الحصر العددي لدائرة السنبلاوين وتمي الأمديد بانتخابات النواب 2025 في الدقهلية    موعد نتيجة المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب 2025    وزير الدفاع يشهد تنفيذ المرحلة الرئيسية للتدريب المشترك "ميدوزا - 14"    «خطوات التعامل مع العنف الأسري».. جهات رسمية تستقبل البلاغات على مدار الساعة    26 نوفمبر 2025.. أسعار الخضروات والفاكهة بسوق العبور للجملة    محافظ الدقهلية: صرف 139.6 مليون جنيه لمشروعات شباب الخريجين حتى الآن    سعر الجنيه الذهب بالصاغة صباح اليوم الأربعاء    كامل الوزير يجتمع مع 23 شركة لمصنعي الأتوبيسات لاستعراض القدرات المحلية لتوطين صناعة المركبات    استقرار أسعار الذهب في مصر اليوم.. وجرام 21 يسجل 5575 جنيهًا دون تغير    تحت رعاية وحضور رئيس مجلس الوزراء.. انطلاق المؤتمر الوطني "إصلاح وتمكين الإدارة المحلية: الدروس المستفادة من برنامج التنمية المحلية بصعيد مصر    تسليم 17 مركزًا تكنولوجيًا متنقلًا جديدًا إلى النيابة العامة    مجلس النواب الأردني: المملكة لن تكون ساحة للتطرف ولن تسمح بالتدخلات الخارجية بأمنها    ارتفاع حصيلة ضحايا الفيضانات العارمة في جنوب تايلاند إلى 33 قتيلا    بركان كيلاويا في هاواي يطلق حمما بركانية للمرة ال37 منذ بدء ثورانه العام الماضي    قوات الاحتلال تفرض حظرًا للتجوال وحصارًا شاملًا على محافظة طوباس    غيابات مؤثرة للأهلي عن مواجهة الجيش الملكي بدوري أبطال أفريقيا    بعثة الزمالك تصل إلى جنوب إفريقيا لمواجهة كايزر تشيفز    مواعيد مباريات الأربعاء 26 أكتوبر - ليفربول وريال مدريد وأرسنال في أبطال أوروبا.. وكأس العرب    محمود فتح الله: تصريحات حسام حسن الأصعب تاريخيًا.. وكان يمكنه تجنبها    ضبط 10 متهمين باستغلال الأطفال في أعمال التسول بالجيزة    تحرير 814 مخالفة مرورية لعدم تركيب الملصق الإلكتروني    قرارات عاجلة من النيابة فى واقعة ضبط طن حشيش فى الرمل بالإسكندرية    طقس الإسكندرية اليوم.. انخفاض في درجات الحرارة والعظمى 23 درجة مئوية    «خشية العار».. السجن 3 سنوات للمتهمين بالتخلص من رضيعة في قنا    وفاة الناقد الأدبي البارز الدكتور محمد عبد المطلب    انطلاق الدورة العاشرة لمهرجان المسرح بشرم الشيخ    أبرزهم أحمد مكي.. نجوم شرف «كارثة طبيعية» يتصدرون التريند    في جولة مسائية مفاجئة لوكيل وزارة الصحة بقنا، اكتشاف غياب الطبيب بوحدة الترامسة    فحص 6.1 مليون طالب ضمن مبادرة الكشف عن «الأنيميا والسمنة والتقزم» بالمدارس الابتدائية    وزير الصحة يزور مستشفى «أنقرة جازيلر» المتخصصة في تأهيل إصابات الحبل الشوكي    رئيس الرعاية الصحية: تطوير 300 منشأة بمنظومة التأمين الشامل    السيسى يحقق حلم عبدالناصر    الري: نجاح حاجز التوجيه في حماية قريه عرب صالح من أخطار السيول    حكايات الغياب والمقاومة فى «القاهرة السينمائى»    .. اديهم فرصة واصبر    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 