«الديهي»: حملة «افتحوا المعبر» مشبوهة واتحدي أي إخواني يتظاهر أمام سفارات إسرائيل    «التعليم» ترسل خطابًا بشأن مناظرة السن في المرحلة الابتدائية لقبول تحويل الطلاب من الأزهر    سعر الدولار اليوم يقلب الموازين.. تابع التحديث الجديد    «بلح البحر ب300 جنيه».. أسعار السمك والمأكولات البحرية بأسواق الإسكندرية اليوم 18 أغسطس 2025    ارتفاع جماعي لكافة مؤشرات البورصة في مستهل تعاملات اليوم الإثنين 18    تخفيضات تصل إلى 70%.. تفاصيل الأوكازيون الصيفي 2025    انقطاع مياه الشرب مساء اليوم عن قرية المشارقة ببنى سويف لربط خطوط غاز    وزير الإنتاج الحربى يشهد حفل تخرج دفعة جديدة من الأكاديمية المصرية للهندسة والتكنولوجيا    تراجع أسعار الغاز في أوروبا لأدنى مستوى منذ بداية 2025    "الأغذية العالمى": نصف مليون فلسطينى فى غزة على شفا المجاعة    تجاهلها لأشهر.. جارديان: إعلام إسرائيل يضطر لتغطية مجاعة غزة بعد الغضب الدولى    جدول مباريات اليوم في الدوريات العالمية والقنوات الناقلة    رضا عبد العال: خوان ألفينا سيجعل جماهير الزمالك تنسى زيزو    بيراميدز يشكو الحكم أمين عمر رسميًا ويتهمه بمساعدة الإسماعيلي    وزير الرياضة ورئيس الأولمبية يستعرضان خطط الاستعدادات لأولمبياد لوس أنجلوس    ضبط سلع غذائية منتهية الصلاحية وسجائر مجهولة المصدر بمركزى جرجا وسوهاج    وفاة شاب صدمته سيارة مسرعة بطريق القاهرة – الفيوم    إصابة عامل في حريق شقة سكنية بسوهاج    ريهام عبدالغفور عن وفاة تيمور تيمور: «كنت فاكرة أن عمري ما هتوجع تاني»    من هشام عباس إلى علي الحجار.. جدول فعاليات مهرجان القلعة 2025    وزير الثقافة ومحافظ الإسماعيلية يفتتحان ملتقى السمسمية القومي    نشأت الديهي يكشف مخططات «إخوان الخارج» لاستهداف مصر    مصر الداعم الأكبر لفلسطين.. اللجنة المصرية توزع حليب الأطفال فى قطاع غزة    مي عز الدين تخطف الأنظار فى أحدث ظهور من إجازتها الصيفية    «متحدث الصحة» ينفي سرقة الأعضاء: «مجرد أساطير بلا أساس علمي»    «الرعاية الصحية» تطلق حملة «صحتك أولًا» للتوعية بالسلامة الدوائية في بورسعيد    «الصحة» تكشف عن 10 نصائح ذهبية للوقاية من الإجهاد الحراري    استشاري مناعة: مبادرة الفحص قبل الزواج خطوة أساسية للحد من انتشار الأمراض    مدرب نانت: مصطفى محمد يستحق اللعب بجدارة    جامعة مصر للمعلوماتية تستضيف جلسة تعريفية حول مبادرة Asia to Japan للتوظيف    حلوى باردة ومغذية فى الصيف، طريقة عمل الأرز باللبن    التعليم تحسم الجدل : الالتحاق بالبكالوريا اختياريا ولا يجوز التحويل منها أو إليها    انطلاق امتحانات الدور الثاني للشهادة الثانوية الأزهرية بشمال سيناء    أحمد محارب: أقاوم الاحتلال الإنجليزي في «درويش» وحقبة الأربعينات ممتعة بصريًا للمشاهد    دار الإفتاء توضح حكم شراء حلوى المولد النبوي والتهادي بها    جدول مواعيد قطارات «الإسكندرية - القاهرة» اليوم الاثنين 18 أغسطس 2025    إسرائيل تقر خطة احتلال مدينة غزة وتعرضها على وزير الدفاع غدا    انطلاق امتحانات الدور الثاني للشهادة الثانوية الأزهرية بشمال سيناء (صور)    محافظة بورسعيد.. مواقيت الصلوات الخمس اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    وسط حراسة مشددة .. وصول المتهمين في حادث مطاردة فتيات بطريق الواحات لمحكمة جنح أكتوبر    ارتفاع سعر اليورو اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025 أمام الجنيه بالبنوك المصرية    قوات الاحتلال تعتقل 12 فلسطينيا من محافظة بيت لحم    الخارجية الفلسطينية ترحب بقرار أستراليا منع عضو بالكنيست من دخول أراضيها 3 سنوات    رابط نتيجة وظائف البريد المصري لعام 2025    كم سجل عيار 21 الآن؟ أسعار الذهب اليوم في بداية تعاملات الاثنين 18 أغسطس 2025    "2 إخوات أحدهما لاعب كرة".. 15 صورة وأبرز المعلومات عن عائلة إمام عاشور نجم الأهلي    دعه ينفذ دعه يمر فالمنصب لحظة سوف تمر    ترامب يهاجم وسائل الإعلام الكاذبة بشأن اختيار مكان انعقاد قمته مع بوتين    أسفار الحج 13.. من أضاء المسجد النبوى "مصرى"    الرئيس اللبناني: واشنطن طرحت تعاونًا اقتصاديًا بين لبنان وسوريا    بدء اختبارات كشف الهيئة لطلاب مدارس التمريض بالإسكندرية    التحقيق في مقتل لاعبة جودو برصاص زوجها داخل شقتهما بالإسكندرية    رضا عبد العال: خوان ألفينا "هينَسي" الزملكاوية زيزو    "لا يصلح"... رضا عبدالعال يوجه انتقادات قوية ليانيك فيريرا    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    مواجهة مع شخص متعالي.. حظ برج القوس اليوم 18 أغسطس    تنسيق الثانوية العامة 2025 المرحلة الثالثة.. كليات التربية ب أنواعها المتاحة علمي علوم ورياضة وأدبي    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جمال حمدان.. وسيدة الوسط الذهبي
نشر في أخبار الأدب يوم 14 - 05 - 2011

د. جمال حمدان مرت ذكري وفاة العالم الفريد جمال حمدان (71/4) ولم ينتبه إليها أحد.. وهي مناسبة وطنية جليلة تعيننا علي تأكيد ما للعلم من وظيفة اجتماعية سياسية تخاطب الذاكرة الجماعية في انفتاحها علي الحاضر والمستقبل في آن، وترسيخ حيوية الإيمان العميق بالدور الوطني للباحث والمثقف وهما يبشران بالإنسان الجديد الذي يتجاوز واقعه المحدود، متوكئًا علي خياله المتوثب وهو يعبر المكان، ويطوي الزمن. غير أن قيمة د.جمال حمدان تتحدد في امتلاكه القدرة علي مواجهة عالمه بأسئلة صحيحة، ومقاربات معرفية مجدية؛ فيمد الإنسان بقوة محرِّرة في إطار سيرورة ترمي إلي نهضة تنتشل الأمة من ظلمة الانحطاط الحضاري، وتفضي بها إلي زمن الحداثة والتقدم.
ولعل المناخ الصحي الذي أشاعته ثورة الخامس والعشرين من يناير الشعبية بآمالها وطبيعة التحديات التي يمليها عليها ظرفها التاريخي، تسوّغ لنا العودة إلي جمال حمدان والإفادة من درسه العلمي وهو يتطلع إلي تحديث المجتمع، وعقلنة الفكر، وتصفية البني والعلاقات ما قبل القومية، وبناء المجتمع المدني ودولة الحق والقانون، وبناء اقتصاد مستقل، وامتلاك فهم علمي متحرر من وطأة التابوهات، ونزعة تمجيد الذات، وتشخيص ماهية القوي الفاعلة وفهمها الثقافي المتطور لماهية المواجهة المفروضة من قبل الرأسمالية العالمية. وهنا يقول »د.حمدان« في كتابه »شخصية مصر« - الجزء الرابع، ص 416: »لقد تحرّر الإنسان المصري أخيرًا.. أو يوشك علي التحرر من التخلف.. ولكنه لم يتحرك قط أو بعد من الأسر.. لقد ظفر بالتنمية نسبيًّا.. لكنه لم يظفر بالحرية إطلاقًا.. أصبح إنسانًا متقدمًا نوعًا.. لكنه ليس إنسانًا حرًّا حقًّا«.
