حين نعود بالذاكرة إلى عشية انسحاب القوى المدنية والليبرالية من اللجنة التأسيسية التى صاغت دستور 2012 المعطل حاليا نكتشف أن سبب انسحابها كان يتعلق فى شقه الموضوعى بالمواد الدستورية المختلف عليها وفى الشق الإجرائى بمعيار تشكيل اللجنة وآلية عملها. اليوم اختلفت الظروف واستجدت متغيرات لكن تبقى المخاوف قائمة. هنا قراءة فى بعض المخاوف الموضوعية والاجرائية. مخاوف موضوعية ثمة تخوف أساسى يتعلق بالمواد الدستورية المطروحة للتعديل. هناك ما يقرب من ستين مادة تطالب القوى المدنية والليبرالية بتعديلها. ومن هذه المواد ما يتضمن أكثر من فقرة فرعية ما يعنى أننا بصدد المائة أو المائة والخمسين نصا دستوريا مطروحا للتعديل. لو أننا أخذنا بكل هذه التعديلات فنحن بذلك على وشك إنجاز دستور جديد من الناحية الفعلية لكنه سيبقى من الناحية القانونية مجرد تعديل لدستور 2012 وهو أمر لا يبدو مألوفاً أو منطقياً. ثم هل سيسمح الوقت القصيرالمحدد فى الإعلان الدستورى للانتهاء من كل هذه التعديلات وتحقيق توافق وطنى حولها بعد طرحها للنقاش العام على كل المؤسسات المعنية فى الدولة؟ من الطبيعى أن تعتبر كل فئة فى المجتمع أن المواد التى تهمها فى الدستور بالغة الأهمية وأن يتطلع الناس إلى دستور يحقق كل تطلعاتهم. لكن يجب ألا تأخذنا العواطف والمشاعر بعيداً. فالدستور هو آخر أداة يمكن استخدامها لإرضاء بعض القوى والفئات التى عجلت بإسقاط دستور 2012 وكل النظام السابق. العقل وحده هو الحاكم بيننا ومصلحة الوطن هى الفاصل بين المصالح الفئوية أو السياسية المختلفة. فقد تؤدى الرغبة فى إرضاء فئات مهنية ذات سطوة لأن نجد انفسنا أمام (دساتير) وليس دستورا متسقا ومتناغما فى أحكامه. إن دساتير الدول الديمقراطية المتقدمة لم تنجح إلا بقدر نجاحها فى إقامة توازن دقيق وصارم بين الحقوق والمصالح المتعارضة. فليس هناك حق لا يقابله حق آخر. ولا توجد مصلحة لا تهدد بالإضرار مصلحة أخرى. لهذا لا يتصور مثلا أن يتم تكريس حريات الرأى والتعبير بغير حظر واضح وصريح للتحريض على العنف أو الكراهية. ●●● ثمة تخوف آخر ينصب على النص الخاص بحق إنشاء الأحزاب السياسية. فالقوى المدنية والليبرالية مصممة على حظر إنشاء أحزاب سياسية على أساس دينى. أما التيار الاسلامى فهو يؤيد فقط حظر قيام الأحزاب السياسية على أساس التفرقة بين المواطنين بسبب الدين، وهو الحظر الوارد فى المادة 6 من دستور 2012 المعطل. الفارق كبير بين الحظرين ليس هنا الآن مجال لمناقشته. المؤكد أن هذا النص الخاص بإنشاء الأحزاب السياسية يمثل «مسألة وجودية» لكل من التيارين الاسلامى والمدنى. وسيعتبر كل منهما هذه المسألة الوجودية معركته الدستورية الحاسمة. إذا نجحت القوى المدنية والليبرالية فى تمرير نص حظر إنشاء الأحزاب على أساس دينى فهذا قد يعنى الموت الإكلينيكى لتيار الإسلام السياسى. والمتوقع ان هذا التيار لن يستسلم ببساطة لمثل هذا المصير. وإذا نجح الإسلاميون فى استبعاد هذا النص سيعتبر الليبراليون أنهم قد فقدوا فرصة سانحة قد لا تتكرر. لهذا يبدو ان الخيار الآمن على صعيد السلم الاهلى والأقل كلفة على صعيد التحول الديمقراطى هو فى الإبقاء على الصياغة الحالية للمادة 6 فى دستور 2012 المعطل مع تنظيم هذه المسألة بموجب تشريع عادى يوضع لاحقاً يفصل بين النشاط الدعوى والعمل السياسى ويقنن الوضع القانونى لجماعة الإخوان المسلمين بحيث تخضع لما تخضع له سائر الجمعيات الأهلية من أحكام.