26-10-2025 في محافظة الأقصر    انطلاق الملتقى الدولي للتعليم العالي في عصر الذكاء الاصطناعي 2 ديسمبر    حماية الثروة الحيوانية    موعد امتحان نصف العام لصفوف النقل وضوابط وضع الأسئلة    وزير الخارجية: حريصون على دعم لبنان ومساندة مؤسساته    تحسين مستوى المعيشة    اتحاد السلة يعتمد فوز الأهلي بدوري المرتبط بعد انسحاب الاتحاد ويعاقب الناديين    اللجنة العامة للدائرة الثالثة بالغربية تعلن الحصر العددي لأصوات الناخبين    مقتل مطلوبين اثنين من حملة الفكر التكفيري في عملية أمنية بالأردن    إلهام شاهين: تكريم مهرجان شرم الشيخ تتويج لرحلتي الفنية.. مسيرتي كانت مليئة بالتحديات    بعد نجاح "دولة التلاوة".. دعوة لإطلاق جمهورية المؤذنين    دار الإفتاء تؤكد حرمة ضرب الزوجة وتحث على الرحمة والمودة    دار الإفتاء تكشف.. ما يجوز وما يحرم في ملابس المتوفى    مادورو: سندافع عن فنزويلا ضد أي تهديد والنصر سيكون حليفنا    ترامب: «خطة ال28» للسلام في أوكرانيا «مجرد خريطة»    ريهام عبد الحكيم تتألق في «صدى الأهرامات» بأغنية «بتسأل يا حبيبي» لعمار الشريعي    تقدم مرشح حزب النور ومستقبل وطن.. المؤشرات الأولية للدائرة الأولى بكفر الشيخ    دعاء جوف الليل| اللهم يا شافي القلوب والأبدان أنزل شفاءك على كل مريض    ب8 سيارات إطفاء.. السيطرة على حريق مصنع تدوير القطن والأقمشة بالقليوبية| صور    بروسيا دورتمنود يمطر شباك فياريال برباعية نظيفة    بوروسيا دورتموند يفترس فياريال برباعية في دوري أبطال أوروبا    محمد صبحي عن مرضه: التشخيص كشف عن وجود فيروس في المخ    اتحاد الكرة يعلن حكام مباريات الخميس والسبت فى دور ال32 بكأس مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قسطنطين كڤافيس وشقيقه كيف يُصنع الشاعر؟
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 09 - 10 - 2025


چيفرى جودسدانيس وبيتر چيفريس
ترجمة: أسماء يس
لم يتوقع أحد ممن عرفوا قسطنطين كڤافيس فى شبابه فى ثمانينيات وتسعينيات القرن 19 أن يصبح شاعرًا عالميًّا كان أصدقاؤه وأفراد عائلته يقدرون ذكاءه ويمدحون إخلاصه للأدب، لكنهم فوجئوا بأن الشاب الذكى المتعاطف النشط سيكرس حياته للشعر بانضباط يشبه انضباط الرهبان، متطورًا إلى شخص ساحر لكنه منعزل عاطفيًّا، يستمد هدفه فى الحياة من شعره فقط هذا بالضبط ما حدث له عندما تخلى عن بواكير شعره سعيًا وراء المجد الفنى، فصار الشعر حياته، وعاش من أجله.
حوَّل قسطنطين نفسه إلى فنان مرتين، الأولى فى عشرينياته، والثانية فى منتصف عمره فى الثانية، أصبح قسطنطين الشاعر المعروف باسم كڤافيس لكنه لحد ما ظل قلقًا بشأن نضجه الشعرى المتأخر نسبيًّا؛ استاء مثلاً من قول ميخاليس بيريديس عام 1910 إن «قسطنطين فى الثانية والخمسين من عمره لم يعد لديه ما يقوله، وإن مسيرته الشعرية اكتملت»، ورد على ذلك: «كتب الكثيرون بعد الأربعين؛ كتب أناتول فرانس العظيم عمله الضخم بعد بلوغه الخامسة والأربعين. وكثيرون غيره».
