حول القيل والقال أخيرا عمن نكون نحن المصريين, لن أدلي برأي أو آخر, بل توثيقا عن المفهوم العلمي لسكان مصر كأمة وشعب من حيث الأصول السلالية, ومن حيث الثقافة والحضارة لغة ومعتقد وفكرا وتفاعلا وتعاملا. وبادئ ذي بدء تكمن مشكلة تعريف المصري أن مصر هي أقدم المجتمعات التي أصبحت أمة, وأطولها عمرا, وأقدم الدول أخذا بنظام الدولة, وأكثر شعوب الأرض تأصيلا لمفاهيم الدنيا والدين. أولا: التكوين السلالي للمصريين جغرافية مصر كما هي الآن, التي يعود تشكيلها إلي نحو خمسة آلاف سنة مضت, لم تكن كذلك منذ عشرة آلاف سنة, فالصحراء التي نعرفها الآن كانت بفضل متغيرات مناخية محلية وعالمية مكانا معشوشبا تتناثر فيها الأشجار مع بعض الأجمات الشجرية حيث تسمح البيئة, وكانت ترصعها بحيرات صغيرة وكبيرة, والنيل كان موجودا أيضا لكن شطآنه محفوفة بالمخاطر الطبيعية من فيضانات جامحة, ومستنقعات شبه دائمة, وحيوانات كاسرة من تماسيح وورل وأفراس النهر, وكثير من الحيوانات العاشبة والمفترسة بحيث لم يكن الوادي وأكثر الدلتا بيئة مغرية للاستيطان إلا لماما, وفيما بعد حلول التصحر بعد بضعة آلاف سنة. سهول وهضاب ووديان الصحاري الحالية كانت أكثر جذبا لحياة القنص والصيد, وجمع ما يستساغ من النبات أوراقا وبذورا وثمارا بفضل الأمطار الآتية من المنخفض الموسمي الذي كان يمتد شمالا عن موقعه الحالي بحيث كانت أيكولوجية الحياة تغمر كل الأراضي القاحلة من مصر والسودان وتشاد وليبيا وما وراءها من بقية الصحراء الكبري الإفريقية والعربية. فضل الناس حياة الصيد البري من وعول وغزلان وكباش جبلية وماعز ونعام, والصيد المائي علي ضفاف البحيرات في مستوطنات شبه ثابتة, ومعسكرات متحركة, ولا بأس أيضا من الصيد علي أطراف مستنقعات النيل وجمع بعض حبوبه البرية وأعشابه. من هم هؤلاء الناس؟ معظم الصحراء الكبري في أزمنة غابرة(30 40 ألف سنة) كانت مواطنا أصليا تطورت فيها سلالات داكنة البشرة تمخضت في النهاية عن السلالات الزنجية. الأقسام الشمالية من الصحراء الكبري كانت مواطنا لسلالات ذوي بشرة فاتحة إلي بياض, وبعض مظاهر شقرة هم الذين نعرفهم بالاسم الجماعي البربري من المغرب إلي مصر. نطاق الالتقاء بين تلك السلالتين علي الأغلب كانت في عروض الفرافرة البحرية. ومع تغيرات المناخ وانسحاب الأمطار الموسمية جنوبا انسحبت السلالات الداكنة إلي نطاق السفانا من السودان وحتي صياغتنا في الكتابة, وهي في الواقع عربية مصرية الأوسط حتي السنغال, وحلت محلها مجموعات من البربر, ومجموعات خليطة زنجانية بربرية, ومع ازدياد الجفاف استقر بعض الناس في الواحات حيث مصادر مياه آمنة, وانسحب معظمهم إلي وادي النيل حيث العمل الشاق لتحويل بيئة مستنقعية إلي بيئة صالحة للزراعة, فقد كانت معارف الزراعة وتقنيات استئناس الحيوان والنبات قد وصلت الدلتا في نحو الألف السادسة والسابعة من الآن مع هجرات أخري من الناس قدموا من صحاري الشام والعرب بعد جفافها إلي الدلتا نقلا عن مهدها الأول في جنوب الأناضول. يطلق علي تلك الحركات الهجرات السامية, وهو اسم عام يضم أشتاتا من الناس, لم تأت الهجرات السامية إلي مقر فقط, بل إلي كل الشرق الأوسط, خاصة الوديان النهرية كالفرات والأردن والعاصي. ذلك أن الساميين تأثروا بحركات الشعوب الكبري في الألف الخامسة والرابعة قبل الآن, وبالتالي حمل خليطهم السامي مؤثرات هندوأوروبية شكلت فيما بعد مظاهر بياض البشرة والعيون العملية إلي الزرفة المخضرة إلخ, كما تظهر بين بعض الإيرانيين والقوقازيين والأكراد وشمال الشام, لكن واحدة من أهم تلك الظاهرات اشتداد عرض الرأس نتيجة تبطط القزال( مؤخر الرأس), ومظاهر أخري في الوجه والأنف المعقوف, وهي التي يطلق عليها مؤثرات بروتو أرمينية أي السابقة علي التشكيل السلالي الأرميني, وقريبة الشبه بالرأس الديناري العريض في البلقان. بعض هذه التحركات الجماعية مسجلة تاريخيا ومتداولة بين الشعوب ومذكورة في الكتب المقدسة, ومن أهمها دقة وتوثيقا تلك السجلات المصرية عن غزوة الهكسوس(1720 ق.