لم يكن تفكيك الضفيرة الإنسانية المصرية وتحويل المركب الحضاري الثقافي المتماسك إلي عناصر أولية سامة، مثلما أشرت في مقال الأسبوع الفائت، منعزلاً عما حدث للتضفيرة الطبيعية الجغرافية والبيئية في مصرنا المحروسة. بل أكاد أجزم أن كلا الأمرين تلازما باطراد، بحيث كلما اشتد العبث مع الجغرافيا والبيئة والتعسف معهما، ازداد بالتالي تدمير التماسك الحضاري والثقافي والاجتماعي في مصر، وسأشرح هذا في السطور التالية. مصر الجغرافيا تضم النهر وواديه ودلتاه ثم البحر والبحيرات، ثم الصحراء والواحات! و"ثم" لا تعني أن جزءًا أهم من جزء، وإنما لضرورة الكتابة، حيث كلهم في واحد هو مصر. ولقد ثبت تاريخيًا عبر مئات القرون أن طبيعة العلاقة بين النهر والبحر مرتبطة بطبيعة المجتمع المصري ودرجة تماسكه وقوته وتوازنه، إذ كلما كانت مصرنا متماسكة اجتماعيًا ووجدانيًا، صارت قوية سياسيًا واقتصاديًا ومتوازنة ثقافيًا، وبالتالي خرجت من حيز النهر وضيق واديه ومحدودية موارده إلي حيز البحر ورحابة اتساعه ووفرة عطائه، وأهم ما في عطاء النهر أنه يتيح الاتصال بمحيط مصر ويمثل جسرًا بين حضارتها ومدنيتها، وبين حضارات ومدنيات أخري، خاصة في الشمال. ثم إن العكس صحيح، وهو أن مصر إذا تفككت اجتماعيًا ووجدانيًا ضعفت سياسيًا واقتصاديًا وفقدت توازنها وهجم البحر علي النهر بغزواتٍ استعمارية متوالية، يتفاوت زمن استمرارها في بلادنا إلي أن نستطيع أن نسترد قوتنا ونحرر إرادتنا وترابنا. ثم إن بحيرات مصر في صميم وجودها تمثل عاملاً رئيسيًا، إن لم يكن العامل الرئيسي في التوازن البيئي، حيث أحزمة الأرض الرخوة الرطبة بتنوعها البيولوجي، وبقدرتها علي منع مياه البحر من التغلغل والتهام الأراضي الخصبة، وبعد ذلك تأتي الصحراء بواحاتها وما تحويه من مخزونات الثروة المعدنية، نفطية وغير نفطية، وما تعنيه من آفاق للتوسع العمراني علي أنشطة تعدينية وصناعية وزراعية بغير حدود! إن أحدًا لا ينكر كيف وصل العقوق مع النهر بحد ذاته.. وهو النهر الذي كان المصري القديم يترافع عن نفسه يوم الحساب بقوله: إنني لم ألوّث مياه النيل! ثم إن كامب ديفيد وما ارتبط بها وترتب عليها فَصَمَت علاقة مصر بمحيطها، ولم يكن لها أن تفعل ذلك إلا بعد أن امتدت يد النظام الحاكم في مصر بعد انتصار 1973 المجيد إلي تفكيك مصر اقتصاديًا، وكان أن تم حرمان من أنجزوا الانتصار وهم جنود جيش مصر وضباطه من أبناء الفلاحين والعمال والطبقة الوسطي، حرمانهم من عائد النصر الذي صب في جيوب وكروش رأسمالية الانفتاح.. انفتاح السداح مداح كما وصفه العبقري أحمد بهاء الدين، أدي التفكيك الاقتصادي إلي مثيله الاجتماعي، وفقدت مصر تماسكها ومن ثم قوتها وتوازنها، وهجم البحر علي النهر في موجات من السيطرة الأجنبية التي كرّست عزل مصر عن محيطها العربي وعمقها الإفريقي علي النحو الذي عايشناه وعرفناه وعانينا منه ونحاول الآن بعد الثورة تصحيحه! وكما جري لعلاقاتنا مع النهر وعلاقة النهر مع البحر حدث مع البحيرات ومع الصحراء، وتم نسف النظام الأيكولوجي "البيئي" المصري، وردمت مساحات هائلة من البحيرات لحساب حرامية الأراضي، وتم تلويث ما تبقي من مياهها لحساب مزارع الأسماك الملوثة.. وهلم جرا، حتي هجم البحر أيضًا علي الدلتا، وصارت المياه المالحة قريبةً من سطح الأرض الزراعية التي بناها النهر عبر عشرات الآلاف من السنين.. لقد تم هدم التضفيرة الطبيعية، مع محاولات تفكيك التضفيرة الحضارية الوجدانية. ولله الأمر من قبل ومن بعد!