لم تبشِّر قصائد قسطنطين المبكرة، التى رفضها فى منتصف عمره، سوى بقليل من الأمل فى مستقبل عظيم ففى حين تميز شعراء مثل آرثر رامبو وچورچ سيڤريس بمجموعاتهم الأولى، لم تُثر منشوراته الأولى اهتمامًا كبيرًا ولم تُظهر سوى قليل من علامات طموحه البروميثيوسى، أو صراعه الوشيك مع الشعراء المعاصرين أو عمالقة الماضى كذلك شابت هذه النصوص المبكرة مسحة تأثر، تعكس أذواق وخصائص جمالية للشعر اليونانى الذى كان يقرأه فى شبابه ثم صار يراه باردًا وبلاغيًّا، مُثقلاً باللغة اليونانية «الكاتاريڤوسا» مُحمّلاً بمجازات الحب الرومانسى وجمال الطبيعة والأمة اليونانية، وهى مواضيع سيُبغضها فى منتصف عمره. وقد استغرق بضعة عقود ليتحرر من وطأة هذا التقليد، رغم وجود آثار للغة النقية فى شعره وخطابه.
لا نعرف تحديدًا متى بدأ كڤافيس كتابة قصائده الأولى. لكنه فى رسالة كتبها عام 1906 انتقد بشدة «الحثالة البائسة« التى كتبها بين التاسعة عشرة والثانية والعشرين لذا، يمكن الافتراض أنه بدأ تجاربه الأدبية الأولى فى أثناء وجوده فى إسطنبول.
فى رسائله إلى أخيه چون من هناك، أبدى قسطنطين اهتمامًا بالغًا بالكلمات ومعناها وموقعها فى الجملة، وفى 1881 بدأ مبكرًا فى السادسة عشرة بتجميع معجم وانتهى بمرادف «للإسكندر«. لكن المعجم للأسف كان من بين ما دُمر فى قصف عام 1882 فأرسل قلقًا رسائل إلى چون يسأل عن أوراقه، ليتلقى الرد بأن كل شىء قد ضاع لاحقًا، فى 1902 كتب قسطنطين: «إنها إحدى مواهب الأسلوبيين العظماء، أن يجعلوا الكلمات القديمة لا تبدو قديمة بالطريقة التى يقدمونها بها فى كتاباتهم» وهنا ربما كان يشير إلى مشروعه المعجمى المجهض.
كثيرًا ما ذكر معاصروه شغفه الشديد بأمور الإلقاء وعلامات الترقيم، بل وحتى المسافات فى أبياته. مثلاً عندما كان هو ومجموعة من الشباب يناقشون شاعرًا إنجليزيًّا من القرن 19، بدأ قسطنطين رحلة متعرجة عبر «متاهة المفردات الدقيقة«، وهنا تدخل أحد الزوار قائلاً: «بالتأكيد يا أستاذى، كل هذه تفاصيل»، فرد قسطنطين بحماسة: «ما الفن إلا التفاصيل» ومثلما قال فى قصيدته « من الزجاج الملون»: «أتأثر كثيرًا بالتفاصيل» وكذلك أشار المحرر والناقد والصديق چيورچوس بابوتساكيس إلى أنه رغم أن قسطنطين أبدع شعره الخاص، فلم يتخلَّ قط عن «إخلاصه لاختيار الكلمات».
ويتذكر بابوتساكيس قوله نحو عام 1931 إن «غالبية الشعراء اليونانيين لم يُولوا فى أعمالهم اهتمامًا كافيًا لمسألة الدقة المعجمية».
ولتحقيق هذه الدقة التعبيرية، عمل قسطنطين بعناية على قصائده، صاقلاً كل كلمة فيها، أحيانًا لما يقارب 15 عامًا قبل إرسالها إلى المطابع؛ فقد بدأ ديوان «أوروفيرنيس» فى 1904 واستمر فى العمل عليه حتى عام 1916.
