يعد عصر النبوة والخلافة الراشدة هو العصر التأسيسي في تاريخنا الإسلامي يقول د. أبو أدهم عبادة كحيلة الأستاذ بكلية اداب القاهرة كانت الخلافة أول مشكلة واجهتها الجماعة الإسلامية بعد وفاة النبي( صلي الله عليه وسلم) وببيعة أبي بكر الصديق وظهور الخلافة انقضت مسئولية رسول الله( صلي الله عليه وسلم) الدينية وتبقت مسئوليته الزمنية التي عهد بها إلي واحد من المسلمين, بمعني أن الحكومة الدينية انتهت بوفاة الرسول( صلي الله عليه وسلم) وحلت مكانها حكومة مدنية. النقطة الثانية أن هذا الحاكم أو الخليفة يدين بسلطته للأمة التي جاءت به رئيسا لكن سلطته هذه لم تكن مطلقة, إنما هي ترتبط بارتباط هوية هذه الأمة الذي هو دينها, فإذا التزم بهذا الدين الالتزام الواجب فإن طاعته ملزمة واذا لم يلتزم بهذا الالتزام الواجب فإن المسلمين في حل من طاعته. ويستطرد د. كحيلة قائلا المبدأ الثالث هو الشوري وربما كان التعبير الاسلامي عن الديمقراطية. فأبو بكر لم يفرض نفسه رئيسا بقوة السيف وإنما اختاره المسلمون. واجمع المؤرخين أن الأمور سارت في خلافة عمر( رضي الله عنه) علي ماكانت عليه في خلافة أبي بكر( رضي الله عنه) لكن بعد مقتله اختلف المسلمون فيمن يلي بعد وكان الاختيار صعبا وربما كان ذلك اساسا للمشكلة التي ظهرت بعد سنوات. ويؤكد د. كحيلة أن نظام الخلافة الذي بدأ مع بيعة أبي بكر كان نظاما دنيويا لاشأن له بالعقائد. وبعد أقل من ثلاثين سنة اصبح ملكيا وإن اتخذ الخلافة عنوانا له. ميلاد الحكومة يستطرد د. كحيلة قائلا هذه الفترة شهدت بزوغ فكرة الحكومة فكان إلي جانب الخليفة اعوان يقومون بوظائف الدولة الكبيرة وفي عهد الراشدين كان إلي جوار الخليفة مجلس من أهل الشوري يتشاور مع الخليفة. وإلي جانب هذا المجلس فقد اوكلت إلي بعض الصحابة مهام معينة فكان عمر بن الخطاب قاضيا في عهد أبي بكر بينما أو كلت الكتابة الي علي. وإبان الفتوح العربية قسم عمر بن الخطاب الدولة الي اقسام ادارية كبيرة. وأما عن القضاء وبسبب ظروفه الخاصة والطابع الذي يتسم به فان الوالي الذي غالبا ما كان من رجال الحرب فلم يكن يجوز له أن يلي القضاء بل لايجوز ان يعين القاضي فكان تعيين القضاة من اختصاص الخليفة. علاقة الخليفة بالرعية ويقول د. عبدالفتاح محمود ادريس استاذ ورئيس قسم الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بجامعة الازهر: إن المتصفح للجانب الفكري الاداري عند الخلفاء الراشدين لسياسة أمور الرعية, يدرك انه فكر قام علي أساس ان المجتمع هو مصدر السلطة التي يمارسها الخليفة أو الحاكم, وهذا يحققه أول خطاب لهؤلاء الخلفاء في الأمة عند توليهم مقاليد الأمور في الدولة الاسلامية, فحينما تولي ابو بكر أمر الخلافة خطب في الناس, فقال: ايها الناس, فاني قد وليت عليكم ولست بخيركم, فان احسنت فأعينوني, وإن اسأت فقوموني, الصدق أمانة, والكذب خيانة, والضعيف فيكم قوي عندي حتي اريح عليه حقه إن شاء الله, والقوي فيكم ضعيف عندي حتي أخذ الحق منه إن شاء الله.. اطيعوني ما اطعت الله ورسوله, فاذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم, وهذا يدل بجلاء علي أن الفكر السياسي عن الخليفة الأول قام علي أساس ان مصدر شرعيته