كثيرا ما يلجأ المؤلفون والروائيون إلي فضاءات إبداعهم الخاص ليحلقوا فيها طويلا, بحثا عن احلامهم وفراديسهم المفقودة التي كثيرا ما يجدونها مدفونة في اعماق لا وعيهم حيث يكمن الكثير من التصورات والأحلام. في تلك الأماكن بالذات بحث الكاتب والروائي النيجيري وول سوينكا عن سنوات طفولته, في رواية حصدت له ثمرة العمر الإبداعي وهي تقتطف جائزة نوبل للأدب عام 1986, فكانت رواية (آكيه.. سنوات الطفولة) بمثابة جسر ذهبي تعرف من خلالها العالم علي أدب سوينكا كواحد من أهم وابرز الكتاب في أفريقيا وليفتح بعدها الباب أمام العالم ليكتشف قامات أدبية عملاقه من القارة السمراء وفي مقدمتهم نجيب محفوظ. ماجد كامل ولد سوينكا عام 1934 في مدينة ابيوكوتا بجنوب نيجيريا قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية التي أشاعت في نفسه وهو صبي كثيرا من الأفكار والمشاعر انعكست في أعماله فيما بعد وبخاصة في هذه الرواية المهمة, وهي عبارة عن سيرة ذاتية مبهجة كتبها سوينكا بأسلوب أخاذ ورشيق وتحكي قصة طفولته وصباه قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية في مدينة( آكيه). ويلعب سوينكا ببراعة شديدة في العديد من المساحات الفكرية, فهو ناقد وشاعر وممثل ومخرج ومؤلف إذاعي ومسرحي ومدرس جامعي ومصمم أقنعة, وقد كان لهذه التركيبة الفنية الثرية والمتنوعة أثرها في أسلوبه الأدبي. في فترة السجن كتب كثيرا من القصائد والمخطوطات التي تناول فيها تجربته والتي تجسدت في عمله( مات هذا الرجل) الذي كتب فيه عبارته الشهيرة:( يموت الرجل في كل انسان يلتزم الصمت في وجه الطغيان).. بدأ وول سوينكا إنتاجه في عام 1960 برواية (رقصة الغابات) وتلاها في عام 1965 برواية (المفسرون) التي تعرض فيها لمشاكل المثقفين وقضاياهم من خلال علاقة قوية تربط بين أربعة أصدقاء مهندس, صحفي, فنان تشكيلي ومدرس كتب أيضا في عام 1973 (موسم الفوضي) وتبعها بكتاب (داخل القبو) و(الأسد والجواهر) و(العرق القوي) و(ثورة كونجي). وقد أصدر سوينكا ديوانين من الشعر أولهما عام 1967 والأخر عام1969 وتعد قصيدته (محادثة تليفونية) من أشهر قصائده. وحين سئل سوينكا عن مشاريعه المستقبلية في المسرح أجاب: كم أتمني أن أتفرغ طوال حياتي للمسرح فأنا استطيع بالمسرح أن أحقق وجودي إلي أقصي درجة. ومن أهم أعماله المسرحية (اختصاصيون ومجانين) و(الموت وفارس الملك). وقد يفرط سوينكا في رؤيته السوداوية لبني البشر فيري فيهم, كما يظهر من بعض كتبه وتصريحاته, كائنات وحشية يأكل بعضها بعضا. وفي هذا يري سمير عبد ربه مترجم سيرته الذاتية إلي العربية أن التوحش والشرور والبشاعة هي دوافع الإبداع عند سوينكا تماما كما هو حال الألم عند دوستوفيسكي والضمير الإنساني المعذب عند تولستوي وعقدة الاضطهاد عند كافكا, إلا أن السيرة الذاتية التي كتبها سوينكا و استحق عليها جائزة نوبل, لا تشي بأي نوع من العدوانية أو السخط علي مجتمعه أو