رغم التعرف المبهج على الشعر اليونانى والصحافة والتفكير النقدى الذى صادفه عند الجالية اليونانية بإسطنبول، لم يكن قسطنطين سعيدًا بالابتعاد عن كتبه ومخطوطاته، وساورته شكوكه بشأن موهبته، لهذا حاول چون تشجيعه، فأشاد برسالة أخيه المكتوبة بإتقان، مضيفًا أنه «سيتجاوز قريبًا حدود معرفتى باللغة الإنجليزية« (16 يناير 1883) وكان هذا تعليقًا سخيًّا جدًا بالنظر إلى طموحاته الشخصية نحو الشهرة، وخاصةً فى كتابة قصيدة تجريبية مثل الشاعر الرمزى الفرنسى ستيفان مالارميه (1842-1898) بلغت 4000 بيت.
كانت مواهب چون الأدبية واضحة فى رسائله، وبعضها حتى كتبه شعرًا: «سأجيب رسالتك المؤرخة فى 29 أكتوبر، ليس نثرًا بل «أسوأ»/ توجه الإلهام شعرًا نشوانًا/ الأفكار لها/ والقوافى لى» (7 نوفمبر 1882).
بالطبع، عانى چون أيضًا من انعدام الثقة، ربما من مقارنات عقدها بينه وبين قسطنطين: «أفتقر إلى عبقريتك المتنوعة وقدرتك على إثارة الاهتمام باللاشىء« (16 يناير 1883) وفى رسالة تالية، أفصح عن شكوكه فى «مواهبى الشعرية (التى تمتلكها)، فهى، مع الأسف، متذبذبة.
لا أحد يتساوى فى جميع الظروف؛ ومنهم خادمك المتواضع، الذى يخضع، إلى أقصى حد، للأمور الخارجية وتقلبات الرياح« (23 يناير 1883). سيعترف لاحقًا بأنه لم يكن قادرًا على الكتابة على الإطلاق: «شعرى متقطع ومتفاوت حاليًا: ليس لدىَّ كثير من وقت الفراغ» (5 يونيو 1883).
فهل كان چون بوصف جهوده فى نظم الشعر بأنها «متقطعة ومتفاوتة«، يقصد أن مسيرته الشعرية تكاد تنتهى؟ لكن أيًّا كانت مشاعره حينها، فلم يثر نشر قصائده المبكرة فى الإسكندرية أى ضجة. وللأسف، كان هذا الكتاب الوحيد الذى نشره، وأخيرًا قنع بأنه ليس شاعرًا.
صحيح أنه نحو 1890-1891، طبع بعض القصائد مثل «بيجماليون يتأمل» من كم صفحة، نشرها لاحقًا فى ريفيستا كوينديسينالى، لكن كان هذا كل شىء. وبنهاية حياته، كان يرى نفسه فاشلاً. لكنه ظل فخورًا بقسطنطين ومدى جهده لجعل اسمه معروفًا بين دائرته الصغيرة من الأصدقاء والمعارف.
ظاهريًّا، يبدو أنه لم تكن ثمة منافسة صريحة بينهما، إذ فصل بينهما ما يقرب من عامين لكل منهما طموحات فنية كبيرة. لكن المرء يتساءل عما إذا كان چون قد حسد شقيقه على تجاوزه له كشاعر!
