حفل تراثنا الثقافي باسهامات العديد من الكتاب الذين تناولوا بأقلامهم سير الخلفاء الراشدين فكشفوا حقيقة تلك الحقبة من التاريخ الاسلامي. يقول د. بهاء حسب الله أستاذ الآدب بجامعة حلوان إذا نظرنا الي سيرة الخلفاء الراشدين الاربعة في المؤلفات القديمة والمصادر الحديثة سنجدها ليست مجرد سيرة كتبت بقلم تاريخي ولكن سنجدها سيرة ينظر إليها باعتبارها فنا, إذ صيغت بلغة فنية عالية الجودة فائقة التميز وتم تضمينها في معظم كتب السيرة بحجم فنون العرب القديمة مثل فنون الشعر وتبايناته الفنية المختلفة ومحسناته البديعية وفنون النثر المتباينة كالسجع وحسن التقسيم والصيغ الموسيقية وغيرها ولذا حكم النقاد المعاصرون أمثال د. شوقي ضيف, وزغلول سلام وأحمد بدوي وغيرهم علي هذه السير المتلاحقة بأنها فن من فنون العرب له خصوصية الفنية وبنيته الخاصة. ويستطرد د. بهاء حسب الله مشيرا الي عدد من الكتب التي تناولت السير من بينها عبقريات العقاد وكتب طه حسين( الشيخان/ علي هامش السيرة/ فتنة عثمان/ مرآة الاسلام/ وسلسلة احمد امين) فجر الاسلام وضحي الاسلام وكتاب خالد محمد خالد( رجال حول الرسول) وكتب د. بنت الشاطيء( أرض المنبعث وبنات النبي وغيرها) وموضحا ان هذه الكتابات تميزت بلغة درامية ذات حس عال وبناء سردي متميز يقارب فنون القصة والرواية. السيرة نثرا ودراما ويضيف الدكتور: بهاء حسب الله الاستاذ بكلية الآداب قائلا: يحسب للمبدعين المعاصرين أن اهتموا بكتابة سيرة الخلفاء أمثال العقاد وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل وطه حسين وعبدالرحمن الشرقاوي وبنت الشاطيء الذين نقلوا فن كتابة السيرة من فن التوثيق الي فنون الدراما الأدبية الرائعة, فأثروها ثراء ليس بعده ثراء, وميزوها عن بقية فنون الكتابة الدرامية بلمساتهم الأسلوبية والفنية الرائعة, كل حسب مدرسته, فصياغة العقاد تختلف عن صياغة طه حسين عن صياغة محمد حسين هيكل عن صياغة خالد محمد خالد( رجال حول الرسول) عن صياغة أحمد بهجت عن صياغة محمد سعيد البوطي عن صياغة السيد سابق في كتابه( فقه السنة) ومحمد الغزالي( فقه السيرة) الخ.. وقد حرص معظمهم علي صبغ السيرة النبوية بصبغة دراما الرواية بكامل فنونها بداية من صناعة العنوان, وكذلك فنون السرد المستغرق, والحرص علي مفهوم التماسك النصي, وخلق العمق الدرامي الموضوعي بكامل عقده وتفاعلاته, والصيغ الموظفة في كتابتها, والحرص كذلك علي بنيات الرواية كالحوار, واختيار المواقف التصاعدية الحبكية, والعقدة المتأزمة, وصناعة الخلفية الدرامية, وتوظيف أبعاد الزمان والمكان واختيار راو للأحداث, والوصول الي مراحل الانفراجة, إضافة الي الدقة المتناهية في تفعيل دور الشخصية داخل العمل الأدبي وعدم قصرها علي شخصية الخلفاء فقط باعتبارهم الشخصية الرئيسية, والدقة التامة في اختيار الشخصيات المساعدة والشخصيات الثانوية. ولذلك فإننا نجد العديد من النقاد الذين درسوا أدب العقاد وطه حسين وعبدالرحمن الشرقاوي يقرنون بين لغة هؤلاء المبدعين جميعا في أعمالهم الإبداعية مثل رواية( سارة) للعقاد, ورواية( شجرة البؤس) و(دعاء الكروان) لطه حسين وغيرها, وبين لغتهم الإبداعية في كتابة السير, ورأي الناقد الكبير الراحل عبدالقادر القط أن طه حسين والعقاد حينما كتبا عن أبي