■ يرتبط مفهوم «العدالة الانتقالية» بفترات التحول السياسى فى الدول التى كانت محكومة بنظام قائم على العنف والقمع ■ قضية العدالة فى مواجهة الاستقرار، هى أهم القضايا التى تشكل تحديًا حقيقيًا لمفهوم العدالة الانتقالية
مي سمير
بعد مرور نحو 19 شهرا على ثورة 25 يناير، سجن خلالها آلاف المدنيين بأحكام عسكرية، وخرج خلالها عدد من أركان نظام مبارك «براءة»، تذكر الجميع فجأة مصطلح «العدالة الانتقالية»، لمجرد أن رئيس الجمهورية، قرر تعيين منافسه السابق فى الانتخابات الرئاسية، مستشارا له لشئون العدالة الانتقالية، وهو ما يطرح تساؤلا حول إمكانية تطبيقها بأثر رجعى، بعد الإعلان عن انتهاء المرحلة الانتقالية، إلا قليلا.
لكن قبل أن يفكر أحد فى إمكانية تطبيق مفهوم العدالة الانتقالية بعد أن وضع «الواقع» بصماته على الحياة السياسية والقانونية فى مصر، فلوثها وتلوث بها، يبقى السؤال الأهم: ما هى «العدالة الانتقالية»؟، والتى تم تجاهل قواعدها عمدا على مدار 19 شهرا قبل أن يظهر لها «احتياج» لدى حكام مصر.
يرتبط مفهوم «العدالة الانتقالية» بفترات التحول السياسى فى الدول التى كانت محكومة بنظام قائم على العنف والقمع، إلى نظام ديمقراطى، ويشير المفهوم وفقا لموقع الموسوعة العالمية، إلى مجموعة من الإجراءات تلجأ إليها الدول، لمعالجة انتهاكات سابقة لحقوق الإنسان، ويشمل المفهوم الإجراءات القضائية وغير القضائية على حد سواء، وهو ينبع من الرغبة فى إعادة بناء الثقة داخل المجتمع، وإصلاح نظام العدالة المكسور، وبناء نظام ديمقراطى للحكم، وتتمحور قيمة العدالة الانتقالية حول فكرة العدالة، وليس بالضرورة، العدالة الجنائية وحدها، فالعدالة لها وجوه أخرى متعددة.
وترجع أصول «العدالة الانتقالية» إلى الحرب العالمية الثانية فى أوروبا، التى تم على أثرها إنشاء «المحكمة العسكرية الدولية» فى نورمبرج، وتأسيس برامج مختلفة للقضاء على النازية فى ألمانيا، بالإضافة إلى محاكمات الجنود اليابانيين، المتورطين فى جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، لتظهر ما عرف فيما بعد باسم «محاكمات نورمبرج»، وفى ظل تطبيق القوات المتحالفة المنتصرة للعدالة الجنائية فى اليابانوألمانيا على الجنود وقادتهم، نشأ بشكل مواز لتلك المحاكمات، مفهوم العدالة الانتقالية.
بدءا من الثمانينيات من القرن الماضى، اكتسب مفهوم العدالة الانتقالية ثقلا وأهمية أكبر، مع البدء فى محاكمات الأعضاء السابقين فى المجالس العسكرية فى اليونان، عام 1975، ومحاكم المجالس العسكرية فى الأرجنتين، عام 1983، وكان تركيز المفهوم خلال هذه الفترة على العدالة الجنائية، مع الحرص على تعزيز حقوق الإنسان.
ومع بداية التسعينيات، شهد المفهوم قفزة كبيرة، فى ظل موجة التحولات الديمقراطية التى شهدها العالم فى هذا الوقت، والتى أطلق عليها صموئيل هانتنجتون، أستاذ السياسة فى جامعة هارفاد الأمريكية، اسم «الموجة الثالثة»، فى كتابه الصادر عام 1991، تحت عنوان «الموجة الثالثة.. الانتقال الديمقراطى فى نهاية القرن العشرين»، فى إشارة إلى انهيار الاتحاد السوفيتى، وتغير الأنظمة السياسية فى أمريكا اللاتينية ودول أوروبا الشرقية.
وفى تلك المرحلة التى تحدث عنها هانتنجتون، بدأ مفهوم العدالة الانتقالية فى التركيز على الاعتبارات السياسية، أكثر من حرصه على فكرة السوابق القضائية، حتى تستطيع المجتمعات التى تشهد انتقالا سياسيا، أن تؤسس مؤسسات ديمقراطية مستقرة، و مجتمعًا مدنيًا، وبدأ الأكاديميون أمثال هانتنجتون، فى دراسة الأوضاع السياسية المضطربة، التى تشهدها مراحل التحول السياسى، عادة، وتوصل هانتنجتون وزملاءه إلى أن التحديات التى تشهدها عملية الانتقال الديمقراطى عديدة ومختلفة، ومنها تسوية حسابات الماضى، دون عرقلة التقدم الديمقراطى، وتأسيس كيان قضائى قادر على حل النزاعات، وتقديم التعويضات اللازمة لضحايا النظام السابق، وتطوير المناهج التعليمية لمعالجة الثغرات الثقافية والتحولات الصادمة فى الذاكرة التاريخية للأمة.
وفى ظل الاعتبارات الجديدة، تغير تماما مفهوم العدالة الانتقالية، عما كان الوضع عليه فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مستفيدا من عمل الناشطين فى مجال الديمقراطية.
