«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مجنون الريحاني.. فتنته

يُمثل كتاب (مع الرُّوَّاد) حلقة مهمة من مجموعة كتب ألَّفها نعمان عاشور عن الأعلام، وتلك الكتب هي: فتيان الحرية، صور من البطولة والأبطال، بطولات مصرية.
ويكاد هذا الكتاب يكون جزءا متممًا لكتابه (المسرح حياتي)؛ إذ إن (مع الرواد) يحمل صورا ومشاهد وأحداثا كثيرة من حياة نعمان عاشور، هذه الصور والمشاهد والأحداث يرسمها عاشور بقلم يشد قارئه من أول كلمة في الكتاب إلي آخر كلمة فيه. يحكي المؤلف عن مشاهد كثيرة من حياته مع خمسة عشر رائدا من رواد حياتنا الأدبية والفكرية والفنية، لكنه قبل أن يبدأ هذه المشاهد يتحدث عن (عصر الندوات الأدبية) ويذكرها ندوة ندوة، وأشهر الذين كانوا يحضرونها. وفائدة هذه الندوات أنها "كونت المنابت الحقيقية للبذور التي انبعث منها الصرح الثقافي لحياتنا الأدبية والفنية والفكرية علي بداية منتصف القرن العشرين". ويخص بالحديث ندوة "قهوة عبد الله" بميدان الجيزة التي أصبحت "المزار الدائم الذي يتردد عليه وكأنها السينما". وقد "كونت هذه الندوة جزءا كبيرًا من تاريخ حياتنا الثقافية المعاصرة".
ويتحدث نعمان عاشور عن (تلاحم الأجيال الأدبية)، ويري أن الفجوة بين الأجيال تقع مسئوليتها علي الجيل المقبل وليس علي الجيل المرتحل. ويري أن تصبح (الصلة الإنتاجية) هي الأساس، أي أن ما يصدر عن الجيل المرتحل من أعمال أدبية وفنية يجب علي الجيل المقبل استيعاب هذا الإنتاج وهضمه وتفهُّمه ثم استكماله بإنتاج جديد. وبمعنًي آخر: التزوُّد بإنتاج الجيل المرتحل كحصيلة أساسية لما يمكن أن يصدر عن الجيل المقبل من إنتاج.
يبدأ الحديث عن الرواد بالدكتور طه حسين، ويحكي عاشور قصة لقائه به، بعد أن نشر مقالا بعنوان: "اللغة العامية من تاني"، فيفاجأ باتصال الدكتور طه حسين به في جريدة الجمهورية، ويقول له: إنه لا يستطيع أن يغفر له هذا العنوان السخيف وهذا التطاول علي اللغة الفصحي إلي هذا الحد. وفي المساء يقابل عاشور الدكتور طه حسين الذي يقول له: أظنك تحسب أنني لا أعرفك، أنت أصلا لستَ من تلاميذي. فيردُّ نعمان مسرعًا: كلنا تلاميذك يا دكتور، فيقول طه حسين: لا.. لا.. تلاميذي لا يكتبون باللغة العامية أبدا.
ويتذكر نعمان عاشور حين أراد أن يحول من كلية الحقوق إلي كلية الآداب، وكان طه حسين عميد الكلية آنذاك، فيسأله: ماذا قرأت من كتب الأدب؟ فيجيبه بأنه قرأ الأيام، فاستبعدها طه حسين، وهو يردد: والكتب الأخري؟ فقال: مسرحيات شوقي والديوان للعقاد والمازني وأهل الكهف لتوفيق الحكيم، وكل روايات المنفلوطي وجورج زيدان، فهز طه حسين رأسه باسما وهو يقول لمن حوله: يُقبل تحويله فورا.
وينتقل نعمان عاشور إلي المازني، وهو - في رأيه - شخصية مستقلة عن العقاد، يتميز بطاقة إبداعية خلاقة، صاحب أسلوب روائي أكثر منه شاعرا أو كاتب مقال، لكن ظروف حياته وامتهانه للكتابة كحرفة ألزمته أن يهدر سطر، فتجد نفسك في حاجة إلي أن تعيد ما قرأته من جديد لأنك لم تشبع منه بعد..
وحين يقابله ذات يوم يقول له: يا أستاذي، إنما يسعدني أن أقول في يوم من الأيام: إنني جالستُ المازني وتحادثتُ إليه وعرفتُه. فيقول المازني: لا، لن تعرفني، أنا نفسي لا أكاد أعرف نفسي، وأنا أفضِّل لو ظلتْ معرفتك بي قاصرة علي ما أكتبه.
أما الرائد الثالث فهو الشاعر إبراهيم ناجي، يقول عنه نعمان عاشور: "فتنتني الأطلال وفتحتْ مغاليق حسي وتذوقي علي شاعرية ناجي فانفرد بين كافة معاصريه بإعجابي". ويري عاشور أن ناجي من ذلك النوع الذي تستطيع أن تكون صديقا عزيزا له من أول دقيقة. وكان ناجي كلما رأي امرأة وقع في حبها؛ فالحب عنده - كما كان يقول كامل الشناوي - وألمع شعرائنا الرومانتيكيين المحدثين وأستاذهم جميعا.
