لا يزال السؤال القديم المتجدد مطروحا أمامنا جميعا يتلمس في الإجابة السبيل لخروج آمن للمحروسة مما ألم بها ولا يزال من معضلات نالت من وحدتها وسلامتها داخليا و من مركزها وثقلها الإقليمي والدولي خارجيا. أحسب أن تردي التناول منذ25 يناير إنما يرجع إلي المسارعة في حصاد المكتسبات المصاحب لنزعة إنتقامية ما لها من قرار و عدم إعمال مبدأ سيادة القانون في ضوء التسويغ بالقانون وأخيرا إفتقاد الرؤية المستقبلية بحكم عدم الإلتزام بدراسات المستقبل حبيسة الأدراج في شتي المجالات وأخيرا غلبة الإجتهاد العشوائي في التناول. بيد أنه في ضوء معطيات الماضي وتوجهات الحاضر في تناول إشكاليات الموقف الوطني المركب فإن ثمة طرحا ثلاثي الأبعاد فيما نري يمكننا أن نرتكز عليه في صياغة عادلة ومتوازنة للمستقبل, قوامه العدالة الإنتقالية والمصلحة العليا للدولة وأخيرا التوسع في إنشاء وتفعيل فكرة المراصد المجتمعية. تفصيل بعد إجمال يمكن القول أن السعي قدما لتلمس مفردات العدالة الإنتقالية تمثل في المسارعة به أحد أهم معالم التطبيق التي يمكن تلمسها شريطة توخي البعد عن الإنتقائية أو الإنتقامية علي حد سواء, إذ أن إحساس كل مظلوم أو مكلوم بحصوله علي حقه أو حتي بسبيله لذلك من شأنه تهدئة الخواطر ووأد الثأرات في مهدها بدءا من التعدي علي الحقوق حتي ولو كان تخطيا وظيفيا وإنتهاء بالدم ومرورا بتعديات علي الممتلكات العامة والخاصة. وقد يظن ظان أن المسألة مرتبطة بتطييب الخواطر علي غرار تعويضات إنهيار المساكن مثلا ولكن الأمر أبعد من ذلك بكثير لكونه فيما نري سيندرج تحت مظلة ذات عمادين الأول بالبعد عن الإختلافات التعريفية كتعريف الشهيد مثلا من منطلق المبدأ النبوي الكريم(.. فهجرته لما هاجر إليه). والثاني هو إعمال سيادة القانون بأحكام لا إبطاء فيها ولا تسويغ لا سيما فيما فاحت روائحه.. إذ هل نحتاج للتدليل ماديا علي شواهد الفساد والتعدي ذات الروائح النفاذة. ولعل إنشاء وزارة لتلك العدالة يجعلني متشائما إلي حد كبير لكون الأمر لا يستدعي مزيدا من التجارب التطبيقية البيروقراطية في وقت يصبح فيه التباطؤ خطيئة والتجاهل من الكبائر. أما المبدأ الثاني فيما نري فيرتبط بمنطق الدولة أو حقها في تغليب المصلحة العليا للوطن علي مصالح الأفراد والجماعات والأحزاب. هذا التوجه و إن خرج إصطلاحا من رحم الميكيافيلية السياسية إلا أنه في المجمل يمكن تبنيه من زاويتين, أولاهما حال الإستقرار وفيها تتكفل مؤسسات الدولة بتحديد تلك المصلحة العليا ووسائل تنفيذها وأساليب التعويض فيها عند الإصطدام بمصالح الأفراد ودون تهوين أو تهويل. أما الزاوية الثانية فيمكن تلمسها في حالات عدم الإستقرار حيث يتبناها من يملك قوة التسيير في ضوء غيبة المؤسسات التقليدية و بعيدا عن مفهوم الشرعية الثورية لإتساع البون بينهما, الأمر الذي يجعله ينطبق علي الحالة المصرية بكل مفرداتها حيث باتت الشرعية الشعبية في حاجة إلي قوة داعمة وحامية في آن واحد, وهو ما تمثله جيش الشعب ليصبح تفعيل منطق الدولة و غلبة مصلحتها العليا الجواب الأمثل علي الإدعاء الإنقلابي من قبل