منذ أن قامت الثورة نشطت الدعوات إلى العزل السياسي لكل من شارك النظام السابق فى الحياة السياسية وضرورة منعهم من ممارسة العمل الحزبى والسياسي مدة لاتقل عن خمس سنوات وتفعيل قانون الغدر لمحاكمتهم.. هذه الدعوات التى تحمل فى ظاهرها مطلباً شعبياً للتخلص من الفساد السياسي - أظن وهذا رأي شخصي- تحمل فى باطنها انتهازية سياسية من بعض القوى التى لم يقدر لها الحصول على مقاعد كافية فى البرلمانات السابقة، فعلى الرغم من أن الغالبية من أعضاء الحزب الوطنى شاركوا فى حياة سياسية مزيفة ساعدت النظام السابق على اهدار مقدرات هذا البلد وتسهيل الإستيلاء عليه من قبل عدد من رجال الأعمال الفاسدين إلا أن أحزاب المعارضة الكارتونية لم تكن بمنأى عن المشاركة فى هذه المهزلة، ومن الخطأ تصور أن من ينادون بهذا العزل السياسي هم ملائكة، فالسياسة لاتعرف النزاهة المطلقة على الأقل من ناحية المنافسة السياسية على مقاعد البرلمان. والسؤال الذى يطرح نفسه الآن وبقوة، ألم يكن من الأفضل أن يتفق الجميع على محاسبة الفاسدين جنائياً؟ وأن يكون هذا هو المعيار الصحيح للعزل السياسي؟ إذ يبدو لى أن من ينادون بالعزل السياسي يتصورون أن هذه هى الفرصة لينقضوا على مقاعد البرلمان دون منافسة، وربما ينجحون لكنهم إن لم يكن لديهم خطة حقيقية للنهوض بهذا البلد سوف يكون مصيرهم السياسي إلى زوال... أنظر عزيزى القارئ ماذا حدث فى شقيقتنا إندونيسيا، إذ روى لنا الدكتور عبد العزيز أحمد رئيس اللجنة العليا للإنتخابات فى إندونيسيا أثناء زيارة لعدد من مراكز الإقتراع فى العاصمة جاكارتا فى إنتخابات محلية جرت الشهر الماضى أن حزب الجولكار الإندونيسي وهو الحزب المعادل للحزب الوطنى الديمقراطى المصرى كان قد خسر أول انتخابات جرت فى البلاد بعد سقوط سوهارتو، ولم يكن قد تم حل الحزب ولا حرمان أعضاؤه من ممارسة الحياة السياسية باستثناء من ثبت تورطهم فى فساد مالى وسياسي، وقتها لم يحصل أى من أعضاء الجولكار على أى اصوات فى الإنتخابات البرلمانية وحصل منافسيهم من الأحزاب الأخرى على جميع الأصوات لكن نتيجة لفشل تلك الأحزاب فى تحقيق الإستقرار الإقتصادى لم يلبث أعضاء حزب الجولكار أن حصلوا على أصوات ودعم الناخب الإندونيسي بعد أن غيروا برامجهم الإنتخابية واهتموا بالمواطن واقتنع المواطن الإندونيسي أن هؤلاء السياسيين اصبح لديهم رغبة صادقة فى الإصلاح وبعد أن استشعر الناس خبرتهم السياسية والعملية والأكاديمية التى تحتاجها دولتهم من أجل الإصلاح الحقيقى. ليست هذه دعوة للتنازل عن حق الوطن ضد من أفسد ممن تعاونوا مع النظام السابق ولكنها على العكس دعوة للتصالح مع من يخلص لهذا البلد ومحاكمة من أفسدو فيه بلا هوادة، فلا يمكن بأى حال من الأحوال أن تتخلص دولة من كفاءاتها السياسية والمهنية بهذه البساطة بدعوى التعاون السياسي مع نظام مخلوع يعلم الجميع أنه كان نظاماً قمعياً دكتاتورياً ماكان ليجرؤ أحد على معارضته بل كان الإختيار الوحيد إما العمل مع النظام والانصياع لأوامره أو الموت السياسي وربما المهنى المريع.. الآن ونحن على أعتاب الإنتخابات البرلمانية ينبغى أن يكون الهدف الوحيد أمام الناخبين هو اختيار من يستطيع أن يمثلهم فى برلمان حقيقى هدفه الأول والأخير النهوض بهذا البلد والحفاظ على مقدراته، وينبغى أيضاً على القائمين على أمر هذه الدولة إظهار قدر من المرونة وتقبل الاراء المختلفة والإستعداد لتولية الشباب المناصب التنفيذية و الحوار معهم بدلاً من محاكمتهم وتصور أن ذلك حماية لهيبة الدولة التى تستقى هيبتها فى الأصل من حمايتها لمواطنيها، وأيضاً تقبل النقد ليس فقط بسعة صدر ولكن بسعادة وفخر أن هذه الأرض أنجبت شباباً شجاعاً يستطيع أن يقول كلمة الحق ومستعد للتضحية بذاته من أجل هذا الوطن فهكذا تعلمنا وآمنا... المزيد من مقالات أحمد محمود