أقرانه, وقد يعود الأمر إلي كونه لم يعان في طفولته من الفقر المدقع, باعتبار أن والده كان يعمل ناظرا عاما في مدرسة مرموقة, أو لأن وعيه السياسي خلال فترتي الطفولة وبدايات المراهقة اللتين تتناولهما السيرة لم يكن بعد قد أخذ في التبلور. أما السيرة نفسها فتظهر بشكل جلي المهارات السردية العالية للكاتب وقدرته غير العادية علي تذكر أدق الوقائع والتفاصيل وميله الدائم إلي الطرافة وروح النكتة والسخرية من النفس, أما ما لم أستطع فهمه في هذا الإطار فهو تجنب سوينكا لموضوع المرأة والجنس, وتفتح الرغبات بشكل كامل, وإذا كان هذا الأمر مبررا في فترة الطفولة, فهو غير مبرر أبدا في فترة المراهقة الأولي التي تبدأ مبكرة جدا في القارة الإفريقية الملفوحة بوهج الشمس, فباستثناء إشارة خجولة إلي وقوع الطفل الذي كانه الكاتب في حب إحدي النساء وهو في السادسة من عمره, فإن السيرة تخلو تماما من أي إشارة عاطفية أو جنسية ولو عن طريق التلميح. فهل يعود السبب إلي خجل مطبوع في تكوين سوينكا الجيني والنفسي, أم إلي قناعة الكاتب بتنزيه الأدب من دنس الغرائز التي عزف علي وترها الكثيرون؟ وفي الواقع فان سوينكا ينتمي إلي سلالة الكتاب العالميين الذين لم ينظروا إلي الكتابة بوصفها زخرفا محضا أو ترفا زائدا عن حاجة البشر بل بوصفها تعبيرا شديد التميز عن حاجة الكرة الأرضية إلي هواء أكثر نقاء وحيوات أقل عرضة للظلم والجوع والقتل الجماعي والاضطهاد العرقي, وهو يعتبر مع ليوبولد سنغور السنغالي وأوجسنينو نيتو الأنجولي أحد الأعمدة الكبري للأدب الإفريقي المعاصر. كما انه يعد واحدا من الكتاب الرياديين الذين تمثلوا بوعي قل نظيره روح إفريقيا السوداء الباحثة عن خلاصها, لا عبر التحرر من الاستعمار الخارجي فحسب, بل عبر تحرير نفسها من الكبت والإذعان وعقد النقص المزمنة إزاء هيمنة الغرب واستعلائه. لم ينأ وول سوينكا بأدبه الغزير والمتنوع عن مقاربة الأحداث السياسية الدراماتيكية التي عايشها عن كثب في بلده نيجيريا المطحون برحي الحرب الأهلية الطويلة من جهة وبالقبضة الصارمة للاستبداد وأنظمة الحكم العسكري من جهة ثانية, وكانت مواقفه السياسية الجريئة والمضفورة بروح التحدي باهظة الكلفة علي الكاتب الموسوعي الذي أمضي ما يقارب السنتين معتقلا في سجون بلاده, ومهددا بالتصفية الجسدية ومحروما من الحصول علي الكتب والأوراق والأقلام التي تمكنه من الكتابة واستعادة التوازن خلال فترة اعتقاله القاسية. علي أن كل ذلك لم يمنعه من رفع الصوت عاليا ضد الطغم الحاكمة والمنخورة بالفساد لا في بلاده وحدها, بل في كل مناطق العالم وأصقاعه النائية, واللافت في هذا السياق أن سوينكا الذي حظي بتكريم واسع في الكثير من البلدان وبترجمات عديدة لمؤلفاته المختلفة لم يحصل علي التكريم في بلده الأم إلا قبل سنوات قليلة, لم يدفعه ذلك إلي التنازل عن حقه في الاعتراض علي واقع بلاده وقارته المزري حتي وهو يزحف نحو الثمانين من عمره.