الجيش دون ما حاجة لمناقشة قضية حسمها واقع الحال البادي للعيان. أما المبدأ الثالث والخاص بالمراصد المجتمعية فيمثل قضية غاية في الإلحاح والأهمية إذا قورنت بالمبدأين السابقين إذ تنبع أهميتها من إستدامتها, بمعني أن العدالة الإنتقالية سوف تنتفي الحاجة إليها بإنتهاء محدداتها الزمانية والكمية والكيفية وبعدما تستقر آليات تطبيق القانون في الدولة ممثلا في الهيئة التشريعية ومن ثم القضائية. كما أن منطق الدولة في طرح مصلحتها العليا وإن كان أكثر طرحا من سابقه إلا أنه لا يتم اللجوء إليه إلا وفقا لمقتضي الحال وبضوابط صارمة تحول دون سطوة الدولة بإسم المصلحة العليا. أما المراصد فلا غني عنها لمجتمع يرنو دائما لصياغة المستقبل حيث تمثل مسألة رصد الظواهر التي تطفو علي سطح المجتمع أمرا لا يقل اهمية عن رصد الطقس لكون كليهما يقف علي حجم التقلبات أو الإستقرار ومدته. ولقد أحسن أجدادنا الفراعين عندما جعلوا من منصب كبير الرائين واحدا من كبريات المناصب لكون رصده للأفلاك كان يترجم زمنيا إلي تقويم لكل فصل فيه وما دونه مناسبة علي المستوي الديني أو الإقتصادي وغيرهما, أي أن الرصد الفلكي كان يعني بلغة العصر وضع رؤية للأساس الإستراتيجي لمقدرات الدولة. بيد أن الرصد ومراصده في عصرنا لم يعد مقتصرا علي الفضاء الخارجي بل صار ضرورة حتمية لرصد كل جنبات الواقع الداخلي. بما من شأنه تبني وتعظيم الظواهر الإيجابية أو التصدي لمثيلاتها السلبية قبل إستفحالها, مثلما الحال في أساليب الكتابة المستحدثة التي تتضاءل بجانبها دعوة طه حسين حيال اللاتينية و البحر أوسطية. أولو كنا فطنا بالرصد للإستسهال في إستخدام الأسلحة في الدراما علي غرار( عبده موتة) أو( قلب الأسد) لما وجدنا مجتمعا يحمل فيه البعض سلاحه تيها وفخرا يستوي في ذلك لخصومة شخصية أو لأخري سياسية. ولو كنا حافظنا علي رموز المثل العليا كمعادل موضوعي للتدني الأخلاقي بإستباحة التطاول علي الجميع وفي شتي المجالات لما هان علينا الآن المساس بكل قيمة أو النيل منها سواء كانت تضحيات الأجناد أو التعدي علي الكبار, ولما انتشينا طربا لفواصل التلاسن الإعلامي في توازيه مع الدراما. ولو رصدنا مثلا أحوالنا الإقتصادية أو المنظومة التعليمية من زمن بعيد لما صرنا نهبا لصندوق هنا أو معونة هناك, أو انتهي بنا المطاف للإستعاضة عن المدرسة بمراكز تعليمية شائهة تفشت سرطانيا في الجسم الجامعي أيضا.. ولو ظللنا نرصد لمل منا الرصد لا سيما في ضوء الإدبار عن المواجهة التي هي بداية العلاج أو تنامي الإستمرار. إن مصر المحروسة المثخنة بجراح شديدة التعقيد والتركيب لن تستطيع أن تسترد عافيتها بالوسائل الإنتقائية, بل إننا نري أن العلاج الناجع لها هوالقائم علي المباديء متباينة الآجال, قصيرها ممثلا في العدالة الإنتقالية ومؤقتها في المصلحة العليا للدولة ومستدامها في المراصد المجتمعية. وهي فيما نري المباديء التي تمثل قاعدة مثلثة الأضلاع لخارطة الطريق نحو الغد المأمول للكنانة, فهلا بدأنا حتي لا ينسحب من الوطن زمنه؟ كلية الآداب- جامعة الإسكندرية لمزيد من مقالات د. حسن السعدي