وبذلك يغدو التطور الديمقراطي للمجتمع المصري رهنًا بإرساء مجتمع تعددي يعترف بالآخر وبحقه في الاختلاف والتمايز، وبدور الفاعلين الاجتماعيين في قيام نظام سياسي يعتد بمبدأ تعدد الرؤي وربط الأخلاق بالتاريخ والضمير، من خلال إعطاء الأولوية لفضيلتي الحوار والتسامح، وإقامة السلطة علي أساس المشروعية العقلانية. وفي هذا السياق، يقول د.جمال حمدان في كتابه السابق، ج4، ص 216: »غير أن الديمقراطية كالحرية، أوليسا جانبين لشيء واحد؟ الديمقراطية لا تمنح ولكن تنتزع، لا تُستجدي من الديكتاتور، وإنما تفرض عليه فرضًا بقوة الوعي وفعل القوة وبيد الشعب نفسه. والانقلاب العسكري مرض، فعله المضاد هو الثورة الشعبية. ولقد ولّي زمان الحاكم الهاوي المغتصب، وأكثر منه الحاكم المطلق المستبد في حياة مصر«. إذن الديمقراطية - في نظره ومفهومه - هي الضمان المؤسسي لصون الحريات والحقوق فردية كانت أو جماعية ضد هيمنة الدولة وتضخم أجهزتها البيروقراطية التي تجنح إلي ممارسة فائض سلطة علي مواطنيها. ومن ثم؛ أصبح للشعب دوره المحوري في تقرير مصيره ورسم سياسات بلاده الداخلية والخارجية.
لهذا يشدد د.حمدان النبر علي طبيعة التنمية الرثة التي انتهجتها قوي التبعية للخارج فخلقت تكوينًا طبقيًّا معوَّقًا، وبنية اجتماعية مشوهة، وأوجدت تبادلاً غير متكافيء مع المتروبول؛ مما جعل مستوي الإنتاجية الوطنية متدنيًا. وهو ما أشار إليه بجلاء في سفره ذائع الصيت »شخصية مصر« - ج4 ، ص 675: »وبالمثل إذا كانت مصر لم تعرف طبقة حاكمة، فإنها لسوء الحظ عرفت العصابة الحاكمة (ولا نقول أحيانًا الحثالة الحاكمة) بمعني عصبة مغتصبة تستمد شرعيتها من القوة غير الشرعية.. ومن هنا، فلئن كانت مصر الطبيعية حديقة لا غابة، فقد كانت علي العكس بشريًّا غابة لا حديقة، وإن كانت زراعيًّا مزرعة لا مرعي، فقد كانت سياسيًّا مرعي لا مزرعة. وبالتالي وكثيرًا ما كانت مصر - إلي حد بعيد - حكومة بلا شعب سياسيًّا، وشعبًا بلا حكومة اقتصاديًّا«. وعلي هذا النحو، يتبدي فهم الرجل العلمي لجوهر مأزق التطور الاجتماعي المصري، وكيف جري الاستيلاء علي تراكمه المحلي، وامتصاص فائضه الاقتصادي، وشل الإرادة والإبداع الوطنيين، نتيجة سيطرة الكومبرادور علي الحكم، وتحطيم الدولة الوطنية؛ لصالح دول المركز الرأسمالي العالمي التي تمكنت من تحقيق تجانس اجتماعي عبر تحالفات اجتماعية واسعة استطاعت من خلالها تدعيم الفوردية »النظام الإنتاجي الكبير المنظم« بالكينزية أي دعم الطرق الحديثة للإنتاج بالديمقراطية الاجتماعية، وبدولة مسئولة عن تسيير الاقتصاد. وراح د.حمدان يعدِّد مظاهر فساد هذه »العصابات الحاكمة« التي عمدت إلي تنمية التخلف، واستخدام الموارد الخارجية لزيادة الاستهلاك الباذخ والطفيلي والبيروقراطي، بدلاً من استخدام الموارد الخارجية في ربط تراكم رأس المال باستنهاض الديناميات الداخلية للتراكم البدائي، وتكوين طبقة من العمال الأحرار بمعني مزدوج، عبر توسيع القوة الشرائية المحلية والسوق الداخلية، وتطوير القوي المنتجة، أي بتنمية نمط إنتاج رأسمالي متكامل داخليًّا ورأسمالية صناعية. لهذا رأي علي نحو ما جاء في ج3، ص 221 من كتابه السابق أن »الإنفاق الحكومي ابتداءً استعراضي تحكمه مركبات العظمة والغرور الكاذب. فبدعوي الكرامة الوطنية يحاكي جهاز الدولة نظراءه في أكبر وأغني الدول، في حين أن الدولة نفسها لا تعدو كسرًا عشريًّا، وربما مئويًّا في القوة والحجم والوزن السياسي والمادي«.. وأضحت المحصلة النهائية كما يذهب في ج3، ص 46 من المرجع المذكور آنفًا: »مجتمعًا طبقيًّا مختلاَّ.. طبقات مقلوبة.. وطبقية متميعة.. باختصار فوضي طبقية ضاربة، وخلط هيكلي عام وعارم. وهذا الخلط وهذه الفوضي يحددان ملامح انقلاب طبقية لا ثورة طبقية.. انقلاب اجتماعي لا ثورة اجتماعية.. ومصر في هذا الرأي، لم تكن طبقية ولا بورجوازية ولا رأسمالية أكثر مما هي عليه اليوم بالدقة، ولا كانت الفروق الطبقية أوسع وأبرز مما هي عليه الآن قط«.
