كان العرب أشد الشعوب حاجة إلي دعوة الإسلام التي وافق وحي الله بها ميقاته في الزمان و المكان, فحمل العرب نور هذه الرسالة إلي البشرية لتحررها من العبودية لغير الله وتهديها إلي العدل والرحمة والسلام. فأبدع المسلمون عربا وغير عرب ثروة هائلة من الفقه والعلم والأدب, وظهر من بينهم عباقرة أفذاذ خطوا خطوات واسعة بالحضارة البشرية والفكر الإنساني, هذه حقيقة لا مراء فيها. ولكن كان هناك وجه آخر مظلم دموي عنيف لم يأت من الإسلام نفسه وإنما أتي من الطبيعة البشرية في طموحها وتصارعها علي الحكم والسلطة, فما أن انقضي عهد الخلفاء الراشدين الذي اختتم بالفتنة الكبري واستشهد فيه ثلاثة منهم غيلة وغدرا حتي بدأ عصر بني أمية بمأساة الحسين في حكم يزيد بن معاوية, وارتكب خلفاء بني أمية باستثناء عمر بن عبد العزيز كثيرا من الفظائع التي يكفي ان اذكر منها محاصرة الحجاج الثقفي للمسجد الحرام ورميه الكعبة بالمنجنيق من أجل ان يقبض علي عبد الله بن الزبير منافس الأمويين, علي الخلافة وقتله والتمثيل بجسده, وعامل الأمويون غير العرب بأشد ألوان الازدراء والإهانة وارغموهم علي الاستمرار في دفع الجزية ولو دخلوا في الإسلام. و اضطهدوا منافسيهم من بني هاشم وأثاروا بين قبائل العرب التناحر والعصبيات. ولم تعمر الخلافة الأموية طويلا, فقد قامت الخلافة العباسية سنة131 هجرية بعد تدبير سري تعاقبت عليه ثلاثة اجيال وعون من الفرس والخراسانيين ولم تكن بأفضل حالا, فلم تتغير الصورة البشعة, بل زادت سوءا, فلقد ذبح أبو عبد الله السفاح وهو أول خلفاء بني العباس مائة من بني أمية في ليلة واحدة, ثم مد له البساط لطعام العشاء بعد أن أغراه أحد الشعراء بإبادتهم, وكانوا قد أحسنوا به الظن وذهبوا يهنئونه ويظهرون ولاءهم. ولم ينج الطالبيون من أبناء علي من بطش اخوانهم العباسيين, بل زادوهم تنكيلا وقتلوا من أئمتهم وكبرائهم عددا كثيرا وكان الشعراء يرثونهم بآحر الشعر بكاء وحزنا, وألفت في مقاتلهم المؤلفات. ولم يسلم انصار العباسيين- الفرس والخراسانيون- من غدرهم فقد غدر المنصور بقائد جيوشهم ابي مسلم الخراساني وغدر هارون الرشيد بوزرائه البرامكة وقتل الكاتب عبد الله بن المقفع تقطيعا بالسيف وحرقا بالنار لكلمة تجرأ علي كتابتها في عهد أمان لعم المنصور الذي كان قد خرج عليه. وتصارع الوزراء أيضا ودبر بعضهم بعض المكائد, وكان كل وزير يستصفي ما حازه سابقه من اموال بوسائل هي غاية في القسوة والإجرام منها الحبس في بالتنور وهو صندوق خشبي يشبه البرميل ملئت جدرانه الداخلية بالمسامير الحادة الطويلة فيوضع فيه المحكوم عليه ويدحرج به حتي يتخرق جسده, اخترعه الوزير محمد بن عبد الملك الزيات ثم كان هذا التنور آلة التعذيب التي عذبه بها ابن أبي دؤاد قبل ان يقتله. ولا تصدق مايحكيه الرواة عن الثراء الذي عم البلاد والعباد, فقد كان حكرا علي الطبقة الحاكمة والمتقربين إليها وكانت الهوة الطبقية واسعة. ألم يحدثنا شاعر فقير مغمور عن بيته الذي يغلق بابه حتي لا يري سوء حاله من يجوب الطريق, وأن السارق لو دخل فيه سرق ما معه؟! ويحدثنا آخر عن السنور الذي فر من بيته كأنه شيخ سوء فر من سجن بكفالة لانه لم يجد طعاما أو جرذانا وفضل عليه مجمع القمامة؟! ولا تصدق مايشاع عن وحدة الأمة في ظل الخلافة, فالتاريخ يحدثنا عن كثرة الدويلات التي أنشأها الطامحون المتغلبون وتناثرت في انحاء العالم الإسلامي وتعاقبت, ويحدثنا عن الانقلابات الداخلية ودخول الجيوش وخروجها في بغداد عاصمة الخلافة بين سلطة البويهيين الفرس الديالمة وسلطة السلاجقة الأتراك مع مباركة الخليفة المتغلب مكتفيا بالدعاء له علي المنابر ويحدثنا عن عصر كانت فيه خلافة عباسية في بغداد وأخري أموية في الاندلس وعصر آخر كانت عباسية وفاطمية. وظل الأمر علي هذا النحو الذي فرضته الظروف الخاصة بكل إقليم في عهد الايوبيين والمماليك حتي جاء العثمانيون فاشتروا الخلافة من آخر خليفة عباسي مزعوم بعد انتصارهم علي المماليك وفي عصرهم توقف التقدم الفكري والأدبي تحت نير حكمهم المستبد الغشوم. كان هذا كله نظام المتغلبين الذي يؤمن به الحالمون بعودة الخلافة, ويري فقههم المضحك أن الثائر علي السلطان ينقلب من مجرم آثم حالة خروجه بالثورة إلي إمام تجب طاعته إذا نجح وتغلب. إن هؤلاء الحالمين ذوو نفسيات مجبولة علي حب الاستبداد ولذلك يعادون القضاء والإعلام والتفكير الحر, ويستغلون بساطة التفكير عند العامة فيثيرونهم علي أهل الفضل وقضاة العدل. إنهم من عشاق الحكم المطلق المتوسع الذي كان يسود العالمين الشرقي والغربي حتي نهاية العصور الوسطي ولكن العالم الغربي توصل بعد جهود تاريخية إلي الدولة المدنية الحديثة وإلي استقلال الدول والاكتفاء بتعاونها في حدود المصالح المشتركة وسري هذا النهج من التفكير إلي العالم الشرقي وتوافقت البشرية عليه إلا من شذ. فهل يتعلم هؤلاء الحالمون من تجاربنا في القديم التي يرويها التاريخ أو تجاربنا في الحديث الذي عاصرناه وعاصروه؟ ألم يروا بأعينهم كيف فشل الدمج بين مصر وسوريا بعد عامين من الفرحة به؟ هل يفطنون إلي اتجاه حركة التاريخ فيكفون عن معاندته؟! كلية الدراسات الإسلامية والعربية جامعة الأزهر لمزيد من مقالات د. محمد فايد هيكل