كان فشل چون مصيرًا وجب على قسطنطين تجنبه وإذا نظرنا إلى بعض أبياته، يُمكننا أن نرى مدى انتحالها من حيث النَّظم والموضوع، وكم تشبه قصائد قسطنطين الأولى التى تبرأ منها لاحقًا يبدأ المقطع الأول من «بيجماليون يتأمل» بالأبيات التالية: «قصيدتى! ستكون نموذجًا/ فى إيقاع الرخام، للجمال/ من ثم صادقة، مثالية فى كل طرف» وتنتهى هكذا «وهكذا أنهض؛ ستُعبّر قصيدتى/ عن الجمال فى إيقاعات الرخام»، لسوء حظ چون، لم «تُقرأ« هذه القصائد على الإطلاق، إذ كانت فى وزنها، وأسلوبها، ومواضيعها، ڤيكتورية تمامًا ولا عجب أنها لم تجد جمهورًا، ولا نقادًا، ولا جاذبية، وهو صمت لا يُمكن أن يكون قسطنطين قد أغفله كان بإمكانه أن يرى أن قصائد چون عادية وقديمة الطراز بمعنى آخر، لم يكن ذلك النوع من الشعر قادرًا على تغيير «عقول الملايين»، كما أمل أن يحقق هو نفسه.
بالإضافة إلى التفكير فى كيفية الهروب من تقليد چون للشعر وتعاليمه المدرسية، كان على قسطنطين أن يفكر فى مستقبله ماذا سيفعل عندما يعود هو ووالدته من إسطنبول؟ خلال إقامته فى العاصمة العثمانية، فكّر فى مهنة الصحافة السياسية نستنتج ذلك من رسالة (22 نوفمبر 1883) كتبتها له عرابته وابنة عمه، أماليا بيتاريدو-بابو، من أثينا ردًا على رسالة لم تصل إلينا ربما كان يسألها فيها النصيحة بشأن خططه المهنية، فحذرته من أن «النجاح فى السياسة يتطلب دراسة القانون... والصحافة ليست مناسبة لك أيضًا« وتابعت أن شباب هذه الأيام يتجهون بقوة للعمل المصرفى أو التجارى، وشجعته على متابعة هذا المجال. ويبدو أيضًا أن قسطنطين أعرب عن رغبته فى كتابة الشعر، فتابعت: «أفهم من رسالتك أن لديك ميلاً للشعر، وأنا على يقين أن القسطنطينية بطبيعتها الجميلة يمكن أن تلهمك« تثبت هذه النصيحة طيبة النية أن عائلته لم تكن تفقه الشعر على الإطلاق، بما يتجاوز هذه المعايير الأولية.
عندما عاد قسطنطين إلى الوطن فى أكتوبر 1885 فى الثانية والعشرين، كانت لديه فرص عمل قليلة، ولم يشغل وظيفة ثابتة لسنوات عديدة، ما أجبره على الاعتماد على دعم والدته المالى، وهو وضع لم يكن من الممكن أن يستمر فيه نظرًا للظروف المالية الصعبة التى تعيشها الأسرة.
ومع ذلك، لم يكن مقدرًا له أن يتجه إلى الحياة المهنية، وبالتأكيد ليس فى تجارة القطن التى جذبت الشباب اليونانيين الموهوبين ومثل العديد من الرجال فى العشرينيات من العمر، بحث عن عمل مربح دون هدف محدد. وكان أحد الاحتمالات هو العمل فى الصحافة كما أخبر ابنة عمه.
علنًا على الأقل، اعتبر نفسه صحفيًا، إذ كتب، أول مقال له (1882) عن الشاعر أثناسيوس خريستوبولوس عام قصف الأسطول البريطانى الإسكندرية. وهكذا، فى عام 1886، مع إخوة آخرين عاملين بأجر، بدأ العمل فى بورصة القطن محررًا فى صحيفة تيليجرافوس.