مخاوف إجرائية أحد هذه المخاوف أن الإعلان الدستورى المؤقت الصادر فى 8 يوليو لم يوضح مثلا طبيعة العلاقة بين لجنة العشرة ولجنة الخمسين. وفقاً للمادة 28 من الاعلان ليس للجنة العشرة سوى حق (اقتراح ) التعديلات. مؤدى هذا أن لجنة الخمسين ليست ملزمة بما تقترحه لجنة العشرة. ثمة ملاحظات عديدة بشأن لجنة العشرة فات على أى حال أوان إبدائها. من ذلك مثلا أن العدد الزوجى لتشكيل أعضاء اللجنة (10 أعضاء) سيعطل الاحتكام إلى قاعدة تصويت الأغلبية فيما لو اختلف رأى الأعضاء بشأن مسألة ما. هناك تخوف آخر يتعلق بتشكيل لجنة الخمسين الأرجح انه سيكون مبعثا لخلاف يذكرنا بالخلاف نفسه حول تشكيل اللجنة التأسيسية التى تمخض عنها دستور 2012. تضم لجنة الخمسين وفقاً للإعلان الدستورى المؤقت ممثلين عن اثنتى عشرة فئة. وقد صدر منذ أسبوع قرار جمهورى بمعايير تشكيل اللجنة ويفترض ان يكون مثل هذا التشكيل معبرا عن كل أطياف المجتمع. لكن ما لبثت الانتقادات أن توالت بشأن تشكيل اللجنة. وهو أمر كان متوقعا على أى حال. فمن الصعب فى بلد قوامه 90 مليون نسمة أن تمثل أطيافه كلها وبما يرضى الجميع ضمن لجنة من خمسين عضوًا. لكن ثمة تساؤلات حول مدى مراعاة الأوزان النسبية لبعض القوى المجتمعية والسياسية فى تشكيل اللجنة. فقد خلا تمثيل النقابات مثلاً من نقابة المعلمين التى تضم أكثر من مليون معلم مصرى ناهيك عن وزنها النوعي. أما المفاجأة المثيرة للجدل فهى تمثيل كل تيار الإسلام السياسى فى اللجنة بعضوين فقط! مثل هذا التمثيل المتواضع يعكس حذقا من جانب الذين وضعوا منهجية تشكيل اللجنة. هى منهجية ماكرة لكنها لا تخلو من منطق. قد يرى البعض ان التشكيل غير منصف لوزن الاسلاميين فى الشارع السياسى لاسيما مقارنة مع تمثيلهم فى اللجنة التأسيسية لدستور 2012. لكن الفارق أن تشكيل تأسيسية 2012 قد ارتكز إلى نتائج آخر انتخابات لمجلسى الشعب والشورى والتى أعطت للإسلاميين نحو ثلثى عددالمقاعد. أما فى لجنة 2013 فالواضح أنها لم تعتد بخريطة التمثيل السياسى فى مجلسى الشعب والشورى اللذين تم حلهما وبالتالى انطلقت من نقطة التساوى بين جميع القوى السياسية. من الواضح أيضاً ان التمثيل المتواضع للتيار الإسلامى فى اللجنة يعكس شئنا أم أبينا الواقع السياسى الجديد بعد 30 يونيو. وفى الاحوال كافة فإن تشكيل اللجنة اعتمد منهجية التمثيل المجتمعى والمهنى وليس منهجية التمثيل السياسي. صحيح أن التيار المدنى والليبرالى يبدو هو الأكثر تمثيلاً داخل كل هذه القوى والطوائف المجتمعية والمهنية لكن ما بوسعنا أن نقول؟ هذه هى اللعبة السياسية. فعلها الاسلاميون فى لجنة 2012 ويفعلها الليبراليون اليوم. وسيفعلها الأقوى سياسيا فى كل زمان. أليس القانون فى جوهره هو تنظيم لمصالح قوى مجتمعية متعارضة تنظيماً يعكس مصلحة الأقوى بينهم لحظة وضع هذا القانون (والدستور هو قانون بمرتبة أعلى)؟ ●●● السؤال الأخطر فى ظلّ الأفق السياسى المسدود حالياً هو فيما لو قاطع التيار الإسلامى أعمال لجنة الخمسين. هل سيكون غياب التوافق الوطنى على التعديلات الدستورية مطعناً ينال منها على نحو ما كان الأمر بشأن مقاطعة التيار المدنى والليبرالى لأعمال لجنة دستور 2012؟ تساؤلات إجرائية أخرى بشأن عملية الاستفتاء ذاته على التعديلات المرتقبة. هل سيكون لأفراد الجيش والشرطة حق التصويت فى هذا الاستفتاء مثلما طالب البعض مؤخرا؟ وهل يكفى لإقرار مشروع التعديلات الدستورية أن تحظى بموافقة الأغلبية البسيطة من المقترعين أم لا بد من أغلبية موصوفة لا تقل مثلا عن الستين فى المائة أو ثلثى أصوات المقترعين مثلما طالبت الأحزاب والقوى المدنية والليبرالية بشأن الاستفتاء على دستور 2012؟ وماذا لو جاءت نتيجة الاستفتاء فى نهاية المطاف بالرفض أو بنسبة أقل من تلك التى حظى بها دستور 2012؟ هذه عينة من مخاوف دستورية.. فعلام يا ترى يسفر المخاض؟