بكر وعمر وخالد بن الوليد تأثرا كل التأثير بلغة الدراما والحوار وصناعة القصة والرواية, ونفس الأمر قيل عن الدكتورة بنت الشاطيء حينما كتبت سيرة الخلفاء والصحابة في كتابها النادر( أرض المبعث) وكذلك كتابها عن( آمنة بنت وهب) أم الرسول, وكتابها( بنات النبي) فقال النقاد إنها اختارت المنهج الدرامي الرائي في نسج الشخصية, وصناعة الأحداث, والأمر نفسه قيل عن عبدالرحمن الشرقاوي, خالد محمد خالد. ويتفق الشاعر السكندري جابر بسيوني و د. بهاء حسب الله علي أن موضوع سيرة الخلفاء والتابعين يمكن ان يدرس من زوايا عديدة, منها انه فن توثيقي خالد وله خصوصية شديدة تجعله فنا مختلفا من فنون النثر العربي القديم والمعاصر ومنها أنها لون من ألوان الابداع التاريخي الثري ومنها دراسة السيرة كفن درامي بعيد الأثر شديد التميز وخاصة بعدما كتبه المبدعون امثال العقاد وطه حسين ومحمد حسين هيكل ويضيف د. حسب الله قائلا كما يجب أن ينظر الي فن السيرة من زوايا أخري كزوايا النظر الي الكتب التي دارت حول سيرة الخلفاء والصحابة وكتب الفقه وكتب علوم الحديث وكتب الطبقات والتاريخ وكتب السير الخاصة. فترة الانتقال العصيبة ويوضح د. عبدالرحمن سالم استاذ التاريخ الإسلامي بكلية دار العلوم أن د. محمد حسين هيكل قد أشار إلي أن قصر فترة خلافة أبي بكر( سنتان وبضعة أشهر) دعا بعض المؤرخين إلي تخطيها إلي عهد عمر ظنا منهم أنها لا تتسع لجلائل الأعمال. ولكن هذا في رأي د. هيكل بعيد تماما عن الحقيقة, ذلك أن الإنجازات الهائلة التي حققها أبو بكر خلال هذه الفترة الوجيزة هي التي أسست لكل ما تلاها من إنجازات في خلافة عمر وعثمان وعلي. يقول د. عبدالرحمن سالم: ويلاحظ د. هيكل أن هذا الرجل الوديع السمح ضعيف البدن, تنطوي نفسه عي قوة هائلة لا تعرف التردد ولا الإحجام, ويضيف أن عظمة أبي بكر في خلافته موصولة بعظمته خلال صحبته للرسول صلي الله عليه وسلم; وهي الصحبة التي امتدت23 عاما. فهذه الصحبة النادرة انعكست آثارها العظيمة علي كل أعمال أبي بكر في خلافته, وقد مثل عهد أبي بكر كما يري د. هيكل فترة الانتقال العصيبة الدقيقة التي ربطت بين عهد الرسالة وعهد عمر, ولولا انتصارات أبي بكر في حروب الردة لما استطاع المسلمون أن يواجهوا الفرس والروم, ولتغير مجري التاريخ في العالم كله. ويؤكد د. سالم أن كتاب الصديق أبي بكر للدكتور هيكل عمل تاريخي علمي من الطراز الأول; بذل فيه المؤلف جهدا هائلا في تمحيص الروايات التاريخية المتضاربة في تلك الفترة الحافلة بالأحداث الجسام, وجلا به جوانب العظمة في شخصية أبي بكر قبل خلافته وبعدها, كما أن الأسلوب الذي عرض به هيكل حياة أبي بكر أسلوب أدبي رفيع مع كونه علميا دقيقا. ويشير د. سالم إلي أن ثمة ملاحظة لابد من تسجيلها خلال عرضنا الموجز لهذا الكتاب وهي أن د. هيكل ذكر في كتابه أن سبب تفكير أبي بكر في غزو الفرس والروم هو رغبته في أن يصرف أنظار العرب بعد انتهاء حروب الردة إلي ما وراء الحدود من شبه الجزيرة حتي ينسي العرب أحقادهم ولا يتقاتلون فيما بينهم, والحقيقة أن هذا الرأي يتردد في كتابات بعض المستشرقين, وهو مجانب للصواب, فقد كانت هناك حالة حرب بين المسلمين وبين الفرس والروم عند وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم وكان المسلمون