اعتبر أهل السنة الخلافة من أصول الفقه لا أصول الدين سبق أن عرضنا لواقع تاريخ دولة المدينة، ودولة الخلافة الإمبراطورية في عصر الراشدين، وأثبتنا ما اتسمتا به من طابع مدني، برغم رؤية الإسلامويين المعاصرين «الثيوقراطية» وحسبنا أن مفهوم الخلافة عند معظم الخلفاء آنذاك كان يعني خلافة الرسول صلي الله عليه وسلم كحاكم، وليس خلافة الله سبحانه علي الأرض، حسب رؤية الخليفة الثالث عثمان بن عفان. كما جري تطبيق مبدأ «الشوري» – وإن بدرجة ما – في اختيار الخلفاء الأربعة، والأهم من ذلك عدم توريث المنصب بما يعد تميز الخلافة عند الملك الذي وسم حكم خلفاء بني أمية وبني العباس، ويحسب لأهل السنة – عموما – اعتبار الخلافة من أصول الفقه، لا من أصول الدين، مع ذلك، ينطبق مفهوم ابن خلدون عن «العصبية» علي الخلافة الراشدة، حيث احتكرت قبيلة قريش الحكم، برغم معارضة بعض القبائل الأخري، كما ينطبق عليها أيضا مفهوم الثيوقراطية – الدعوة الدينية – الخلدونية حيث جري تلوين الصراع علي الخلافة بلون ديني، يتمحور حول مقولة «الكفر والإيمان»، و«مسألة ارتكاب الكبيرة» علي نحو خاص، وحسبنا أن هذا الصراع هو الذي أفضي إلي ظهور «الفرق الدينية». دولة العرب بالغلبة في العصر الأموي، ترسخ مفهوم العصبية بصورة واضحة، فكانت دولتهم «دولة العرب» بامتياز، كما ضعف مفهوم الثيوقراطية بعد تحول الخلافة إلي «ملك عضوض»، وجري اقتباس نظمها من النظم البيزنطية، لكن خلفاء بني أمية عولوا علي استثمار الثيوقراطية لتحقيق أهداف دنيوية تكمن في تكريس «الاستبداد» باسم الدين، وانبري فقهاء «المرجئة» السلطويون لتبرير حكم «الغلبة» بمماحكات ذرائعية دينية واهية. وحسبنا أن خلفاء بني أمية عولوا علي «بيعة» شكلية لأولياء العهد، كما أوضحنا من قبل، لكنهم – في الواقع – لم يتورعوا عن إعلان اكتسابهم الخلافة عن طريق «الغلبة»، إذ أعلن أحدهم: «.. أما بعد.. إني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم، ولا مسرة بولايتي، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة..»، وقول آخر: «أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة.. نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا»، ولا غرو، فقد امتدح أحد الشعراء عبدالملك بن مروان بقوله: «الله طوقك الخلافة والله ليس لما قضي تبديل» ولم يتورع عبدالملك عن الجهر بالغلبة، فصعد المنبر ثم قال: .. ألا إني لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف.. والله لا يأمرني أحد بتقوي الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه»، من هنا حق لبعض الدارسين – المرحوم/ حسين مروة – الحكم بأن الخلافة منذ الأمويين تحولت إلي «تجارب سلطانية ليس إلا»، ولآخر – أدونيس – أن يقول: «صارت مصطلحات الخلافة والملك والسلطنة تنطوي علي مدلول واحد»، ليس أدل علي ذلك من اتباع خلفاء بني أمية – باستثناء عمر بن عبدالعزيز – سياسة الخداع والكذب والتدليس واغتيال الخصوم، كما انتهكوا أساسيات الشريعة في فرض الضرائب والمغارم وحيازة الضياع الواسعة، وهو ما يفسر اندلاع ثورات اجتماعية شملت كل الولايات، بل ارتد الكثيرون عن الإسلام لتلك الأسباب، كما ابتدعوا في ذلك نظما لا تمت للشريعة بأدني صلة متذرعين «بالضرورة والمصلحة»، وتباري فقهاؤهم تبرير ذلك بكونه «اجتهادا محمودا». استبداد بني العباس أما خلفاء بني العباس، فقد تنكروا للشعارات التي أعلنوها في مرحلة الدعوة – كالعدالة والمساواة والإصلاح – بعد قيام الدولة سنة 132ه، وورثوا الطابع الملكي الاستبدادي عن بني أمية، وإن في صيغة «كسروية» فارسية، بدلا من «الهرقلية» البيزنطية، إذ كان الحكم وراثيا – بعد بيعة قسرية شكلية – يستند إلي عصبية جديدة، تمثلت في الفرس، ثم الترك، كما تسلحوا بالطابع الثيوقراطي، حيث أعلن الخليفة المنصور أنه «ظل الله علي الأرض». ولعل هذا يفسر موقف الإمامين مالك وأبي حنيفة من حكم العباسيين الأوائل، إذ حرضا الرعية علي التنصل من البيعة بقولهما: «لقد بايعتم مكرهين وليس علي مكره يمين»، ورفض الإمام مالك طلب الخليفة بجعل كتابه «الموطأ» بمثابة «دستور» للدولة، كما رفض