وهذا التشخيص يحمل عديدًا من جوانب الصحة التي تشير إلي قسمات الفعاليات الاقتصادية الجارية ومداها، بل تداعياتها علي الساحة الوطنية الداخلية، لاسيما أن الممارسات المتنوعة لأطراف اقتصاد الظل - بتعبير »ديلون روي« - لاتتضافر ولا تتجمع لتشكيل قطاع خاص مؤهل ومبدع وقادر علي المنافسة في المستقبل.
فكثير من العمليات ليس سوي صفقات شبيهة بصفقات البازار من حيث أسلوب الإدارة وميكانيزم عملها. ورجال الأعمال يعتمدون علي التشويهات التي يعاني منها الاقتصاد، وذوو مصلحة واضحة في تجنب الإصلاحات مهما كان نوعها، ومصالحهم منحازة لأمريكا وموالية لها بصورة قاطعة وحاسمة. وتراجعت المثل القديمة القائمة علي العدالة الاجتماعية والوحدة القومية؛ جرّاء تزايد تراكم الثروة بأيدي الأفراد علي أساس انعدام التكافؤ. وهو وضع مرشح دومًا للانفجار، فضلاً عن كونه عامل عدم استقرار علي الصعيد السياسي. وهنا يلفت حمدان نظرنا إلي ما بين الاستعمار والقوي الاستراتيجية من تداخل ووشائج؛ فليس كل صراع بين القوي من أجل الاستعمار، ولكن كل استعمار هو صراع من أجل القوة.. وأن كلاًّ منهما يؤثر في الآخر ويتأثر به، إن لم يكونا في الحقيقة جانبين للشيء نفسه - شخصية مصر، ص 8 .. لهذا تعكس كتبه ودراساته التزامه الواعي بقضايا الوطن المصري والعربي، وانتباهه المبكر إلي أهمية البعد الإفريقي والآسيوي علي الصعيد القاري، والنيلي المتوسطي علي المحور الإقليمي داخل إطار عربي كبير ف »العروبة وجود.. ولكن الأبعاد توجيه.. أن تكون الأبعاد هي اتجاهات البوصلة.. فإن الأساس العربي هو جسم البوصلة ذاته« - شخصية مصر - ج 4، ص 004.. مستندًا في فهمه الجدلي هذا إلي رؤية تضم في إهابها الجغرافيا والتاريخ والسياسة والاجتماع والاقتصاد والفلسفة، مستنبطًا ما بينها من علائق وصلات، مدركًا ماهية سؤال الحاضر في ضوء تراكمات الماضي، وتحديات الراهن داخل منظومة مشروعه الفكري للتحرر. فالتاريخ علي حد تعبيره »هو معمل الجغرافي كما قيل، وهو كذلك مخزن الاستراتيجي الذي لا ينضب.. وكل منهما يستمد منه خامته، ويجري عليها تجاربه. ليس التاريخ - كما عبر البعض - إلا جغرافية متحركة، بينما الجغرافيا تاريخ مؤقت.. وهما معًا أشبه شيء بقرص الطيف.. إذا سكن علي عجلته تعددت ألوانه، فإن هو دار وتحرّك استحال لونًا جديدًا واحدًا« - شخصية مصر، ص 8 - وبذلك استطاع أن يدرس ظاهرة الاستعمار دراسة علمية منهجية صحيحة نجت من التعميمات المبتسرة، والتحليلات النظرية القاصرة؛ فرأي أن »الاستعمار الحديث الذي يحتضر اليوم إنما استوي علي سوقه في القرن التاسع عشر فقط. أما جذوره فتضرب في أعماق عصر الكشوف الجغرافية منذ القرن السادس عشر وما بعده.. بل لعلك واجد بذوره الأولي قبل ذلك جميعًا. وأنت لا تستطيع أن تفهم نمو الاستعمار العالمي ولا تطور صراع القوي الدولية إذا قصرت بذرتك علي المنظور المعاصر أكثر مما يمكنك أن تري ناطحة سحاب إذا نظرت إليها من سطحها« - شخصية مصر، ص 9 - وهو ما يتساوق مع تحليلات مفكر عالمي هو »د.سمير أمين« في كتابه »إمبراطورية الفوضي« الذي يتحدث فيه عن العولمة الجديدة التي بدأت منذ خمسة قرون مع غزو أمريكا، لكنها أطلت من جديد في السنوات المنصرمة وتجلت كظاهرة في كثافة المبادلات التجارية والمواصلات المتنوعة والقدرة الشاملة لوسائل التدمير، وينظر إليها اليوم بوصفها تبعية متبادلة تُخضع المجتمعات للتوسع العالمي للرأسمالية التي كانت دائمًا نظامًا عالميًّا منذ اكتشاف أمريكا. الأمر الذي أنتج الاستقطاب العالمي، ومن ثم المراكز والأطراف.