لكنه مع أن أجواء المنافسة فى سوق الأوراق المالية كانت مثيرة، لم يرَ نفسه قط مراسلاً ماليًّا وهكذا، عاد إلى شغفه الحقيقى؛ النقد الأدبى والثقافى، فكتب مقالات نقدية باليونانية والإنجليزية، لم يُنشر معظمها، تناول بعضها قضايا سياسية، مثل القضية القبرصية وعودة رخام البارثينون ومع أنه أظهر موهبة كمراجع للكتب ومترجم وناقد ثقافى، تخلى عن فكرة أن يصبح صحفيًّا محترفًا فى عام 1897. لكنه لم يقدم نفسه كشاعر حصريًّا وعلنًا خلال معظم تسعينيات القرن التاسع عشر، مع أنه عقد مثمر للغاية له على الصعيد الشعرى، إذ وجه طاقته بقوة نحو الشعر، وابتهج عندما ظهرت قصيدته الأولى «باخوس« فى دورية «هسبيروس« الصادرة فى لايبزيج عام 1886 ولا شك أنه كان إنجازًا عظيمًا لشاب فى الثالثة والعشرين يعيش فى ضاحية الإسكندرية إلا أن انتصاره الصغير الأول، المستوحى من الشاعر أثناسيوس خريستوبولوس (1772-1847)، لم يُعطِ انطباعًا يُذكر عن ثورة ديموطيقية/عامية كانت تتشكل فى الشعر اليونانى آنذاك. ثم نشر سلسلة من القصائد باللغة اليونانية، بعناوين «الشاعر والملهم» (1886)، و«البناؤون» (1891)، و«صوت من البحر» (1898).
فى ذلك الوقت، انطلق أيضًا فى العديد من المشاريع الفكرية الأخرى. ففى عام 1891، وامتدادًا لمشروعه المعجمى المُجهض، بدأ العمل على معجم مرادفات. ومع أنه لم يبدُ مشروعًا طويل الأمد حينها، فقد تطور مع مرور الوقت وكما كتب فى مسودة مقدمة لهذا العمل بعد سنوات عديدة، فقد استخدم قاموسًا يونانيًا ممتازًا (لم يحدده)، واحتوى على مرادفات عامية أكثر بكثير من غيره. (وقد أشار إلى 13 معجمًا على الأقل عند تجميع قائمته).
لكن هذا الكتاب حوى العديد من العيوب لذلك، رأى أنه من المفيد استكماله بمرادفاته الخاصة. وكان خلال قراءاته، كلما صادف «كلمة جميلة أو معبرة«، غالبًا ما تكون عامية من السجلات القديمة يدونها مع المرادفات، ثم يضعها فى الصفحة المناسبة من المعجم بعد سنوات، بدأت هذه المرادفات تتسرب من الكتاب، فقرر تدوينها فى دفتر «لاستخدامى الشخصى أو لاستخدام أصدقائى حال رغبوا« لم يكن هذا العمل مرهقًا على الإطلاق، بل بدا «ممتعًا» لكنه جمع هذه الكلمات أولاً لأنها مفيدة له «كمؤلف«، أى كشاعر بمعنى آخر، سعى إلى هذا المشروع كمورد شخصى لا كمغامرة لغوية للنشر فى كتاب بدت بعض الكلمات التى اختارها متوقعة، استقى كثير منها من قراءته للشعر اليونانى والأغانى الشعبية بينما أظهرت كلمات أخرى فضوله اللغوى. وهكذا، لدينا مرادفات لكلمة «مصاص دماء»، وللمشروب اليونانى «أوزو« مع متغيريه (تسيبورو وزبيب).
عندما أنهى مشروعه نحو 1917، بعد ما يقرب من ثلاثين عامًا، كان قد جمع 561 مرادفة تقريبًا شكلت كتابًا ومع أنه لم ينشره قط، فقد أثبت جدارته كمعجمى بارع يتمتع بشغف كبير باللغة اليونانية ودقة فى التعبير ورغم أنه لم يتلقَّ تدريبًا لغويًّا، كان بإمكانه بالتأكيد أن يصبح كذلك، كما كان بإمكانه أن ينمى شغفه بالتاريخ بالتحول إلى مؤرخ كانت هذه البراعة الفكرية وتنوعها علامة على عبقريته، وتُظهر أنه، دون أى تعليم جامعى امتلك معرفة علمية باللغة اليونانية والتاريخ اليونانى، أثارت إعجاب اللغويين والمؤرخين المحترفين على حد سواء.
