كنت قد عرضت في مقالي الاسبوع الماضي عيوبا و مزايا النظم الاقتصادية الغربية في مراحلها التاريخية المختلفة بالنسبة لنا في مصر, وكيف ان ليس كل ما يصلح هناك يناسبنا هنا. وذلك لاختلاف الزمان و الظروف في التطبيق علي ارض الواقع, وفي سبيل اختيار مثل هذه النماذج يلزم أيضا أن نلقي الضوء علي التجربة المصرية بعد ثورة يوليو 1952 و حتي قيام ثورة يناير .2011 فقد تلخصت هذه التجربة في الانتقال من نموذج للنمو والتطور يقوم علي سيطرة الدولة وهو ما أدي إلي إضعاف البواعث الخاصة كما ذكرت في مرحلة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر, وإلي تحويل القطاع العام إلي قطاع بيروقراطي معقد لعدم حسن الادارة (رغم اهدافه الاقتصادية و الاجتماعية النبيلة), ثم منه إلي نموذج للنمو والتطور يقوم علي الانفتاح الاقتصادي الكامل الذي اطلق عليه (انفتاح سداح مداح) من الكاتب الكبير احمد بهاء الدين, والذي اسماه د. رفعت المحجوب (مولد القطط السمان), وانتهي الي برنامج للخصخصةكان الهدف الوحيد منه في تقديري حصد اكبر قدر من العمولات والسمسرة من بيع القطاع العام في منتصف التسعينيات وقلص دور القطاع العام الاقتصادي والاجتماعي الذي نشأ من اجله ليضعفه ويحصره في فيما تبقي من 143 شركة. وهو ما ضحي بحماية الصناعة الوطنية, وأحدث اختلالا بنيانيا واضحا بين إنتاج السلع الزراعية والصناعية وإنتاج الخدمات واختلالا أكبر فيتوزيع الدخل القومي بين طبقات المجتمع المختلفة واتساع الفجوة بين الاغنياء والفقراء وزوال الطبقة الوسطي والتي كانت تشكل اغلبية الشعب المصري وتحقق التوازن الاجتماعي الذي حفظ السلام الاجتماعي لمصر طوال اكثر من 45 عاما. لقد أدي ذلك كله إلي اضطراب السياسات الاقتصادية, بحيث انتهت إلي نوع من السياسات الفردية التي تنقصها النظرة القومية الشاملة و مضمون نظرية (الاقتصاد السياسي), وهكذا انتهت الأوضاع الاقتصادية في مصر إلي مجموعة من الاختلالات منها عدم التوازن البنياني بين الإنتاج السلعي (الزراعي والصناعي) والإنتاج الخدمي. بالإضافة إلي عدم التوازن بين المدخرات المتاحة والاستثمارات المطلوبة في الفترة القصيرة والمتوسطة المقبلة, وعدم التوازن بين عدد العمال وفرص العمل المتاحة, وعدم التوازن في ميزان المدفوعات والموازنة العامة, وعدم التوازن في توزيع الدخل القومي, وعدم التوازن بين الطلب النقدي الكلي والعرض الكلي لسلع الاستهلاك, ولقد أطلق هذا كله العنان للتضخم في مستوي الأسعار وللمديونية الخارجية أدي إلي الفوارق الطبقية الواضحة في مستوي الدخول التي لم تستطع التجربة الاقتصادية المصرية إزالتها, في مراحلها المختلفة منذ قيام ثورة 1952, فقد أسقطت كل من هاتين التجربتين جزءا مهما من هذه القوي الاقتصادية الحقيقية, ولم تستطع بالتالي أن تضمن نمو القوي المنتجة الحقيقية بالقدر الذي تسمح به الإمكانات الاقتصادية القومية. نحن في مصر بحاجة إلي فكر اقتصادي قادر علي معالجة الموقف ولا ينبغي لهذا الفكر أن يكون حبيسا لنظرية معينة أو ضحية لمصالح أصحاب النفوذ ورأس المال, بل يجب أن يكون واعيا لظروف الاقتصاد المصري وأمينا علي مصالح الشعب كله, وهو ما يدفعني إلي اقترح نموذجا مختلطا يوفق بين تدخل الدولة (عند الحاجة) وقوي السوق الحرة المنضبطة وبين القطاع العام والقطاع الخاص (غير المستغل). لذلك يلزم أن يوضع هذا الفكر في ضوء عدة ضوابط مهمة أراها كالآتي: أولا: المقومات الأساسية للنظام الاقتصادي المصري بوضعه الحالي وهي الدولة وقطاع الأعمال العام (أو ما تبقي منه) والتخطيط للسياسة الاقتصادية العامة لمصر في جانب, والقطاع الخاص وقوي السوق الحرة في جانب آخر. ثانيا: التنمية الاقتصادية والاجتماعية مع ضمان العدالة في توزيع الدخل القومي والحفاظ علي العدالة الاجتماعية بمعناها الحقيقي. ثالثا: عدم كفاية مرونة الجهاز الإنتاجي مما يعني بالدرجة الأولي عدم مرونة عرض سلع الاستهلاك وهو ما يضطرنا إلي التوسع في الاستيراد, وما يحول دون الاعتماد علي التمويل بالعجز أو الإصدار الجديد أو التوسع في الائتمان. رابعا: رفع مستوي معيشة الطبقات الفقيرة وهو ما يستلزم إيجاد وظائف جديدة علي المستوي العام والخاص ورفع مستوي التعليم العام والمهني حتي يتم استيعاب الزيادة القادمة لسوق العمل في مصر من الداخل والوافدين من المصريين العاملين في الدول العربية. إن دفع عجلة التنمية الاقتصادية علي النطاق اللازم لتحقيق ما تقدم ليس بالامر السهل, ولكنني أعترف بأنني لا أري بديلا لذلك. لمزيد من مقالات د. أيمن رفعت المحجوب