وبمنهجه هذا ذاته، تمكن د.حمدان في كتابه »اليهود أنثروبولوجيًّا« من إثبات خطل القول بالوحدة الجنسية المزعومة لليهود من خلال الدراسة المقارنة بين يهود اليوم ويهود الأمس من حيث الصفات الجسمية.. واستشهد بما أورده مؤلفو كتاب »نحن الأوربيون«: »جوليان هكسلي« و»هادون« و»كارسوندرز« من أن »اليهود لا يمكن أن يصنفوا كأمة ولا حتي كوحدة إثنولوجية. بل هم مجموعة اجتماعية دينية تتفاوت تفاوتًا عظيمًا في الصفات الجسمية«، مرجعًا ذلك إلي انتشار اليهودية وتمددها بالتحول الديني من الوثنية إلي المسيحية سواء كان جماعيًّا »الخرز والفلاشا والتاميل« أو فرديًّا، بالإضافة إلي التزاوج، حتي إن المجالس الكنسية أصدرت في العصور الوسطي قرارات صارمة بمنع زواج المسيحيين من اليهود بعد أن أدركت الهيئات الكنسية مدي خطورة الزواج المختلط. وبذلك تمكن من دراسة الدين »من حيث هو ظاهرة في المكان له توزيعه وامتداده الجغرافي في اللاندسكيب وعلاقاته الإيديولوجية معه، ومن حيث هو عامل مؤثر في إقليمه وفي تشكيل تاريخه وحياة سكانه وتكوين أو تلوين وجه النشاط البشري أو العلاقات الاجتماعية فيه، بما في ذلك علي الأخص الجوانب السياسية الداخلية وتوجيه السياسة الخارجية والمشاكل الدولية« وفق ما يذهب إليه في كتابه »العالم الإسلامي المعاصر« ص 6 - وقرر بحسم علمي في مؤلفه »اليهود أنثروبولوجيًّا« ص 98، 09 »أن يهود العالم مختلطون في جملتهم اختلاطًا بعُد بهم عن الأصول الفلسطينية القديمة حتي لم تعد هذه تمثل في تكوينهم إلا قطرة في محيط 5٪ في رأي الأنثروبولوجي البريطاني »جيمس فنتون«. ومن هنا فلا جناح علينا إذا قررنا في النهاية أن اليهود اليوم ليسوا من بني إسرائيل، وأن هؤلاء شيء وأولئك شيء آخر أنثروبولوجيًّا، وألا رابطة بين الطرفين إلا الدين، والدين فقط«.