وتستهدف العدالة الانتقالية بمفهومها العام، مساعدة الدول التى تمر بمرحلة الانتقال السياسى، للوصول إلى مرحلة الاستقرار، وبناء مجتمع ديمقراطى، قادر على المضى إلى الأمام، ووقف الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان، والتحقيق فى جرائم الماضى، وتحديد الأشخاص المسئولين عن انتهاكات حقوق الإنسان، وفرض عقوبات على المسئولين، إذا كان ذلك ممكنا، ومنع حدوث تجاوزات فى المستقبل، وإصلاح قطاع الأمن، وتعزيز السلم والمصالحة الوطنية والفردية.
وحتى تتسم تدابير العدالة الانتقالية بالفعالية، ينبغى أن تكون جزءا من نظام شامل ومتكامل، يتضمن العديد من الآليات، وهناك خمس استراتيجيات عامة أو أشكال للعدالة الانتقالية، أولها الملاحقات القضائية، التى تساعد على تعزيز سيادة القانون، بفرض عقوبات على منتهكى القوانين بعقوبات جنائية.
أما الاستراتيجية الثانية للعدالة الانتقالية، فى الخاصة بالتعويضات، وتهدف فى المقام الأول تعويض ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان أو النظام السابق، على ما تعرضوا له من معاناة، معتمدة على تقديم الدعم الكامل للضحايا، ومساعدتهم فى التغلب على آثار الاعتداءات، وتقديم خدمات التأهيل لهم، وقد تشمل هذه الاستراتيجية تعويضات مالية، وخدمات اجتماعية، بما فى ذلك الرعاية الصحية أو التعليم، أو تعويضات رمزية، مثل الاعتذارات العلنيةط.
والاستراتيجية الثالثة، هى الأكثر شهرة، وتحمل اسم «البحث عن الحقيقة»، وهى مبادرة تسمح للجهات الفاعلة فى الدولة، للتحقيق فى التجاوزات السابقة، والعمل على إنصاف الضحايا، وتهدف هذه العمليات إلى مساعدة المجتمعات على الاعتراف بالجرائم والانتهاكات السابقة، ودراساتها، من أجل منع تكرارها مرة أخرى، كما تساعد هذه الاستراتيجية على إنشاء الوثائق التى تمنع الأنظمة القمعية من إعادة كتابة التاريخ، وإنكار الماضى، ويمكنها أيضا أن تساعد الضحايا فى معرفة الحقيقة حول ما حدث بالفعل، وقد تشمل استراتيجية «تقصى الحقائق» إصدار تشريعات لحرية المعلومات، ورفع السرية على الوثائق والتحقيقات.
وتعتمد استراتيجية تقصى الحقائق على ما يعرف باسم «لجان الحقيقة»، حيث تحولت لجان الحقيقة إلى رمز لفكرة العدالة الانتقالية، وهى هيئة لتطبيق العدالة على شكل محكمة تستدعى ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، للإدلاء بشهاداتهم حول تجاربهم، وتتم بشكل علنى، كما تتاح الفرصة للمتهمين فى قضايا الانتهاكات، للإدلاء بشهاداتهم، وطلب العفو من الملاحقة المدنية والجنائية، وقد تلجأ لجنة الحقيقة إلى إصدار العفو المشروط أو الجزئى، كسبيل لتحقيق العدالة، بدلا من العدالة العقابية، فعوضا عن تقديم المنتهكين لحقوق الإنسان إلى المحاكم، اعتمدت اللجنة على استدعائهم للاعتراف بأخطائهم، وطلب الصفح ممن ألحقوا بهم الأذى.
أما الاستراتيجية الرابعة فى سياسة العدالة الانتقالية، فهى إقامة النصب التذكارية لتخليد ذكرى الشخصيات أو الأحداث، بغرض تكريم الذين دفعوا حياتهم ثمنا لتغيير المجتمع للأفضل، بينما تتضمن الاستراتيجية الخامسة، الإصلاح والتطهير المؤسسى، بما فى ذلك الشرطة والجيش والسلطة القضائية، ويشمل الإصلاح المؤسسى عملية إعادة هيكلة هذه الجهات، لضمان احترام حقوق الإنسان، والالتزام بسيادة القانون.
ورغم التطبيق الواسع لمفهوم العدالة الانتقالية، إلا أن هناك الكثير من التحديات التى تحول دون تطبيقه بشكل كامل على أرض واقع، وهى التحديات المرتبطة بأهداف العدالة الانتقالية فى حد ذاتها، فتحقيق الأهداف يمكن أن يكون محاطًا بالصعوبات، مثل تحديد هوية الضحايا، أو إيجاد الموارد الكافية للتعويض، أو إجراء المحاكمات أو الإصلاح المؤسسى.
ويبقى أن قضية العدالة فى مواجهة الاستقرار، هى أهم القضايا التى تشكل تحديًا حقيقيًا لمفهوم العدالة الانتقالية، فهناك صراع دائم ينشأ بين الرغبة فى تحقيق الاستقرار، وبين تطبيق العدالة فى المراحل الانتقالية، وهنا يطرح سؤال شديد الأهمية نفسه، أيهما أولى بالتطبيق، السلام أم العدالة؟، فمن جهة يرى مؤيدو مدرسة العدالة أن عدم محاكمة مرتكبى انتهاكات حقوق الإنسان، سوف يؤدى فى النهاية إلى استمرار نفس الجرائم فى النظام الجديد، أما مؤيديو مدرسة الاستقرار، فيرون أن السبيل الوحيد لإنهاء العنف فعليا، هو منح العفو، وخوض المفاوضات الرامية إلى إقناع المجرمين بضرورة التخلى عن أساليبهم القديمة.