يتردد علي الأسماع كثيرا هذه الأيام القول بوجوب توفير ما يسمي بالعدالة الانتقالية لمواجهة حالة الاضطراب والانقسام الحاد التي شهدها ومازال يشهدها الشارع المصري. ووقع كثير من سوء الفهم وسوء التفاهم حولها, وبدا من الضروري أن يسعي الجميع إلي تحقيق مصالحة وطنية في الوقت عينه. أيا كان ما يطلق عليها من أسماء فهي تعني عدالة فترة الانتقال من الثورة إلي الاستقرار وترمي أساسا إلي الانتقال بالمجتمع من مرحلة الاستبداد إلي صميم مرحلة الديمقراطية. والحق أن العدالة الانتقالية ذات صلة وثيقة بالمصالحة الوطنية فهي تقوم أصلا علي خمس دعائم رئيسة ومترابطة تشكل أهدافا خمسة لها في الوقت ذاته هي' معرفة الحقيقة' و'المحاسبة والقصاص' و'تعويض الضحايا' و'التطهير والإصلاح المؤسسي' والوصول' بالمصالحة', وإن نجاح الأهداف الأربعة الأولي من شأنه أن يمهد الطريق نحو تحقيق الهدف الخامس والأسمي وهو المصالحة بما يعجل إرساء السلام الاجتماعي. فأول أهداف العدالة الانتقالية هو ضرورة معرفة حقيقة ما وقع من جرائم وانتهاكات لحقوق الإنسان خلال فترة الاستبداد مع تحديد المسئول عنها, فضلا عن كشف ما ضرب البلاد من فساد مع توضيح أسبابه وأبعاده وكيفية مواجهته وآليات استرداد عائداته. كما تحث مبادئ العدالة الانتقالية السلطات المعنية علي اتخاذ ما يلزم من إجراءات جنائية وغير جنائية لمحاسبة المسئولين عن تلك الجرائم والقصاص للشهداء وللمصابين الابرياء في أحداث الثورة, وفقا للقواعد القانونية العادية السارية أو وفقا لقواعد العدالة الانتقالية التي تمكن القوي الثورية من تبني قواعد استثنائية حتي في مجال إرساء المسئولية الجنائية, شريطة أن تتسم بالموضوعية والبعد عن تحقيق أو ترضية الأهواء الشخصية. ومن أهم مرتكزات مفهوم العدالة الانتقالية تعويض الضحايا وجبر ما لحق بهم من أضرار وتخليد ذكراهم, ولا ينكر منصف أن القوي الثورية والحكومات المتعاقبة التي أدارت شئون البلاد بعد الثورة قد اتخذت بعض الإجراءات في سبيل تحقيق هذا الهدف, إلا أنها لم تستوف كافة المعايير المتطلبة في هذا الشأن. يقترن ذلك بتطهير مؤسسات الدولة ممن أفسدوا وأجرموا في حق البلد, وبالتالي فلا يعكس مفهوم العدالة الانتقالية فقط مفهوم العزل السياسي بل أيضا مفهوم العزل المؤسسي. إلا أنه يجب أن يتم تطبيق هذه الإجراءات في أضيق الحدود وبدون تمييز وفقط ضد من يثبت ضدهم الضلوع في إفساد الحياة السياسية. وأخيرا تأتي مرحلة المصالحة والوفاق التي يجب أن تشكل لها لجان أو مفوضيات متخصصة تعمل من خلال أطر قانونية محددة لتكريس ثقافة الحوار وتحقيق الوئام والمصالحة بين طوائف الشعب المختلفة, ومن الممكن أن تناط تلك المهمة بلجان تقصي الحقائق متي فرغت من أداء مهامها الأساسية, بضم عناصر من الحكماء إليها. إلا أن بلوغ المصالحة وتحقيق اللحمة الوطنية قد يكون أمرا بعيد المنال طالما لم يتم تحقيق أهداف العدالة الانتقالية السابق ذكرها, والتي تتطلب تضافر جهود جميع القوي الثورية والشعبية لتيسير كافة إجراءات العدالة الانتقالية. الأمر الذي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال المشاورة المجتمعية الفاعلة. ومن أهم المعايير التي يجب مراعاتها عند الاضطلاع بآليات وإجراءات العدالة الانتقالية: تبجيل القواعد الدولية الراسخة خاصة تلك المتعلقة بالعدالة والإنصاف والمشروعية, والالتزام والتقيد بها. والتركيز علي مصالح وحقوق الضحايا. إصلاح وتطوير منظومة العدالة الجنائية بما يسمح بتطبيق إجراءات العدالة الانتقالية بطريقة ناجزة ويضمن حماية الشهود والمبلغين في الإجراءات الجنائية. دعم السلطة القضائية وضمان استقلال القضاء. والاضطلاع بآليات العدالة الانتقالية من خلال مناخ يسمح بترسيخ مبادئ سيادة القانون, والالتزام بهذه المبادئ حتما ولزوما. التوفيق بين الوضع السياسي القائم وبين ما يتم تبنيه من آليات العدالة الانتقالية. ومعالجة الفرقة والانقسام بين طوائف المجتمع واتخاذ التدابير اللازمة للتغلب عليها, واستئصال جذورها. أن تتسم إجراءت وآليات العدالة الانتقالية بالتأقيت, بحيث تنتهي بتحقيق أهدافها. واتباع إطار مؤسسي شامل في تطبيق معايير العدالة الانتقالية. هذا الإطار المؤسسي يستلزم- من وجهة نظرنا إصدار تشريع وطني متكامل يحدد آليات العدالة الانتقالية ويبين كيفية تحقيق أهدافها. ومن أهم مميزات قانون العدالة الانتقالية أنه يوفر إجراءات جنائية فاعلة لإقامة مسئولية قتلة المتظاهرين السلميين, كما أنه يوفر آلية ناجزة للاستخدام الأمثل للأدلة والقرائن, تماشيا مع أعلي معايير العدالة الجنائية الدولية السائدة, فضلا عن أنه يسمح بتبني إجراءات قد تكون ذات طبيعة استثنائية تقتضيها عادة مصالح الثوارت الشعبية بدلا من أن يتم تبنيها بدستور الدولة الذي يجب أن تتسم نصوصه بالدوام والاستقرار, بما يضمن تنزيهه عن أية إجراءات ذات طبيعة وقتية أو انتقائية. وهي موازنة صعبة التحقيق تتطلب عقليات قانونية راجحة منزهة عن الهوي وأفئدة خالية من مشاعر البغض والحقد ومن المداهنة والنفاق.. إن المتأمل فيما تم انجازه من إجراءات وتدابير عقب ثورة25 يناير وحتي اليوم, يمكن أن يلحظ أن هناك بعض المحاولات لتطبيق آليات العدالة الانتقالية, إلا أنها تمت بطريقة مجتزأة وغير شمولية. وإن حالة الاضطراب والعنف المتجدد التي يشهدها الشارع المصري الآن هي إحدي تداعيات التطبيق القاصر لمنظومة العدالة الانتقالية, وقد كان من الممكن تجنيب البلاد حالة الانقسام التي حاقت بها وبالمجتمع المصري وحالة الاستقطاب الحاد الذي ضرب أطنابه لو كان قد تم تكريس قواعد العدالة الانتقالية وفقا لإطار تشريعي محكم وشامل في ظل توافق مجتمعي هادف, وهو أمر نادينا به من قبل ونادي به أيضا العديد من كبار رجال القانون الملمين بمبادئ ومفاهيم العدالة الانتقالية, ومنهم الدكتور محمد سليم العوا الذي قرر في عبارة جازمة أنه' لايمكن تحقيق أهداف العدالة الانتقالية إلا بالتلاحم بين الإرادة السياسية للدولة والإرادة الشعبية للمجتمع'. المزيد من مقالات المستشار.عادل ماجد