بيد أن جمال حمدان ظل حتي آخر يوم في حياته الخصبة المنتجة مهمومًا بمصر »سيدة الوسط الذهبي« كما دعاها، متبتلاً في محرابها ورأي أنها »بحاجة أكثر من أي وقت مضي إلي إعادة النظر في كيانها ووجودها نفسه، وبالعالم وحده فقط، لا الإعلام الأعمي ولا الدعاية الدعية ولا التوجيه القسري المغرض، يكون الرد« كما جاء في »شخصية مصر«، ص 02.. وأكد أن »المبدأ الاستراتيجي الأول في نظرية الأمن المصري هو: دافع عن سيناء.. تدافع عن القناة.. تدافع عن مصر جميعًا، ولا ضمان بالتالي إلا بذهاب العدو، غير أن هذه قضية متروكة للمدي البعيد« - شخصية مصر، ج 2، ص 018. وأنه لابد من »سلسلة أنفاق تحت القناة تحمل شرايين المواصلات، مثلما تنقل المياه.. فمثل هذه الأنفاق تعد مجازيًّا بل عمليًّا، بمثابة إعادة تحقيق للاستمرارية والوحدة الأرضية بين الوادي وسيناء، ولرقعة مصر الجغرافية السياسية عمومًا.. رغم وجود القناة« - »شخصية مصر«، ج 2، ص 777 - وأشار »حمدان« برهافة حس تاريخية تدرك موقعها من حركة العصر والزمن إلي أن »قضية إعادة بناء الإنسان المصري هي ببساطة، قضية هرم الديكتاتورية المصرية الغاشمة الجهول.. ودك صرحها الإجرامي العاتي المهتريء، وتصفية الطغيان الفرعوني المخضرم المتقيح البغيض تصفية أبدية« - »شخصية مصر«، ج4، ص 125.. ذلك أن »معظم سلبيات وعيوب الشخصية المصرية، إنما يعود أساسًا وفي الدرجة الأولي إلي القهر السياسي الذي تعرضت له ببشاعة وشناعة طوال التاريخ« - »شخصية مصر«، ج 4 ، ص 225.. وأنحي باللائمة علي »أولئك الذين يرون أن الارتباط بالغرب وحده، هو الانفتاح وحده؛ فنظرتهم تلك عوراء لا تري الحقيقة إلا بعين واحدة، لا تري إلا أن العالم هو الغرب.. ولا شيء سواه، وهي النظرة الاستعمارية - التي سادت طويلاً، وتركز علي أن الدنيا هي أوروبا Euro Centric، والآن علي أوروبا وأمريكا معًا Atlanto Centric، أو الغرب بعامة West Centric« - »شخصية مصر«، ج 3، ص 351.. غير أن العالم الجليل دارس التاريخ يدرك جيدًا أن وجوده وبقاءه في حاجة دائمة إلي »فورة حقيقية كل بضعة عقود أو أجيال، تعيد تقليبها وخضها وتجنيسها، ثم توجيهها إلي الطريق الصحيح، بل إنها في حاجة إلي الفورة الشعبية كشرط للبقاء الحق والحقيقي والوجود الكريم، أي لكي تعيش ولا تنقرض معنويًّا وأخلاقيًّا، بمثل ما أصبح الحكم الديمقراطي المطلق منذ الآن شرط عدم انحدارها وتدهورها، أو المزيد من هذا الانحدار والتدهور« - »شخصية مصر«، ج 4 ، ص 316 - وبذلك يغدو للحرية عند جمال حمدان سياقها التاريخي وعمقها الاجتماعي، وخيارها الوطني الشعبي، ولعل هذا ما يفسر لنا بيانه البديع، وجمالياته الفاتنة، وجرس مفرداته الشاعري، بإيقاعه الرقراق الصافي الذي ينساب إلي الوجدان الجمعي باستشراف رسولي، جعله »يعشق الرسم والفنون التشكيلية، لاسيما لوحات »ماتيس« التي قطعها علي طريقته - كما يقول الكاتب الكبير الراحل كامل زهيري - من أوراق المجلات، ثم علقها علي طريقتها أيضاً بدبابيس كان يعود إلي رشقها كلما تساقطت. كما كان يرسم أغلفة كتبه، وخرائطها، ويكتب عناوين فصوله بخط يده«.. هاتفًا بملء فيه : »مصر بالذات محكوم عليها بالعروبة والزعامة.. فمصر لا تستطيع أن تنسحب من عروبتها، أن تنضوها عن نفسها حتي لو أرادت. كيف؟ وهي إذا نكصت عن استرداد فلسطين العربية كاملة من البحر إلي النهر، وهادنت وحكمت عليها بالضياع، فقد حكمت علي نفسها أيضًا بالإعدام، بالانتحار، وسوف تخسر نفسها، الماضي والمستقبل، التاريخ والجغرافيا« - »شخصية مصر«، ج 1، ص 64«.
ولعله يدعونا إلي إنجاز مهامنا التاريخية في مرحلة ما بعد ثورة 52 يناير الشعبية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.