م استمرت نحو قرن واحد) الذين حملوا معهم إلي مصر فنونا عسكرية علي رأسها عربة القتال, وأدت إلي إنشاء جيش مصري منظم ودائم. معني ذلك أن أساس السكان السلالات في مصر ثلاثي الجذور: الزنجاني والبربري والسامي, وكلها أخلاط, وإن كانت الغلبة للبشرة الداكنة في جنوبالوادي والسمراء والفاتحة في الشمال والدلتا, وهؤلاء, مع إضافات أحدث من البربر والنوبة, هم سكان مصر طوال ثلاثة آلاف سنة بطول العصور الفرعونية بازدهارها وأفولها, وحيث إن مصر الموحدة ثقافيا وسياسيا تسمح بحرية الحركة والانتقال طولا وعرضا لكل أبنائها فإننا لا نعدم وجود كل أطياف السمرة والبياض في الجنوب والشمال وبين كل الطبقات علي نحو ما اقتضته أصول القومية ومشاعرها. هكذا اكتملت أصول المصريين لكن مع الزمن دخلت عناصر عديدة أخري ابتداء من332 ق.م من الإغريق القدامي واليونان المحدثين( فترة البطالمة وما قبلها وبعدها أكثر من300 سنة) والاحتلال الروماني البيزنطي( نحو650 سنة), ومنذ بداية العصر الإسلامي في640 م جاء مزيد من الساميين من العرب وأهل الشام وفلسطين وغيرهم( عصر الولاة330 سنة), ثم عرب وبربر شمال إفريقيا( خلال عصر الفاطميين200 سنة) والأكراد والشركس والترك( الدولة الأيوبية والمملوكية نحو350 سنة), وأتراك وبلقان وأرمن وغيرهم خلال الدولة العثمانية(300 سنة), ودولة محمد علي وأسرته(150 سنة), كلها أسهمت بصورة أو أخري في تشكيلات سلالية منتشرة ومتفرقة بين الأسر, وبعضها يظهر بصورة أقوي في أقاليم محدودة مثل البياض والشقرة في منطقة دمياطالمنصورة, أو مظاهر البشرة الداكنة كمنطقة النوبة أسوانإدفو. إذا كان الأمر علي هذا النحو إذن أين المصريون كسلالة أصلية؟ إنهم كل ذلك الخليط الذي طبخ علي مهل آلاف السنين, وإن ظهر اختلاف بين أشقاء فإنما هو راجع إلي قوانين الوراثة حين نفتش عن جد أو جدة بعيدة, وربما توضح البصمة الوراثية أن تحديد الشعب المصري سلاليا أمر صعب المنال. ثانيا: رباط الثقافة والحضارة لكننا وبرغم كل ذلك مصريون, فنحن أبناء ثقافة واحدة. كما نتكلم المصرية القديمة, وأضيفت لها مفردات وتعبيرات يونانية ورومية, ثم جاءت العربية وبعض المفردات والتعبيرات التركية, كل ذلك صنع لغتنا العربية في التخاطب, ولسان أهل الصعيد يختلف عن وسط الدلتا, وعن شرق الدلتا, وعن لهجة القاهريين أو أهل السواحل, وحتي صياغتنا في الكتابة, وهي في الواقع عربية مصرية, يتحدث المسلمون والمسيحيون المصريون كل تلك اللكنات واللهجات حسب منشأهم المكاني, لكنهم كلهم يكتبون العربية المصرية قدر تعليمهم. وفي العقائد ورثنا المعبد وحولناه إلي كنيسة أو جامع, وهذا أو ذاك بناء حسن عكس الأبنية ذات الوظائف الأخري, حين يبني بيتا للإله تكتمل عادة كل أشكال المعمار حسب خطط معينة: فهو في الداخل أقسام أكثرها هيبة ما كان يسمي في المعبد قدس الأقداس, وهو الآن الهيكل في الكنيسة, أو المنبر في الجامع, أي المكان الذي يواجه فيه رجل الدين المصلين, وتتجلي براعة المعمار من الخارج: حجر نحيت, وأفاريز وقباب وأبراج ومآذن, وغير ذلك من عبقرية البناء, وما من مبني هو مزار ومقصد غريب أو سائح إلا ويتصدره البناء الديني قديمه وحديثه. هل الأديرة المسيحية, والتكايا الصوفية, والخانقاوات الإسلامية تراث مصري قديم لكهنة المعابد الغرض منه التفقه في الدين, وترك عوارض الحياة؟ لقد كانت للكهنة القدماء مراتب يرقون فيها, وكانت بينهم وظائف اختصاص كالكاهن المرتل, والكاهن المسئول عن المخازن, وكاهن المذبح.. إلخ, وكانت المعابد أيضا درجات حسب أربابها, وفي فترة ما كان رئيس كهنة آمون هو المشرف علي كل المعابد في الصعيد, وفي الإسلام والمسيحية المصرية مثل هذا التراتب موجود بصور ومفاهيم بعضها ديني, وبعضها إداري, ومنذ القدم ارتبط السحر ببعض الممارسين الدينيين, وكان أكثره مرتبطا بنصوص يعاد تكرارها للأحياء والموتي حتي التصق بالمصريين صفة السحرة في شعوب إفريقية عديدة, ولايزال بعضنا من كل الفئات يركن للسحر فكا لضائقة, أو فتكا بعدو! أشياء كثيرة تجمعنا نحن المصريين بكل أطيافنا وأدياننا ملبسا ومأكلا ومجلسا, وعقائد وحبا في الله, فلماذا التفرقة؟ هل وقت الضعف نتكأكأ حول عصبنا دون أن نلتم معا شعبا واحدا يسعي لتحسين الأحوال, والتمسك بحسن الجوار؟ المزيد من مقالات د. محمد رياض