كنت كلما قرأت أو رأيت أستاذنا الراحل أنيس منصور أري مجموعة شخصيات التقت في شخصه, إذ كان فيه من د.طه حسين طلاوة كلماته, ومن العقاد وعبدالرحمن بدوي عمق فلسفتهما, ومن شعراء الرومانسية الكبار إبراهيم ناجي والهمشري وعلي محمود طه( وكلهم بلدياته من المنصورة) لغتهم الشاعرة ورمانسيتهم الحالمة. في داخله اجتمعت مجموعة شخصيات متناقضة, وهو ما نوع كتاباته وغلفها برؤي متباينة, ففيها العمق, وفيها السلاسة, وفيها الشاعرية, إذ كتب في السياسة والدين والتراجم والقصة والرحلات وفيما وراء الطبيعة. كان باختصار موسوعة معارف متنقلة, تحط كالنحلة علي الأزهار في كل بستان, تمتص رحيقها, لتفرزه عسلا شهيا يرضي أذواق مختلف أنواع القراء, فالعقل عنده مثل البراشوت, لابد أن ينفتح وإلا سقط الانسان, لهذا كان انفتاحه علي شتي الثقافات والمعارف والتيارات الفكرية والسياسية معبرا عن جوهر شخصيته التي جمعت عدة متناقضات, لكنه ظل حرا لا يستغرقه تيار ولا ينتمي لغير قلمه وابداعه, يكتب ما يؤمن به, ويرفض أن يملي عليه أحد نوعية كتاباته. وبرغم أنه كان تلميذا مخلصا لمدرسة د.عبدالرحمن بدوي الفلسفية, فإن ذلك لم يحل ذلك دون رفضه لأن يسير علي ذات أسلوب د.بدوي المائل للتقحير والتعقيد, فجاءت كتاباته سلسلة, وأسلوبه سهلا, ويرجع فضل ذلك كما روي لي يوما عن الشيخ حسن البنا, إذ كتب أنيس حين كان في العام الثالث من دراسته في كلية الآداب قصيدة, وألقاها أمام الشيخ البنا, فقال له الأخير: أنت يا ولدي تكلم بسطاء الناس, فكلمهم بما يفهمونه, فعاد أنيس والكلام له إلي بيته وشرع يعيد كتابة القصيدة مرات ومرات حتي أسهلها, وكانت النتيجة أن صار فيلسوفا يكتب الفلسفة بلغة الشاعر, فالشعر عنده هو الصدي الذي يرقص علي الظلال. وأنيس منصور من الكتاب الذين ثار حولهم الجدل, وتعرضوا لكثير من الهجوم وسوء الفهم لكتاباته ومواقفه, فحين كتب عبدالناصر المفتري عليه والمفتري علينا شن الناصريون هجمة شرسة علي شخصه دون أن يكلف أحدهم نفسه عناء قراءة الكتاب ليعرف أن الرجل قدم رؤية متوازنة بناء علي حقائق وتحليل فلسفي منطقي لشخص الزعيم عبدالناصر. وهوجم أيضا من السلفيين الذين اتهموه مرارا بالردة والكفر واعتناق المذهب الوجودي, وكان رده عليهم أن فاجأهم بترجمته كتاب الخالدون مائة أعظمهم محمد.. وحين اتهم بالتطبيع كتب وجع في إسرائيل. ومثله مثل نجيب محفوظ, للكتابه طقوس عنده, هو لا يكتب سوي في الرابعة صباحا,, يجلس بالبيجامة حافيا, ولم يعرف عنه قط أنه كتب شيئا في غير النهار, أما في الليل فكان يجالس الأرق, الداء الذي أصابه, لكنه عاد عليه بالفائدة, حيث أتاح له أن يقرأ ويقرأ ويقرأ, فكان أرقه نعمة عليه. وبرغم كثرة ما حصد أنيس منصور من جوائز علي كتاباته وكتبه, فإنه ظل حتي آخر أنفاسه يعتبر رضا القراء وإعجابهم بما يكتب الجائزة الكبري التي حصل عليها, ولم يغلق بابه أمام أديب ناشيء يطلب نصيحة, أو قاريء يطلب خدمة, وإنما ظل علي تواصل مع الناس حتي مع من هاجموه وانتقدوه, لإيمانه بالتسامح, إذ كان يري أن من لا يتسامح يحطم الجسور التي يمشي عليها. رحم الله أنيس منصور, فقد أعطي وأخلص العطاء, وقد لا يعلم كثيرون أنه حفظ القرآن الكريم في صباه, وكان حريصا علي أداء مناسك الحج والعمرة أكثر من مرة, فهو كان وجوديا في الفلسفة. لكن حب الله كان في أعماقه, وكثرا ما عبر عن ذلك بقوله: إذا كنت مع الله فأنت مع الأغلبية المطلقة. المزيد من مقالات أسامة الالفى