سبق أن عرضنا للفكر السياسي «الإسلاموي»، وكيف جمع بين «الطوبوية» المثالية وبين التبرير الذرائعي لنظم ادعت بالباطل مشروعيتها الدينية التي لم تكن في الواقع إلا انتهاكا لتعاليم الدين. كذا الكشف عن دور فقهاء «السلطة» في هذا الصدد، بحيث لم يتورعوا عن تأويل آيات القرآن ووضع أحاديث بنوية زائفة لخدمة الطغيان. لعل في تعريف ابن خلدون- الفقيه والمؤرخ السلطوي- للخلافة ما يكشف عما نقول، حيث يقول : «الخلافة هي حمل الكافة علي مقتضي النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها.. فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به». فأين ذلك بالنسبة لمبدأ «الشوري» الذي أوصي به القرآن الكريم؟. لم يكن ذلك – في نظر العروي- إلا «صورة معكوسة للتجربة السياسية التاريخية»، إنها «مدينة فاضلة- نظريا- عكسية مقلوبة للوضع القائم». فلم تكن دولة الخلافة إلا «أداة للقهر والغلبة والاستقلال بالملذات والمفاخر.. إنها تعني استيلاء جماعة علي السلطة والمال، مفهومها هو التسلط» باسم الإسلام البرئ قطعا من تلك الترهات. من هنا يمكن التأكيد علي حقيقة أن الخلافة الشرعية «نظام لم يتحقق». في الاتجاه نفسه يسير المفكر الصديق إمام عبد الفتاح إمام، حيث يقول: «يجب التفرقة بين الجانب النظري- ما يسمي بنظريات إسلامية- وبين الواقع التاريخي الذي كان حلقة وسطي بين تاريخنا القديم الذي ساده الطغيان وبين الطغيان الحديث والمعاصر الذي تأله فيه الحاكم أيضا». ويري أن تاريخ الخلافة «ملئ بأنواع إساءة السلطة بما يعد خروجا علي قواعد الخلافة الشرعية»، إذ «لم يكن بيت المال إلا بيت الخليفة أيضا- بعد عصر الراشدين- وطوال التاريخ الإسلامي». وبصدد حقيقة «البيعة» – التي تمثل الشرعية- يري الدكتور إمام أنها «كانت مجرد إجراء شكلي أقرب ما يكون إلي الاستفتاءات العصرية التي يجريها الرؤساء في بلادنا، وتكون نتيجتها 9ر99%». ولا غرو، فقد أطلق عليها أحد ولاة بني أمية «سنته»، «فمن قال : أبايعه علي سنة الله ورسول ضرب عنقه بالسيف». لذلك لما رفض أهل مكةوالمدينة بيعة يزيد بن معاوية؛ لم يتورع عن ضرب الكعبة بالمنجنيق حتي تهدمت، فأجبروا علي السمع والطاعة. لقد كانت «البيعية» – باختصار- «إعلانا جبريا بالموافقة، أو هي استسلام قهري للحاكم»، بل إن أحد خلفاء بني العباس قد أعلن صراحة أن «من نكث بيعتنا فقد أباح دمه لنا»؛ لا لشيء إلا لأن الخلافة كانت – في نظر الخلفاء- «تفويضا إلهيا»، أو «قميصا ألبسنا الله إياه». ولا غرو، فقد أفتي فقهاء السلطان – أربعون فقيها- بصدد محاسبة الخليفة علي أعماله الجائرة- «ما علي الخليفة حساب ولا عذاب»، وذكر المؤرخون أن القاضي أبا يوسف استحل أحد إما الخليفة المهدي لابنه هرون الرشيد- برغم معاشرة المهدي لها- قائلا: «أهتك حرمة أبيك ، واقص شهوته، وصيره في رقبتي»!! ما سبق عرضه محض إشارات عابرة ، قصدنا من إثباتها أن الخلافة الإسلامية التي يتذرع الإسلاميون المعاصرون إحياءها – باسم الإسلام- ليست