القضاء علي ما تبقي من القوة الناعمة المصرية هو الاستكمال المتوقع للحلقات, التي بدأت بهدم مرتكزات القوة المصرية, حيث لم يكتف ببيع الأصول الصناعية الثقيلة والتحويلية وغيرها إلي غير المصريين, ولكن تمت تصفية هذه الأصول, لأنها لو بقيت تعمل, حتي وإن انتقلت ملكيتها. كان من الوارد أن تعود, أو أن يصب إنتاجها في خير مصر, ويتم تطويرها أيضا, لكي تحقق ربحا لمن اشتروها.. ثم كان تجريف الأرض الزراعية والعدوان علي الرقعة, التي راكمها النيل عبر مئات ألوف السنين, وكان العدوان علي المياه الجوفية وإهدارها علي ملاعب الجولف وحمامات السباحة, وما شاكلها في منتجعات ومعازل الأوغاد, وكان العدوان أيضا علي ما تبقي من تربة زراعية بالمبيدات والأسمدة القاتلة! وقد صاحب تلك المرحلة تغيير تدريجي, ولكنه جوهري في حياة البشر أنفسهم, سواء علي صعيد الصحة البدنية, بعدما وصلت معدلات الفشل الكلوي وأمراض الكبد والسرطان أعلي مستويات, ربما علي مستوي العالم, أو علي صعيد الصحة النفسية بعدما ازدادت نسب الاكتئاب والممارسات العدوانية في علاقات الشارع والمنازل, بل ضمن الأسرة الواحدة.. وإذا أضفنا الانحدار في التعليم والثقافة والفن, تكتمل عندئذ بعض أقواس الدائرة, التي يراد لقوسها الأخير أن يتم, كي تتكرر دورة تاريخية كاملة كتلك التي بدأت بتقويض الجوانب المادية في تجربة مصر تحت حكم محمد علي باشا, وظلت كرة الثلج تتدحرج وتكبر حتي كان الإجهاز علي مجمل دعائم القوة المصرية, بما حدث للفنون والآداب والعلاقات الاجتماعية في عشرينيات القرن العشرين! القوس الذي يتحرك لإتمام حلقة الشر هو تعمد التصادم بين الدين والدنيا, ثم خلق وتعميق التناقض بين الثنائيات, التي شكلت عبر حقب التاريخ عبقرية التنوع المصري, لأن مصر فيما أعتقد- من أكثر بقاع العالم تمثيلا لهذه الثنائيات مثل النهر والبحر والوادي والصحراء والخضرة والصفرة ومصر العليا ومصر السفلي والتدين الرسمي والآخر الشعبي والأصالة والمعاصرة إلي غير ذلك من تفاصيل ثنائية, كانت دوما- كما أسلفت- مظهرا لعبقرية التكامل المصري, عبر التنوع الخلاق, غير أننا الآن إزاء قوي بشرية لا أعرف كيف أصفها, هل هي سياسية أم اجتماعية أم ثقافية أم خليط من هذا كله؟ وهل هي من صميم التربة المصرية التي أثمرت عبر مئات القرون ذلك التنوع أم هي تسريبة شيطانية انسلت إلي المحروسة من الخارج وكمنت كأي وباء متسلل من الخارج الإنفلونزا إنفلونزا الطيور.. إلي آخره؟ إلي أن ضعف جهاز المناعة الحضاري المصري فانقضت لتفتك بما تبقي من جسد وروح, قوي تريد عمليا وعلنيا الإجهاز علي هذا التنوع, بتكريس التصادم والتناقض, كما أشرت في السطور السابقة! إنها القوي التي تتمم التخريب الرهيب الذي بدأ بقطط الانفتاح السداح مداح السمان عند منتصف السبعينيات, وجاءت معه مصالحة السادات مع الإخوان بوساطة نفطية, وتم تحضير العفريت الذي لم يستطع السادات بعدما أحضره أن يصرفه فقتله, وفي كل يوم كانت تكبر كرة الثلج حتي ساد مناخ الانحطاط, ليتجلي في تفكيك مصر كمركب حضاري عريق, امتزجت عناصره عبر الألوف من السنين, لتصير سبيكة متجانسة صلبة, ثم كان تفتيت كل عنصر من عناصر ذلك المركب إلي المكونات الأولية الميكروسكوبية, فصارت مصر علي سبيل المثال: مسلمين ومسيحيين في مرحلة التفكيك.. ثم صار المسلمون شيعة وسنة ثم صار السنة سلفية وإخوانية وجماعات, ثم صارت السلفية حزبية وجهادية.. وكذلك صار المسيحيون بروتستانت وأرثوذوكس وكاثوليك ثم صار الأرثوذوكس كنيستين وهلم جرا! ولم ولن يكتفوا بذلك لأنهم ينقضون الآن علي الجانب الشعبي العريق.. يريدون إنهاء التصوف وهدم الأضرحة ومطاردة الناس في الشوارع, لعقابهم علي ملابسهم وحلاقتهم ومن يصاحبون! ويريدون تعميم القبح والاشمئناط, أي أن تنظر إلي جارك المسيحي أو المسلم, الذي لا يتفق مع مذهبك بعين الزراية, ولا تسلم عليه ولا تجامله ولا تواسيه! إنه القوس الأخير لتعود مصر إلي أسوأ مما كانت عليه في عهد الانحطاط المملوكي الثاني, الذي سبق حكم محمد علي باشا مباشرة, وكان آخر تجليات ما يعتبره البعض المشروع الإسلامي, الذي أجهز عليه المشروع المدني الحداثي, وهم لا يعرفون أن بذوره سبقت تجربة محمد علي بعشرات السنين! نحن أمام محترفي كتابة الحواشي الرديئة علي المتون, التي أكل عليها الدهر وشرب وأصابها البلي.. فلا حول ولا قوة إلا بالله. لمزيد من مقالات أحمد الجمال