أبوحنيفة تولي منصب القضاء، وآثر إيداعه السجن، ولا غرو، فقد كانا متعاطفين مع العلويين، حيث أيدا حقهم في الخلافة، ويبدو أن الخليفة المأمون قد تأثر برأيهما – فضلا عن فقهاء المعتزلة – فأسند ولاية العهد إلي أحد العلويين – علي الرضي – لكنه عدل عن ذلك تحت تأثير ضغوط البيت العباسي. ونحن في غني عن سرد مفاسد الخلفاء العباسيين وشرح ما غصت به قصورهم من الجواري والغلمان، وتعويلهم علي الخداع وقمع الثورات الاجتماعية وقتل زعمائها باسم الدين باعتبارهم زنادقة وأهل فتن وضلالة، وفي ذلك تفسير لظهور دولة مستقلة عن الخلافة في المشرق والمغرب، اتخذ بعض حكامها ألقاب الخلافة، كما يفسر أيضا تنكر الخلفاء للفرس والتنكيل بأسرتي البرامكة وبني سهل، علي الرغم مما أظهروه – كوزراء – من براعة في تسيير أمور الدولة، لقد استعانوا بعصبية جديدة من الأتراك المعروفين بالبداوة والتوحش، وكونوا منهم جيشا لقمع وقهر حركات المعارضة. الأتراك المتوحشون شهدت بدايات العصر العباسي الثاني بداية نهاية الخلافة الثيوقراطية، إذ تحول قادة العسكر التركي إلي سيف مسلط علي رقاب الخلفاء بعد أن كانوا سيف الخلافة علي أعدائها، وهو ما تمثل في ظاهرة مستحدثة، وهي تأسيس منصب جديد «أمير الأمراء» الذي احتكره قادة العسكر، فسلبوا الخلافة صلاحياتها وسلطاتها، وأبقوا عليها اسما، لا فعلا، وتحكموا في تولية الخلفاء وعزلهم، وكثيرا ما اعتدوا علي شخوصهم، بسمل العين وجذع الأنف وقطع الأذن، أو السجن، وحتي القتل، وفي ذلك، قال أحد شعراء العصر: خليفة في قفص بين «وصيف» و«بغا» يقول ما قالا له كما تقول الببغا ومعلوم أن وصيف وبغا كانا من قادة العسكر الذين تولوا منصب «أمير الأمراء». إن انهيار نظام الخلافة الثيوقراطية تبعه تمزق الدولة العباسية إلي كيانات مستقلة إثنية وطائفية، سوف نعرض لها فيما بعد، وما يعنينا – في هذا المقام – أن العالم الإسلامي شهد آنذاك قيام الخلافة الفاطمية في المغرب، ثم مصر، والخلافة الأموية في الأندلس، فتمزقت بذلك وحدة «دار الإسلام». أما الخلافة العباسية، فقد تدهورت تماما وإن ظلت قائمة اسما ورسما ليس إلا، إذ طمحت عناصر وافدة من أطراف المشرق في السلطة، وحجرت علي الخلفاء، وتقلدوا الحكم تحت اسم «السلاطين»، كما هو الحال بالنسبة لبني بويه الشيعة، والسلاجقة، فخطب للسلاطين علي منابر بغداد، واختصوا بسك أسمائهم علي العملة، واكتسبوا رسوم الخلافة بعد انتزاع سلطاتها، ولم يتورع «فقهاء السلطان» عن منحهم مشروعية الحكم الثيوقراطي، كما هو حال الإمام الغزالي علي الرغم من فساد سياساتهم الجائرة، إذ أوجب علي الرعية لزوم طاعتهم مبررا ذلك ب «درأ الفتنة»!! ظل الحال علي هذا المنوال، خلفاء بلا سلطان وقادة عسكر يتحكمون في أرزاق الرعية، بل في رقابهم. علي أن فساد «العسكر تاريا» عم الخلافات الثلاث، فخلفهم في الاستئثار بالسلطة شراذم من «البيروقراطية»، فآل الحكم في الدولة الفاطمية إلي ما عرف باسم «الوزراء العظام»، وفي الأندلس إلي «الحجاب العامريين»، لتسقط الخلافتين معا حول منتصف القرن الخامس الهجري. أما الخلافة العباسية فقد سقطت علي يد المغول بعدهما بقرابة قرن من الزمان. انحطاط العثمانية لما قامت الدولة العثمانية، جمع حكامها بين الخلافة الثيوقراطية والسلطنة الدنيوية، ونحن في غني عن سرد مسئوليتها عن ما حل بالعالم العربي من استبداد وتسلط أفضي إلي الانحطاط والتخلف، ولما سقطت سنة 1924م، جرت محاولات عبثية لإحياء الخلافة الثيوقراطية في مصر والهند، لكن أحلام الإحياء تبددت، وإن اعتبر بعض الحكام العرب المعاصرين أنفسهم بمثابة ورثة لأسلافهم السابقين، وادعي البعض أنه «أمير المؤمنين». تلك نظرة «بانورامية» موجزة عن تاريخية الدولة الثيوقراطية التي تحاول التيارات الإسلاموية «المراهقة» إحياءها، ولا يخالجنا أدني شك في كونها مدعومة وموجهة بقوي خارجية، بهدف تكريس التخلف، وإثارة «فوضي خلاقة» تتيح لها تنفيذ مشروع «الشرق الأوسط الكبير» كضمان لبقاء وتسلط إسرائيل. فماذا عن الفكر السياسي لقوي المعارضة الخارجية والاعتزالية والشيعية إزاء قضية الدولة الثيوقراطية؟ ذلك ما سنفرد له المقال التالي..