استن رسول الله, صلي الله عليه وسلم, سنة لم يعهدها التاريخ, حينما أرسي أسس بناء الأمم عن طريق بناء الإنسان قبل أن ينشد التشييد والعمران, فابتني الإنسان الذي يعد في الإسلام عماد الأمم والأوطان, وذروة سنام الأمر في الخلافة والعمران, فكان بناء الفرد المسلم هو اللبنة الأولي في بناء الدولة, وكانت( المؤاخاة) هي اللبنة الثانية لتنظم علاقة المسلم بالمسلم, ثم كان( دستور المدينة) اللبنة الثالثة التي تنظم الحقوق والواجبات في الوطن للمسلم وغير المسلم, ومن ثم يكون( التعاون) اللبنة الرابعة, ليحصل( العمران) كلبنة خامسة. وأشار القرآن الكريم إلي قصة المؤاخاة التي تمت بين المهاجرين والأنصار, التي فاقت مشاهدها وأحداثها كل تصور, وفي ظلها قدم الصحابة الكثير من صور التفاني والتضحية علي نحو لم يحدث في تاريخ أمة من الأمم, مما يجعلنا بحاجة إلي أن نقف أمام هذا الحدث نتأمل دروسه, ونستلهم عبره. وفي ظل ما تشهده البلاد من فرقة ونزاع وتناحر, طالب علماء الدين بتحقيق المؤاخاة الإنسانية بين جميع المصريين, بما تحمله من معاني المودة والرحمة والتسامح الواردة في الكتب والأديان السماوية, والانطلاق من خلال المشترك الإنساني بين البشر جميعا, حتي تخرج مصر من المرحلة الراهنة. ويقول الدكتور طه أبو كريشة, عضو هيئة كبار علماء الأزهر, إن المؤاخاة في الإسلام لها بداية رأيناها بعد هجرة النبي صلي الله عليه وسلم من مكة إلي المدينة حين آخي بين المهاجرين والأنصار لكي يكونوا إخوة يتعاونون فيما بينهم ويرث أحدهما الآخر عند وفاته, واستمر هذا المعني حتي نزل الوحي بقول الله تعالي عن التوارث في الإسلام:( وأولو الأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم) سورة الأنفال 75, أي أن التوارث إنما يكون عن طريق ما جاء به الوحي في آيات المواريث, وليس عن طريق هذا التآخي الذي كان بهذه الصورة عند هجرة النبي صلي الله عليه وسلم, لكن يظل المضمون الذي صاحب التآخي بعيدا عن التوارث, وذلك فيما يحقق العلاقة الإنسانية بين كل مسلم وإخوانه من المسلمين علي أساس علاقة الأخوة الإيمانية التي أشار إليها قول الله عز وجل( إنما المؤمنون إخوة) سورة الحجرات 10, فهذا الحصر في هذه الآية يشير إلي أن العلاقة الإنسانية التي تجمع المسلم مع غيره من إخوانه المسلمين هي علاقة يجمعها الإيمان, وهذا يقتضي التخلق بكل خلق إيماني يحافظ علي توثيق هذه العلاقة وعلي استدامتها وبقائها في أي زمان وفي أي مكان. ومن أبرز الأمثلة علي هذا المضمون ما جاء الأمر به من حيث التعاون علي البر والتقوي, كما قال عز وجل( وتعاونوا علي البر والتقوي ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان) سورة المائدة 2, ويقاس علي فضيلة التعاون سائر الفضائل الأخري التي تقوم علي تحقيق علاقة إيمانية إيجابية متبادلة بين الطرفين, وإلي جانب ذلك فإن هذا المضمون يتضمن أيضا البعد عن أي علاقة فيها إساءة للعلاقة الإنسانية المتبادلة, ولذلك رأينا الإشارة إلي مثال من الإيجابيات ومثال من السلبيات في قوله تعالي:( إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون. يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسي أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسي أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون. يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم. يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) سورة الحجرات:10-13. من جانبه يري الدكتور محمد عيسي الحريري أستاذ التاريخ بكلية الآداب جامعة المنصورة, عضو المجلس الأعلي للشئون الإسلامية أن نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار, كفل إحلال رابطة الأخوة ورابطة الدين محل رابطة القبيلة والعصبية القبلية, وكان بداية لإقرار الدولة الإسلامية, واعتبر الرسول صلي الله عليه وسلم نظام المواطنة في المجتمع وحقوقها أساسه الهجرة, لكي تستطيع الدولة الناشئة مقاومة الباطل, كذلك هذا التناسق في المجتمع أعطي فرصة للجانب التطبيقي, فلا شيء يتم في المجتمع إلا بنظام الشوري. وأضاف: إن التاريخ لينبئنا أن أعداء هذا الدين قديما وحديثا كانوا يكيدون لهذا الدين عن طريق زرع الفرقة والانقسام بين أبنائه بدلا من الأخوة والاعتصام التي هي عماده, وهذا الاستقرار الذي أقره نظام المؤاخاة هو إقرار نظام الدولة الإسلامية, هذا الاستقرار وضع أول دستور في التاريخ.