العمل الدائر حاليا في لجنة الخمسين المكلفة بتعديل دستور 2012 يثير الكثير من الملاحظات والتساؤلات. هذا أمر طبيعي ومتوقع. لكن في غمار هذا النقاش المحتدم لا بد من التذكير ببعض الأمور. فمن الضروري ترشيد النقاش في هذه اللحظات ولم يتبق أمامنا سوي أقل من شهرين لإنجاز هذه المهمة. ثمة نقطة نظام يجب الاحتكام إليها حتي لا نهدر كل هذا الوقت والجهد في غير محله. أول ما ينبغي الاحتكام إليه هو التركيز علي المواد المطلوب تعديلها أو إضافتها أو حذفها بدلا من هذا الجدل الشكلي غير المؤثر الذي لم يتوقف بعد. فما زلنا ندور حتي داخل لجنة الخمسين نفسها حول قضية هل نحن بصدد تعديل لبعض مواد الدستور المعطل, أم أن الأمر يتعلق بإصدار دستور جديد؟ كنت أحد القائلين منذ البداية بأن إصدار دستور جديد هو أمر يخرج عن ولاية لجنة الخمسين لا لشيء إلا بسبب وضوح وصراحة نصوص الاعلان الدستوري بشأن هذه المسألة. لكن الحاصل أننا تجاوزنا الآن هذا الجدل. فلندع اللجنة تواصل عملها ولنر ما سيؤول إليه الأمر في نهاية المطاف. فإذا كانت التعديلات من الكثرة والجوهرية ما يصل بنا واقعيا الي دستور جديد فسنكون إزاء دستور جديد. ولا ننسي أن الديباجة التي تعمل عليها لجنة الخمسين حاليا لا تعني إلا أننا في الواقع بصدد دستور جديد. فلا يتصور وجود ديباجة جديدة لوثيقة دستورية تنسب كمجرد تعديل لدستور سابق. والخيار الآمن دستوريا يتطلب إصدار إعلان دستوري مكمل لحسم هذه المسألة. لكن مصادر مقربة من الرئاسة نفت احتمال إصدار أي إعلانات دستورية مكملة او معدلة (الاهرام 18 سبتمبر الحالي) أما إذا اقتصر الأمر علي إجراء تعديلات علي مواد دستور 2012 فإن المنتج النهائي للجنة سيكون تعديلا للدستور المعطل مع ملاحظة أنه ليس ثمة سقف لعدد المواد الممكن تعديلها. والتصريح الأخير المنسوب لمؤسسة الرئاسة مربك ويعزز بدون شك خيار التعديل الجزئي. والقول بغير ذلك سيكون مغامرة بل شركا لا يجب علي لجنة الخمسين الوقوع فيه. الأمر الثاني الذي يجب التحذير منه هو الرؤية الضيقة لبعض الفئات وجماعات المصالح لمفهوم الوثيقة الدستورية. إذ يبدو ان كل مؤسسة في الدولة وكل نقابة وكل كيان مهني يسعي لأن يضمن الدستور حماية المصالح التي يمثلها. لكننا ننسي في غمار هذه الحماسة أن الدستور ليس مدونة للمطالب الفئوية بل دوره هنا هو إقامة التوازن الدقيق بين كل الحقوق والمصالح. ولعل المكان الأنسب للمصالح الفئوية والمهنية هو التشريعات العادية, أما الدستور فيجب ألا يتضمن من هذه المصالح إلا ما يرتقي في جوهريته وعمومه وشموله إلي حد اعتباره من الحقوق أو المقومات الأساسية للدولة أو المجتمع. بهذا يكون الدستور دستورا للوطن وليس لفئة او مؤسسة او جماعة مصالح. يبدو أيضا أن لجنة الخمسين تتجاوز أحيانا ما هو جوهري وملح الي ما هو أقل في أهميته وإلحاحه للمجتمع المصري. من ذلك مثلا الحديث عن تعديل عبارة مسائل الأحوال الشخصية للمسيحيين واليهود إلي مسائل الأحوال الشخصية لغير المسلمين. فمع وجوب احترام معتقدات الغير وحرياتهم إلا أن مصر كما نعرف ليست دولة متعددة المعتقدات والفلسفات غير السماوية مثل ماليزيا أو اندونيسيا أو الهند مثلا حيث يوجد أعداد لا يستهان بها من البوذيين والكونفوش ومعتقدات أخري كثيرة. لم تكن ثمة ضرورة ملحة لمثل هذا التعديل الذي لا تبدو سرعة المجتمع المصري مهيأة الآن لتقبله. ربما يحدث ذلك مستقبلا لكن الدساتير تعبر عن حاضر مجتمعاتها. أما الأمر الثالث فهو تحمس البعض منذ فترة لفكرة تجيز عزل رئيس الجمهورية قبل انتهاء مدة ولايته الدستورية عن طريق تقديم عدد من التوقيعات الشعبية المطالبة بعزله يفوق عدد الأصوات التي حصل عليها هذا الرئيس في الانتخابات. يبدو هذا المقترح استنساخا لفكرة تمرد وإن أضاف البعض إليها أن يتم ذلك تحت رقابة البرلمان. هذا مقترح لا يمكن أخذه علي محمل الجد لأنه في الواقع المصري سيجعل من المصريين (أعجوبة) يتسلي العالم بمشاهدتها. فالأرجح ان المصريين في ظل وجود مثل الخيار الدستوري لن يتبقي لهم رئيس لأكثر من عام أو عامين. أما القول بأن هذا الأسلوب لعزل رئيس الجمهورية مأخوذ به في بعض الديمقراطيات المتقدمة فإنه يجب علينا قبل اقتباس هذا الأسلوب أن ننقل أولا مقومات وبيئة هذه الديمقراطيات في مصر. ليس هناك في مسأله عزل رئيس الجمهورية سوي الأساليب الدستورية ذات المنطق الديمقراطي. ففي فرنسا التي أخذت عنها مصر نظامها القانوني لا يجوز عزل رئيس الجمهورية قبل انتهاء مدة ولايته, إلا بشرطين أولهما موضوعي ويتمثل في إخلاله بواجباته بما يتنافي بشكل واضح مع ممارسة ولايته وثانيهما إجرائي يتمثل في وجوب صدور قرار العزل بأغلبية ثلثي البرلمان مشكلا في هيئة محكمة عليا. لهذا يبدو معقولا ما صرح به رئيس لجنة نظام الحكم في لجنة الخمسين (الاهرام 17 سبتمبر الحالي) من أن اللجنة اتفقت علي أنه يحق لثلث البرلمان اقتراح سحب الثقة من رئيس الجمهورية, فإذا وافق ثلثا الأعضاء يعرض الأمر علي استفتاء شعبي. لكن ما زال مطلوبا شرط موضوعي آخر يسوغ للبرلمان سحب الثقة من الرئيس. فلابد من توجيه تهمة الخيانة العظمي أو مخالفة واجبات المنصب الرئاسي بانتهاك أحكام الدستور أو القانون حتي لا نخلط بين الخطأ السياسي وهو وارد وبين جريمتي الخيانة العظمي ومخالفة الدستور. وفي الحالتين يجب أن يتضمن الدستور أو القانون تعريفا محددا لهاتين الجريمتين. وعدم النص علي ذلك يعني التباسا دستوريا والمضي الي مرحلة أخري من عدم اليقين السياسي. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم