إن الأحكام الجنائية يجب أن تبني علي الجزم واليقين لا علي الظن والاحتمال, ويجب أن يشتمل كل حكم بالإدانة علي بيان الواقعة المستوجبة للعقوبة.. بيان تتحقق به أركان الجريمة والظروف التي وقعت فيها والأدلة التي استخلصت منها المحكمة ثبوت وقوعها من المتهم, وأن تلتزم بإيراد مؤدي الأدلة التي استخلصت منها الإدانة حتي يتضح وجه استدلالها بها وسلامة مأخذها وإلا كان الحكم قاصرا, ويكفي في المحاكمة الجنائية أن يتشكك القاضي في صحة إسناد التهمة إلي المتهم لكي يقضي له بالبراءة, إذ مرجع الأمر في ذلك إلي ما يطمئن إليه في تقدير الدليل. هذه هي المبادئ التي أرستها محكمة النقض المصرية لعقود طويلة من الزمان, والتي يلتزم القاضي الجنائي المصري بتطبيقها, وإلا خرج عن قواعد الشرعية ومبادئ الإنصاف. ووفقا للقواعد العامة, فإن القاضي الجنائي مقيد بما يقدم إليه من أدلة, والأدلة في المواد الجنائية متساندة يشد بعضها بعضا, والمحكمة تكون عقيدتها منها مجتمعة بحيث إذا سقط احدها أو استبعد تعذر التعرف علي مبلغ الأثر الذي كان للدليل الباطل في الرأي الذي انتهت إليه. ولذلك فإن المرحلة الانتقالية التي مرت وتمر بها مصر, في ظل ما ارتكب من جرائم جسيمة في حق أبناء الشعب المصري, كانت تستوجب تبني آليات متطورة للمحاسبة والعقاب قصاصا لشهداء الثورة, وهي ما يطلق عليها مبادئ العدالة الانتقالية التي تتيح للقوي الثورية تبني آليات مستحدثة لجمع وتقييم الأدلة عندما تعجز الأجهزة المختصة في الدولة عن ذلك, إما لتخاذل أو تعمد أو عدم قدرة أو ضعف في الإمكانيات, كما تتيح محاكمة كبار المسئولين عندما يثبت تورطهم, بأدلة مباشرة أو غير مباشرة, مع آخرين في إحدي حلقات أو عناصر مشروع إجرامي وذلك بغض النظر عن الدور الذي لعبو في تنفيذ ذلك, وفقا لأحكام المسئولية في نظرية المشروع الإجرامي المشترك, كما تثبت مسئولية القائد أو الرئيس لمجرد علمه بارتكاب جرائم جسيمة ضد المدنيين دون تدخل منه لمنعها أو وقفها أو محاسبة المسئولين عنها, وفقا لنظرية التسلسل القيادي. والإجراءات المتقدمة تتطلب بطبيعة الحال تشريعات خاصة متطورة يتمكن القضاء من خلالها من إعمال سياسة عدم الإفلات من العقاب علي النحو الأمثل. فالمعايير الدولية تقوم علي حقيقة أنه في البلاد التي عانت من نظم استبدادية يجب أن يعقب زوال هذه النظم الأخذ بمبادئ العدالة الانتقالية التي تقوم أساسا علي توثيق الانتهاكات الجسيمة التي تم ارتكابها في حق المواطنين بطرق ناجزة, ومحاسبة المسئولين عنها, ومعرفة الحقيقة, وإصلاح مؤسسات الدولة وإعادة هيكلة من تورط منها في ارتكاب الجسيم من الجرائم والتجاوزات, وإعلام المواطنين بحقيقة ما حدث من انتهاكات في حقهم وتحديد المسئولين عنها ومحاسبتهم, مع القصاص العادل للضحايا وإنصاف أهليتهم, ووضع البرامج اللازمة لإعادة تأهيل ودمج من هم علي قيد الحياة منهم, فضلا عن تحقيق المصالحة بين طوائف الشعب المختلفة. ولا ينكر منصف قصور منظومة العدالة الجنائية بصورتها الحالية في مصر عن ملاحقة مرتكبي الجرائم الجسيمة والخطيرة ضد أبناء الشعب المصري, فهي لم يتم تطويرها لوقت طويل بحيث أصبحت قديمة متهالكة لا تتمكن من التجاوب مع طوائف عديدة من الأفعال الجسيمة والجرائم المستحدثة. وما شهدته مصر من محاكمات في العديد من القضايا المهمة, وما تم من إجراءات بشأن العديد من الجرائم قد أثبت هذا القصور. إن الجرائم التي ارتكبت في أثناء وعقب ثورة25 يناير تتميز بالجسامة والضخامة والتنظيم وتتطلب تحقيقات مطولة وإجراءات معقدة لجمع الأدلة الجنائية, وتوافر قاعدة تشريعية تلبي احتياجات المجتمع وتتواءم مع التطورات الجديدة والمستجدات الدولية والمحلية, وتضمن محاكمة المسئولين عن الجرائم ضد أبناء الشعب المصري وفقا للنظريات الجنائية الحديثة وليس وفقا لنظريات تقليدية أدي تطبيقها إلي نتائج شاذة, يحاكم من خلالها القائد والرئيس علي أنه شريك, ويحاكم الجندي أو البلطجي- أو غيرهما من الأشخاص الذين تم استخدامهم في الهجوم علي المتظاهرين السلميين- علي أنه فاعل أصلي, بينما يظل المخطط الأكبر لها بمنأي عن العقاب, وهو أمر يأباه المنطق القانوني السليم. ومسألة تضمين هذه النظريات الحديثة للتجريم والعقاب التشريعات الوطنية ليست بدعة, فجميع الدول المتقدمة قد ضمنتها بالفعل تشريعاتها الوطنية, بل إن الأمر امتد ليشمل أيضا العديد من دول العالم الثالث. ولما كان قانون العقوبات مظهرا من مظاهر الحياة الاجتماعية فإنه ينبغي أن يساير روح العصر ومقتضياته وأن يتصدي بالتجريم والعقاب أو الحماية لكل أمر يكشف واقع الحال عن ضرورة التصدي له, وكما ظهر جليا في العديد من القضايا المهمة المنظورة أمام المحاكم المصرية فإن العديد من المجني عليهم والشهود قد يتعرضون للتهديد بالانتقام أو الإغراء لتغيير شهادتهم أو التأثير عليهم أو منعهم من أدائها, وبالتالي فمن الضروري سرعة إصدار التشريعات اللازمة لحماية الشهود والمبلغين والضحايا والتي تسمح بأن تتضمن النظم القانونية أو الإدارية الوطنية تدابير لتزويد الشهود والضحايا بمعلومات عن الإجراءات القضائية والإدارية ذات الصلة, وتوفير المشورة لهم بشأن حقوقهم القانونية, مع وضع برامج فعالة لحمايتهم, وامتداد الحماية لتشمل أفراد أسر الضحايا. وإنه لأمر مخز أن نلاحظ أن دولا عربية عديدة من حولنا مرت بظروف مشابهة قد أصدرت قوانين خاصة بالعدالة الانتقالية تنظم عمل لجان تقصي الحقائق وتحدد اختصاصاتها, وعززت من طرق جمع الأدلة ضد كبار المسئولين, كما أنشأت محاكم خاصة تعتمد علي نظريات حديثة لإثبات مسئوليتهم الجنائية, وهو الأمر الذي لم يتم حتي اليوم في مصر. إن تطوير منظومة العدالة الجنائية علي هذا النحو سوف يشكل في حد ذاته رادعا لكل من تسول له نفسه ارتكاب مثل تلك الجرائم مستقبلا ضد أبناء الشعب المصري, ويعمل علي ترسيخ ثقة الرأي العام العالمي في النظام القضائي المصري بعد كل ما وجه إليه من مطاعن وأحاط به من ظنون, حماية لأبناء الشعب المصري وتكريسا لمكتسبات ثورتهم. المزيد من مقالات المستشار.عادل ماجد