لسياسة أمور الرعية, هو إرادتهم. وأن بوسعهم طاعته فيما يأمر به أو ينهي عنه, وأن لهم عصيانه في ذلك إذا وجدوا منه أمرا فيه معصية لله ورسوله, مما يدلل علي أن للمجتمع الحق في تولية الحاكم وتقويم عمله بل وعزله إن أساء. وعندما بويع عثمان بالخلافة قام في الناس خطيبا فأعلن عن منهجه السياسي, مبينا انه سيتقيد بالكتاب والسنة وسيرة الشيخين, كما اشار في خطبته الي أنه سيسوس الناس بالحلم والحكمة إلا فيما استوجبوه من الحدود, وقال: أما بعد, فاني كلفت وقد قبلت, ألا وإني متبع ولست بمبتدع, ألا وإن لكم علي بعد كتاب الله وسنة نبيه صلي الله عليه وسلم ثلاثا: اتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم, وسن أهل الخير فيما تسنوا عن ملأ, والكف عنكم إلا فيما استوجبتم العقوبة,,, وعبارة( كلفت وقد قبلت) تفيد بأنه ولي الخلافة باختيار الناس له في توليها, مما يؤكد أن فكر الخلفاء السياسي قام علي ان المجتمع المسلم هو مصدر سلطتهم, ومشروعية ممارستهم لأمور الرعية منبثقة من إرادته. المال العام في عصرهم ويوضح د. عبدالفتاح إدريس اسلوب إنفاق المال العام في زمن الخلفاء الراشدين بقوله قد استعمل الخلفاء الراشدون المال العام كاداة لتحقيق التوافق والتوازن بين دور الدولة والامة في تحصيل المال العام وانفاقه من خلال مسئولية تحديد العطاء للخليفة: باعتبار أن الامة صاحبة الاختصاص في تحديد المخصصات المالية له, وما يقرره لأمرائه وولاته, وهي التي فرضت للخلفاء عطاء, ليتفرغوا لمهام الدولة وتدبير أمر المسلمين, ففرض لأبي بكر من بيت المال قوت رجل من المهاجرين وقال عمر لما ولي الخلافة: إنه لايحل لعمر من مال الله إلا حلتين: حلة للشتاء وحلة للصيف, وما أحج به وأعتمر, وقوتي وقوت أهلي كرجل من قريش ليس باغناهم ولا بأفقرهم, وأكد عمر عين المبدأ في أول ولايته, وقال: والله ما كنت أري هذا المال بحق لي من قبل أن أليه إلا بحقه, وما كان قط أحرم علي منه إذ وليته, فأصبح أمانتي, وكان عمر يحلف علي أيمان ثلاثة ويقول: والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد, وما أنا بأحق به من أحد والله ما من المسلمين أحد إلا له في هذا المال نصيب, وقد كان الخلفاء الراشدون يتولون مراجعة المخصصات المالية لولاتهم, ولايقرون من ذلك إلا ما يتفق ومتطلبات الدولة والمجتمع, فقد ناشد أبو موسي الاشعري أشراف البصرة أن يكلموا عمر في زيادة مخصصاته من بيت المال. فكلموه في ذلك فأوصا فقال: ألا وأشبعوا الناس في بيوتهم, وأطعموا عيالهم, فإن تحفينكم للناس لايحسن اخلاقهم ولا يشبع جائعهم, والله مع ذلك ما أظن رستاقا يؤخذ منه كل يوم شاتان وجريبان إلا يسرعان في خرابه, وما بين اهتمام أمير المؤمنين بأهمية تمكين ولي الامر من التوسعة علي الناس, وتحذيره في نفس الوقت من خطورة الاسراف, وعدم الحد من الانفاق الحكومي, وما لم يتبعه زيادة في مدخول بيت المال. يضاف الي هنا حرص الخلفاء علي التسوية بين الناس في العطاء من المال العام, حتي لاتوجد فوارق اجتماعية بينهم فأكدوا أن المساواة في المعاش هي الشعار في حالة العوز, وأن الدولة ذات دور تابع للمجتمع ومهمتها أن تضخ فيه ما تمتصه.. من إمكانات ليقوي هذا المجتمع, ويذكر