوجي تنمي الصناعة وتقود إلي إصلاح الاقتصاد وغيره من ثوابت التقدم قي أي مجتمع يتطلع إلي مستقبل أفضل. لمزيد من مقالات د.مصطفى علوى