تناولنا فى مقال الجمعة الماضى الحديث عن شكل الدولة الإسلامية فى فترة الخلفاء الراشدين، حيث لم تُصَغ نظرية واحدة محددة لتداول السلطة وكيفية اختيار الحاكم، ورغم أن دولة الإسلام لم تعرف شكلاً محددًا أو قالبًا ثابتًا، فإنها بصورة عامة اتسمت بقدر كبير من الديمقراطية وقبول الآخر، وقد أسعدنى أن تصدر من دار الإفتاء المصرية الأ،سبوع المنصرم فتوى تتفق تماماً، ولله الحمد، مع ما نسطره فى هذه السلسلة من المقالات حيث أكدت الفتوى الصادرة جواز التعددية السياسية، وأن الشريعة الإسلامية لم تأمر بنظام سياسى محدد، بل تعددت الأنظمة التى أقرها فقهاء الأمة على مر العصور بدءا من عصر النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.وأن الشرع الحنيف ترك الباب مفتوحًا أمام اجتهادات تناسب العصور والأماكن المختلفة، وهذه هى طبيعة تعامل الشريعة مع كل القضايا التى تحتمل التغيير مستدلة على ذلك بطريقة تعيين الخلفاء بعد رسول الله (ص ).. وقد أكدت الفتوى أن من يدلى بصوته لاختيار أى من تلك الأحزاب ينبغى أن يتقى الله فى صوته وأن يتحرى مصلحة الأمة ما استطاع، مستشهدة بقوله تعالى : «ستكتب شهادتهم ويسألون». ونستكمل حديثنا بدءًا من اختلاف الصورة تمامًا مع السابقة الدستورية الخطيرة التى شكلها تحويل معاوية بن أبى سفيان الخلافة إلى ملك عضوض إثر تنازل الإمام الحسن بن على عن الخلافة. وقد عوّل الإمام الحسن فى تنازله على فهم خاص له عن حق الإمام المطلق فى اتخاذ أى إجراء يفضى إلى حقن دماء المسلمين إلى درجة تسليم السلطة إلى خصمه وخصم أبيه اللدود معاوية بن أبى سفيان، مما شكّل سابقة وصدمة عنيفة لأنصاره. ودون دخول فى جدل طويل عن تأصيل حق الإمام الحسن بن على فى التنازل عن الحكم، فإنه باليقين أسفر عن نهاية العهد الراشد للخلافة المتسم بقدر كبير من الديمقراطية وبدء قيام الملك العضوض، الذى أخبر به المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم، على أساس من القوة والغلبة. وجاءت الخلافة الأموية لتقطع باليقين بحسبان اختلافها شكلاً ومضمونًا عن المتعارف عليه فى فترة الخلفاء الأربعة، على أن نظام الخلافة لم يكن نظامًا دينيًّا مثاليًّا مقدسًا، كما أصبح فى نظر البعض فيما بعد، وإنما كان نظامًا إنسانيًّا يتحرك فى إطار العقل والعرف والمصالح العامة والخاصة. وسَرعان ما أسفر معاوية بن أبى سفيان عن مكنون نفسه عندما وقف فى الكوفة متحديًا أهلها: {يا أهل الكوفة. أترانى قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج، وقد علمت أنكم تصلّون وتزكّون وتحجّون، لكنى قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم، وقد أتانى الله ذلك وأنتم كارهون}. وهكذا يتحرر معاوية من أى التزام تجاه الأمة، ويقيم منطقه وحكمه على أساس من الحق المستمد من الله عز وجل، غير عابئ برضا الأمة أو قبول الجماعة وهو يصدح بقوله: {أما بعد، فإنى والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرة بولايتي، ولكن جالدتكم بسيفى هذا مجالدة}. ويعطف على ذلك بأن يطلب من جماعة المسلمين القبول بالأمر الواقع والتسليم بقواعد وشكل الدولة الجديدة قائلاً: {فاقبلونا بما فينا فإن ما وراءنا شرًّا لكم، وإنّ معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى ، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأتِ بعد}. ثم يجتهد معاوية فى تأسيس شرعية دستورية جديدة للدولة التى يشيدها وهى العصبية القبلية «القرشية»، والتعويض بها عن الشورى المفقودة ومبادئ العدالة الإسلامية، فقال: {... بنى الله هذا الملك على قريش وجعل هذه الخلافة عليهم، ولا يصح ذلك إلا عليهم، فكان الله يحوطهم فى الجاهلية وهم على كفرهم بالله، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه؟ وكان حريصًا على ترويج ما روى عن النبى (ص): {إن هذا الأمر فى قريش}. وبعد أن حصر معاوية الملك فى قريش، اجتهد فى الخطوة الثانية من البناء الدستورى الجديد بحصر الخلافة فى بنى أمية بالتحديد، وإقصاء المهاجرين والأنصار والعرب وبقية المسلمين، لتتحوّل الخلافة إلى ملك وراثى ولينطلق قطار الاستبداد مسرعًا ليدلف إلى محطته الثانية، بعد أن حزم معاوية أمره وقرر أن يولى الأمر بعده ابنه يزيد، غاضًّا النظر عن مؤهلاته الشرعية أو مدى رضا الجماعة به، فبدأ يمهد الجو ويهيئ الأمور بأخذ البيعة وإتمام التوريث فى حياته، مستعينًا على ذلك بزمرة من المستفيدين شكلوا قوام لجنة السياسات القديمة التى تولت الترويج والتمهيد لهذا المشروع، واجتهد زبانيتها وعلى رأسهم المغيرة بن شعبة فى تسويق المشروع الجديد للتوريث، الذى كان غريبًا على فقه وعقل الأمة الإسلامية الحرة. وقد وجد هذا المشروع الشيطانى رجال صدق يقاومونه ويرفضونه، وعلى رأسهم الإمام الحسين بن على وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن جعفر الطيار وعبد الرحمن بن أبى بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وانضمت أم المؤمنين السيدة عائشة -رضوان الله عليهم جميعًا- إلى جبهة الرفض لما تحيكه لجنة السياسات من نسج رداء التوريث لمن لا يستحق، ولكن معاوية بن أبى سفيان لم يأبه كثيرًا لاعتراض هؤلاء الأجلاء من آل البيت والصحابة وأبنائهم، وقال لهم: {لست فى زمان أبى بكر وعمر، إنما هم بنو أمية، مَن عصاهم أوجلوه بالسيف}! وهو ما رفضته السيدة عائشة بقولها: {إنما هو ملك باطل تجعلونه يا بنى أمية فى من شئتم}. وعاد معاوية إلى الحديث الذى ينطلق من الحق الإلهى حيث رد عليهم: {إن أمر يزيد قضاء وقدر، وليس للعباد الخيرة من أمرهم}! وهكذا انطلق قطار التوريث قديمًا ليرسى معاوية أول وأخطر انقلاب دستورى فى تاريخ المسلمين من نظام يتسم، وإن اختلفت تطبيقاته، بقدر من الشورى إلى نظام الوراثة العائلية على سند من السيف والقهر والغلبة وإعلان التحذير والوعيد لمن يرفض البيعة أيا كان قدره أو جلال منزلته بضرب عنقه. واتخذ كل من الرافضين طريقه لإعلان رفضه لهذه الولاية بعد إعلان يزيد خليفة للمسلمين، فخرج حفيد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم، الإمام الحسين بن علي، إلى كربلاء حيث لقى ربه هو ورجال من آل بيته وشيعته شهداء فى سبيل الحرية والعدالة، ضاربًا أعظم مثال للبشرية. وأعلن عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصارى الثورة فى مدينة رسول الله على يزيد وحكمه، واشتبك جيش البغى بقيادة مسلم بن عقبة مع أهل المدينة فى واقعة الحرة المفجعة، فلقى يومئذ ربه شهيدًا من قريش والأنصار والمهاجرين سبعمائة رجل ومن سائر الناس عشرة آلاف، ولم يبق بها بدرى بعد استشهاد ثمانين رجلاً منهم. ودعا مسلم بن عقبة، الذى أصبح يعرف من ذلك اليوم بمسرف بن عقبة، الناس للبيعة على أن خُوِّل ليزيد يحكم فى دمائهم وأموالهم وأهليهم ما شاء، فمن امتنع قتله. ومضى مسرف بن عقبة لينقضّ على آخر معاقل الأحرار فى مكة التى تحصن بها عبد الله بن الزبير بن العوام، ولم يتوانَ أن يضرب الكعبة بالمنجنيق، ولم يوقف زحفه إلا نبأ وفاة يزيد بن معاوية، الذى كان قد أوصى بدوره إلى ابنه معاوية الثانى الذى لم يلبث على مسند الخلافة إلا أيامًا وخلع نفسه منها رافضًا أن يكون ترسًا فى دولة الجور، ثم مات بعد انخلاعه من الأمر بأيام، فانهار النظام الأموى واشتعلت الثورات فى كل مكان، إلا أن الأمويين سَرعان ما استعادوا تنظيم صفوفهم وتولى أمرهم مروان بن الحكم، الذى وسّد الأمر إلى نفسه وبنيه دون بقية البيت الأموي، فى ما يعرف بدولة بنى مروان، ثم تولى عبد الملك بن مروان الخلافة بعد أبيه مروان، وافتتحها بإغلاقه المصحف الشريف الذى كان يقرأ فيه حال سماعه خبر توليه مسند الخلافة وهو يخاطبه قائلاً: {هذا آخر العهد بك}، ثم يردف ذلك بإعلان شكل الدولة وبرنامجه الرئاسى ومساحة الديمقراطية التى سيمنحها لأمة الإسلام قائلاً: {أما بعد فلست بالخليفة المستضعف (يعنى عثمان) ولا الخليفة المداهن (يعنى معاوية) ولا الخليفة المأفون (يعنى يزيد)، إلا أننى لا أداوى أدواء هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لى قناتكم، والله لا يأمرنى أحد بتقوى الله بعد مقامى هذا إلا ضربت عنقه}. وكعادة كل ظالم يريد أن يكون له بصمته الخاصة ولمسته القاسية، فقد أشاع عبد الملك بن مروان مفهومًا جديدًا ومطلقًا للطاعة لا يعرف ولا يلتزم الحدود الشرعية كما كانت فى عهد الرسول (ص) والخلفاء الراشدين، إنما يمتد ليصبح نوعًا صريحًا من العبودية للحاكم فى مقابل عبودية الله تعالى ، وتمثل ذلك بموقف أحد جلاوزته الطغاة وهو خالد بن عبد الله القسرى الذى يروى ابن قتيبة فى {الإمامة والسياسة} وقوفه وظهره إلى الكعبة المشرفة وقوله: {والله لو علمت أن عبد الملك لا يرضى عنى إلا بنقض هذا البيت حجرًا حجرًا لنقضته فى مرضاته}. وللحديث بقية إن كان فى العمر بقية. وكيل مجلس الدولة ورئيس محكمة الادارية بجامعة الدول العربية