بعد نحو عامين من بدء معجمه للمراجع، طور أداة أخرى مفيدة للغته الشعرية، وهى (معجم القوافى). كتبه على ورق من مكتب الرى [حيث عمل لفترة]، مقتديًا بشعراء آخرين من القرن التاسع عشر، جامعًا قوائم القوافى بنفسه من معاجم مختلفة وفى عامى 1897 198 بدأ كتالوجًا ثانيًا للقوافى جمعه بنفسه من الشعراء الذين قرأ لهم. واعتمد على هذين الكتالوجين عند تأليف قصائده، ويمكن تحديد 18 قافية من هذه القوافى فى قصائده. لكن استفادته منها تضاءلت بعد 1900 عندما قلَّ اعتماد شعره على القافية.
منذ عام 1890 فصاعدًا، كان الشعر محور اهتمام قسطنطين الأساسى، إن لم يكن انشغاله المتعصب، وبينما لم ير أهله وأصدقاؤه ثمار إبداعه فى القصائد المنشورة، فقد أدرج عناوين 131 قصيدة جديدة فى فهرسه بين أغسطس 1891 وديسمبر 1898. وبين يناير 1899 وديسمبر 1903 أدرج 32 قصيدة، منها تسع مسودات سابقة وفى العام التالى، تشير سجلاته إلى سبعة وعشرين مؤلفًا، لم ينجُ منها سوى «الشموع» الشهيرة، التى نُشرت عام 1899.
كان تناول الشيخوخة موضوعًا غريبًا لرجل فى الثلاثين من عمره؛ يحدق المتحدث فى صف شموع تمثل حياته ويشعر بالضيق عند رؤية صف طويل من فتائل مطفأة: «لا أريد أن أنظر إليها؛ يحزننى منظرها/ ويحزننى أيضًا أن أتذكر ضوءها السابق/ أنظر إلى الأمام إلى شموعى المضاءة».
كان قسطنطين سعيدًا جدًا بهذه القصيدة لدرجة أنه كتب عنها إلى بريكليس أناستاسيادس قائلاً إنها «واحدة من أفضل الأشياء» التى كتبها على الإطلاق.
وكرر شعوره بالفخر لچون الذى كان ترجمها إلى الإنجليزية آنذاك، واصفًا إياها بأنها «جيدة» و«سهلة الترجمة». وتكشف مسودة من ثلاث صفحات وضعت ما بين عامى 1897 و1899، عن مدى تطور نظريته الجمالية فى ذلك الوقت ومع أن القصيدة بدت له رمزية لحد ما، فقد رآها قسطنطين «درامية»، ما يجعلها مختلفة عن «الجدران» و«النوافذ»؛ القصائد «جلية الرمزية».
لكن اللافت للنظر فى النص ليس نضج أسلوبه الشعرى فحسب، بل ثقته بنفسه كشاعر أيضًا؛ لم يعد يعتمد على چون فى النصيحة والتوجيه، بل انقلاب ديناميكية القوة فى علاقتهما، فعلى عكس مراسلاتهما فى أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر حول شعر چون، بدا فيها الأخ الأكبر مسيطرًا، كان الوضع هنا معكوسًا. ففى ثمانينيات القرن التاسع عشر، بدا أن چون صاحب المجد الشعرى المنتظر، وتقبّل قسطنطين باحترام هذه النتيجة ضمنيًّا.
لكن مع نهاية العقد، تجاوز قسطنطين شقيقه كفنان العائلة. ومن الآن فصاعدًا، انصب الاهتمام على إبداعاته الشعرية، وهو تركيز متزايد جلب معه شهرة أعرض، لكنه أيضًا أبعده عن المقربين منه!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.