يتوقعون هجوم الروم في أي لحظة, كما كانت غزوة تبوك وهي آخر غزوات الرسول نتيجة لهذه المخاوف لدي المسلمين, وعندما تولي أبو بكر الخلافة كانت هذه المخاوف قائمة وقوية, مما دفعه إلي اتخاذ قرار الغزو. بين أبي بكر وعمر وحول هدف محمد حسين هيكل من دراسة حياة أبي بكر الصديق يقول د. الطاهر مكي أستاذ الأدب بكلية دار العلوم جامعة القاهرة, إن هيكل رأي في دراستها ما يزيدنا حرصا علي التمسك بالإسلام وتعاليمه, وليثبت بالدليل ما ينطوي عليه فجر التاريخ الإسلامي من حقائق نفسية وروحية لا يزال العلم يقف حائرا أمامها. رأي هيكل في أبي بكر وسيرته ما يدعو إلي الإعجاب, خاصة في موقفه الحازم الحاسم من فتنة الردة, الذي أبقي علي وحدة الإسلام وأعطي إشارة البدء في الدفاع عن الدولة, وأذن بالفتح الإسلامي, ونشر الدين الذي أرسل الي الناس كافة, والذي تم كله في ثلاث سنوات اضطربت كتب الرواة في التأريخ لها. ففي كتابه الصديق أبو بكر كان هيكل مهتما بنشأة الدولة الإسلامية والتأريخ لها من منطلق الوعي بأن معرفة الماضي وحدها هي التي تطوع لنا تصوير المستقبل. ويقول د. مكي أن د. حسين هيكل وقف عند اللحظات الفارقة في تاريخ الدولة الإسلامية وكيف واجهها الصديق أبو بكر في حنكة وهدوء وتصميم, وإرادة حاسمة في اتخاذ القرار في اللحظات العصيبة. ففي لحظة موت الرسول( ص) لم يذهل أبوبكر لوفاته كما ذهل عمر, بل خطب في الناس, هذا الموقف في رأي د. حسين هيكل يدل علي قوة نفسية في مواجهة الحقائق اقترنت بقوة أخري هي بعد النظر إلي المستقبل, وهاتان السمتان تثيران العجب من رجل هو الرفق كله والرقة كلها. وفي كتابه حرص حسين هيكل كما يوضح د. مكي علي بيان أن أبا بكر انتصر علي المشكلات الخطيرة بل العصيبة التي واجهها واحدة بعد الأخري في زمن قصير, لا يزيد علي سنتين وثلاثة أشهر, وأنه حول الجزيرة العربية من الثورة علي الدولة الناشئة وخطر التفتت والانقسام إلي أمة متحدة مرهوبة الكلمة, عزيزة الجانب, تنهض بعبء الحضارة في العالم عدة قرون. وإذا كان حسين هيكل قد كشف عن قوة أبي بكر النفسية وبعد نظره فإن كاتبا عملاقا آخر قد حرص علي جلاء العبقرية في شخصية أبي بكر, هو عباس العقاد في كتابه العظيم عبقرية الصديق وفي تناوله لشخصية أبي بكر رضي الله عنه في كتابه عبقرية الصديق بلغت العقاد في أستاذية باهرة الي أن هناك فرقا بين الصورة الصادقة وتجميل الصورة الذي يخرج بها عن حقيقتها. وفي عرضه لعبقرية الصديق يعقد العقاد موازنة جيدة بين الصديق أبي بكر والفاروق عمر, ويري أن بين هذين الرجلين العظيمين تقابلا كثير الشعب متعدد الأنحاء, وهو تقابل ينتهي الي التجاذب والاخاء, ولا ينتهي الي التدافع والنفار, لأنهما كانا يحومان معا في نطاق كوكب واحد, او نظام كوكبي واحد كما تحوم السيارات والأقمار حول شمس واحدة, هي لها جميعا مركز أصيل لاتنفصل عنه. وربما دخل في وجوه التقابل بين الصديق والفاروق أكثر ما أجمله العقاد من الفوارق التي تختلف بها نماذج الناس: العقل والعاطفة والمحافظة والتجديد والواقع والمثل الأعلي وما لا يحصي من الألوان والأطراف والحدود. ولكنها علي تعددها واختلافها فوارق متناسبة متوافقة يمكن تلخيصها في فارق واحد يطويها من معظم نواحيها, وهو الفارق بين نموذج الاقتداء ونموذج الاجتهاد.