إلا وهما تاريخيا في التحليل الأخير، وأنها لا تخرج عن كونها «دعوة حق يراد بها باطل»، في أحسن الأحوال. ولقد آثرنا اقتباس تلك المقدمة المختصرة من كتابات مفكرين عربيين معاصرين- برغم كثرة وعمق وثراء دراساتنا بصدد تلك الإشكالية- ونكتفي- كمؤرخ- باستنطاق التاريخ لبرهنة مصداقية ما ذهب إليه الصديقان، ولو في إيجاز لا يخل بالحقائق. فمهمة المؤرخ – كما هو معلوم- عرض وتفسير الوقائع العيانية التي نقدمها علي النحو التالي: يري الإسلامويون المعاصرون أن النموذج الخاص بالحكم الثيوقراطي، الذي يعولون علي إحيائه يتعلق بحكومة الرسول (ص) في المدينة، فضلا عن عصر الخلفاء الراشدين، وإن ذهب بعضهم إلي اختيار النظام العثماني الجامع بين الخلافة والسلطنة، أي بين الدين والغلبة. في الحالين معا، ينم هذا الاختيار علي فقر معرفي بأوليات التاريخ الإسلامي، فضلا عن قصور في الوقوف علي قوانين حركة التاريخ وصيرورته. ذلك أن مقولة «الإحياء» في حد ذاتها ليست أكثر من خرافة لأن الواقع الحاضر يستحيل حكمه بالماضي، «فالمرء لا يستطيع أن يضع قدمه في النهر مرتين» لأن مياهه متجددة ومتدفقة. هكذا واقع المجتمعات الذي يجب الاديولوجيات الثابتة، اللهم إلا أن تكون- كما هو حال الماركسية- جدلية تواكب خطي الحركة وقوانين التطور والصيرورة. فحكومة الرسول (ص) بالمدينة كانت سدينة» حسب اعتراف بعض منظريهم- بينما يتمسكون ويشبثون بمفهوم «الدولة الثيوقراطية». أما عن دستورها- إن جاز التعبير- فكان يتمثل في الوحي الإلهي الذي انقطع بوفاة الرسول بطبيعة الحال. أما ما ورد في الوحي بخصوص التشريع فكان مرتبطا بأسباب النزول، أي بمعطيات الواقع. وإذ يتغير الواقع فيواكب الوحي ذلك بنسخ الأحكام السابقة وإنزال أحكام جديدة تتسق مع معالجة مسائله وقضاياه، كما هو الحال بخصوص مسألة «الأسري» علي سبيل المثال. كذا مسألة الإرث كبديل للتآخي بين المهاجرين والأنصار. يتضح ذلك جليا في موقف الرسول (ص) من قبائل اليهود في المدينة، حيث اتبع مع بني قينقاع سياسة مغايرة لسياسته إزاء بني النضير، واختلف موقفه من بني قريظة عن موقفيه السابقين مع بني قينقاع وبني النضير. وأخيرا اتبع مع يهود خيبر سياسة جديدة أبعد ما تكون عن سياسته مع يهود المدينة. ما نريد تأكيده هو حقيقة ارتباط التشريع بمعطيات الواقع؛ فلا قيمة للقوانين في حد ذاتها؛ بقدر ما تحققه من حلول عادلة لمشكلات الواقع في إطار المبادئ العامة للتشريع التي تتسم بالثبات وحدها. كونفدرالية ناهيك عن كون أنموذج المدينة لم يكن ثابتا قط إنما تعرض لسنن التطور؛ فقد انفرط «دستورها» بتغيير أوضاع مواطنيها، كذا بتصور الدعوة الإسلامية بعد انتشار الإسلام في شبه الجزيرة، واختلاف طبيعة أنماط الحياة في أقاليمها المتعددة، وإذا كان هناك من سياسة ثابتة إزاءها جميعا، فقد تمثلت فقط في إقرار الرسول (ص) حكم زعمائها بعد إسلامهم كما كان عليه الحال قبل اعتناقهم ورعاياهم الإسلام، مقابل دفع الزكاة باعتبارها من أصول الإسلام من ناحية، وكونها مظهرا للسيادة من ناحية أخري. لذلك صدق من شبه صيغة الحكم هذه بنمط «الكونفدرالية» في المفهوم السياسي الحديث. فهل يقبل الإسلامويون المعاصرون هذا النمط، أم يتشبثون بالمفهوم التقليدي المعروف عن وحدة «دار الإسلام» في مقابل «دار الحرب»، أي مفهوم الخلافة المركزية؟ معلوم أيضا أن أنموذج دولة المدينة كان خلوا من أية مؤسسات معلومة ومتميزة بخصوصيات تختلف عن نظريتها في «دار الحرب»، سواء في نظم الحكم والإدارة أو الجيش والقضاء.. إلخ؛ فهل سيصر الإسلامويون الجدد علي محاكاة الرسول (ص) في هذا الصد؛ كإصرارهم علي تقمص نمط حياة الرسول في اللباس والمطعم والمسكن وحلق الشارب ونتف الإبط وإرسال اللحية؟. وهل سيعودون إلي نكاح «ملك اليمين» واقتناء العبيد وزواج المسيار وما شاكل تشبها بما كان ساريا في ظل حكومة المدينة؟ أما عن عصر الراشدين، فالثابت أن الأحوال تبدلت بتأسيس دولة امبراطورية بعد الفتوح، كما تغيرت أنماط الحياة من البداوة إلي التحضر، بما يجعل من الحفاظ علي نمط بعينه في الحكم أمرا مستحيلا. يظهر ذلك بعدم وجود صيغة موحدة في تولية الخلفاء؛ إذ تولي كل منهم بطريقة مغايرة لطريقة سلفه. بل شجر الخلاف بين كبار الصحابة أنفسهم حول الخلافة بعد وفاة الرسول مباشرة. وما جري في اجتماع «السقيقة» من خلاف حسم عن طريق «الغلبة» أمر معروف. بل تطور الخلاف إلي صراع دموي تشهد عليه وقائع وأحداث «الفتنة الكبري»، وهو أمر يمكن أن يكون مشروعا حسب معيار «السياسة»، لكنه مرفوض كلية وفق معيار العقيدة. إن مقتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة أمر لا يخلو من مغزي، في هذا الصدد. فهل يقبل الإسلامويون الجدد إحياء تلك الماجريات في دولة خلافتهم الجديدة؟ وهل مازالوا يصرون علي رأي أهل السنة القائل بأن «الخلافة في قريش» وحدها” بالرغم من تجاوزه مبدأ «الشوري» الذي أقره الإسلام في شريعته الغراء؟ معلوم أن الخليفة عمر بن الخطاب لم يتوزع عن اقتباس معظم نظم دولة الإسلام من الفرس؛ وهو أمر يحسب له” فهل ينهج الإسلامويون الجدد النهج ذاته في الأخذ عن حضارة العالم المعاصر لبناء دولة مدنية ديموقراطية حديثة- كما تعهدوا بذلك قبل توليهم الحكم- أم يعودون إلي نظم الفرس القدامي تأسيا بابن الخطاب؟ معلوم أيضا أن الخلفاء الراشدين اتبعوا سياسات مختلفة إزاء مسائل محددة- كمسألة الفئ ومسألة العطاء ومسألة حيازة الأرض وغيرها- وكانوا جميعا موفقين راشدين رغم الاختلاف، لا لشيء إلا لأن كلا منهم قد راعي سنة التطور وتغيير الظروف والمعطيات، ولنا أن نتساءل: إذا كان ذلك كذلك، فلماذا يصر الإسلامويون الجدد علي التشبث بالنص في الدستور علي «تطبيق أحكام الشريعة»، برغم عدم وجود «أحكام» ثابتة اتفق عليها فقهاء أهل السنة إبان عصر «الخلافة الثيوقراطية»؟ من جانبنا، نؤكد أنهم علي غير علم ألبته بمفهوم «الدستور» كمبادئ- لا أحكام- من ناحية ، فضلا عن جهل مطبق بمبادئ الشريعة ومقاصدها، وحتي أحكامها، من ناحية أخري.