أن عليا لم يكن يترك شيئا في بيت المال لأكثر من عام. وكان عمر يقول: ما زاد المال لأعدنه لهم عدا, وإن أعياني لأكيلنه لهم كيلا, فإن أعياني حثوته بغير حساب, وأكد ذلك عثمان بقوله: إن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة, فضلا عن حرص الخلفاء علي الرفق بالرعية في تحصيل الأموال, دعما لأواصر البناء الاجتماعي, كما أن عثمان ترك أمر دفع الزكاة للوازع الذاتي لدافعيها فقال: هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده وليزك بقية ماله, وقد كان الخلفاء الراشدون يعتبرون بيت المال أمانة لله ولجمهور المسلمين, ويدبرون المال العام وفق ما ينص عليه الشرع. ويحرمون استخدام هذا المال في تحقيق اغراض شخصية. ويحددون الفرق الأساسي بين الخلافة والملك في أن الحاكم يضع يده علي خزينة الدولة ويتصرف فيها بحرية تامة, أما الخليفة فيتصرف في خزينة الدولة وفق ضوابط شرعية وهذا يؤكد تحقيق التوزيع العادل للثروة وتصريف المال العام في مواضعه الشرعية. و..العطاء الأبداعي شهدت فترة الخلفاء الراشدين ازدهارا في فنون الخطابة والعظة والحكم والأمثال. وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه فصيحا بليغا وخطيبا مفوها حاضر البديهة قوي الحجة شديد التأثير. يقول د. حسام عقل أستاذ الأدب بجامعة عين شمس كان الفاروق عمر رضي الله عنه من أعظم الناس منطقا وأبلغهم عبارة وأكثرهم صوابا وحكمة ورواية للشعر كما جاء عنه في العقد الفريد. وبالمثل كان عثمان رضي الله عنه من بلغاء الخلفاء وأوجزهم لفظا وأجزلهم معني وأسهلهم عبارة. ويشير المؤرخون إلي أن عليا( رضي الله عنه) كان أفصح الناس بعد رسول الله( صلي الله عليه وسلم) وهو إمام خطباء العرب. ويقول د. بهاء حسب الله أستاذ الأدب بجامعة حلوان تألقت في عهد الخلفاء الراشدين ملامح الخطابة السياسية, وكذلك أدب الوصايا والعظات علي نحو يتضح في كتاب أبي حاتم السمستاني( المعمرون والوصايا) وكتاب الكامل لابن الأثير.. ويشير د. حسب الله إلي عشرات الرسائل الجامعية التي تناولت فنون الخطابة والكتابة التي ركزت علي بلاغة عمر وعلي( رضي الله عنهما) حتي إن الأخير كان معروفا بكونه رب السيف والقلم. ويضيف د. أبو أدهم عبادة كحيلة قائلا كان عصر النبوة والخلفاء الراشدين( رضي الله عنهم) هو عصر التأسيس للثقافة العربية الإسلامية إذ بدأ جمع القرآن الكريم( يعود الجمع الأول لأبي بكر الصديق والثاني إلي عثمان رضي الله عنهما). ثم ظهر جيل من المفسرين من جيل الصحابة بينهم الخلفاء الأربعة وعبد الله بن عباس رضي الله عنه وقد أطلق عليه ترجمان القرآن ويعد المؤسس الحقيقي لعلم التفسير. أما علم الحديث فتعود الإرهاصات الأولي له إلي عصر الخلفاء الراشدين إلي أن اكتمل بتكليف خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز ابن شهاب الزهري في أواخر القرن الأول الهجري بجمعه. وقد أجمع مصادرنا في هذا التحقيق أن التراث الشعري والنثري الهائل الذي احتفي به العرب استمرت أهميته وإن اتخذ مضامين جديدة تتسق مع ما أتي به الدين القيم. وقد اقتحم الشعر في هذه المرحلة مواضيع جديدة منها مناهضة المرتدين والحماسة ومقارعة الخصوم مع ظهور الفرق الإسلامية والخوارج.