ويأتي الرائد الرابع، وهو عباس محمود العقاد، ويذكر عاشور أنه كان يحفظ مقال العقاد اليومي في جريدة (البلاغ) في الثلاثينيات، وكان يحفظ كتاباته عن ظهر قلب، فقد سحره العقاد بأسلوبه لسنوات عديدة، ثم بدأ يزهد في قراءته بسبب تطور تكوينه الفكري الذي بدأ يتناقض مع ما يكتبه. ويذكر عاشور أن العقاد (ظاهرة) في حياتنا الثقافية ورائد من الرواد الكبار. ويحكي عن (جريمة نقد العقاد)، فحين صدر للعقاد كتيب عن (برنارد شو) - وكان الهدف من نشره مهاجمة الاشتراكيين من خلال المسرح الأيرلندي - نقده عاشور باتزان ودقة مع استنكار أن يصدر مثل هذا الكتاب الساذج عن كاتب في قامة العقاد، فثار العقاد واتهم الأدباء القائمين علي مجلة (الأديب المصري) - التي نُشر فيها النقد - بأنهم من "العيال الذين يلعبون في أوساخهم. وقابل عاشور العقادَ قدَرًا في مكتبة الأنجلو، فقال العقاد له: "الميزة الوحيدة في الكلام الذي كتبته أنك كنت مهذبًا، لكن هذا لا يشفع لك تطاولك، أنت تعرف برنارد شو أكثر مني؟!".
مبكر أدي إلي وفاته وهو لا يتجاوز الثامنة والخمسين. "لقد كان مندور من أثبت من حملوا القلم دفاعا عن الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية والقيم الأدبية والفنية الجادة القائمة علي الالتزام برسالة الأدب والفن والفكر كأعظم المقومات للإنسان العربي".
ينتقل عاشور إلي ذكرياته عن سلامة موسي، ويذكر أن السبب في معاناته ليس لأنه كان ينتمي إلي الأقباط، وإنما الصحيح أن آراءه واتجاهاته كانت تجنح في معظمها للتطرف الجارف والخروج عن المألوف، من ذلك إغراقه في الدعوة إلي (الفرعونية) ثم مناداته بكتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية ونظراته المتحررة في معالجة الجنس. لكن عاشور يسجل لسلامة موسي بعض الدعوات المقبولة التي كان له شرف المبادرة في المناداة بها، من ذلك مناداته بحتمية نشر الصناعة، والاهتمام بالتربية المنزلية، والتركيز علي رعاية الطفولة. وكان يغلي حماسًا لكل ما يؤمن به، بالغ الطيبة، ينبض تواضعا ورقة وبساطة، قليل الكلف بلذائذ الحياة ومتعها، لا يُعني كثيرا بمظهره.
أما جورج أبيض، فيقول عنه عاشور: "أضخم وأثبت شخصية عرفها تاريخ مسرحنا الجاد منذ بداية القرن". وحين التقي به قال له: "يا جورج بك، سعادتك تاريخ وأنت الأصل والأساس، ولولا وجودك لفقد المسرح جديته". وفي لقاء آخر قال له: "تجربتك يا جورج بك أهم مما يمكن أن يكتبه أي ناقد أو مؤرخ، فأنت أصلب وأثبت من تمسكوا بالمسرح الجاد، ولا أعني بذلك التراجيديا وحدها، أو استعمال اللغة العربية الفصحي". وكان مما قاله جورج أبيض في هذا اللقاء: "إن المسرح أكبر بكثير من أنه دارٌ للتسلية، من حيث إنه يجمع كل الفنون ويجمع كل الأذواق، المسرح فيه فن كبير، ولا بد أن يكون له رسالة". وحين مات جورج أبيض أبَّنه عاشور بكلمة قال فيها: "وفاة جورج أبيض تعني انهيار أكبر صرح في بناء مسرحنا المعاصر".
ينتقل عاشور إلي الحديث عن رائد مسرحي آخر، وهو نجيب الريحاني، وكان عاشور يتردد علي مسرح الريحاني كثيرا في الثلاثينيات حتي أصبح - كما يقول - "مجنون الريحاني". "ومن أنضج مسرحيات الريحاني (حسن ومرقص وكوهين)، وإن كانت أقلها فكاهة؛ لأنها تتصدي لمعالجة قضية حساسة في حياتنا، هي قضية تعايش المسلمين والأقباط واليهود، وهو موضوع من العسير تناوله بأسلوب الفكاهة التي عُرف بها الريحاني". وكان الريحاني _ كما يقول بديع خيري _ شديد الاهتمام بها.. كانت شيئا شخصيًّا بالنسبة له.
وعن مكانة الريحاني في المسرح يقول عاشور: "كان الريحاني من بداية ظهوره صاحب موهبة لا تضارع كممثل كوميدي كبير متفرد وقادر علي كسب الجمهور، وقد استطاع أن يحافظ علي كيان مسرحه حتي نهاية حياته بفضل هذه الموهبة وما كانت تمدُّه به من وعي مكَّنه من التطوُّر بمسرحياته عبر عديد من المراحل التي عاشها المسرح بين مختلِف المسارح الأخري.. تاريخ الريحاني إذن هو هذا الوعي الذي كان يدفع بالكثيرين إلي اعتباره فيلسوفا، وليس مجرد ممثل لا قرين له في روعة وصدق الأداء الكوميدي".
ويأتي محمود تيمور رائدا من الرواد الذين أثروا حياتنا الأدبية والفنية. "لم يحترف تيمور الكتابة ولكنه كان يعيش علي حب الأدب وإنتاجه وتأليف الكتب وطبعها وإهدائها". "كان تيمور عاشقا للأدب، وقد وهب له حياته الطويلة". "وكان قدرته الفائقة علي إلقاء الشعر. وكان مستمعوه يؤكدون ميلاد شاعر جديد سيخلف شوقي إن لم يَفُقْه. كان محمود حسن إسماعيل يفخر دائما بأنه فلاح وصعيدي. وكان من أكثر الشعراء حفظا لأشعارهم. وعن مكانته الشعرية يقول عاشور: "ولعلي لا أكون مبالغًا إذا قلت إن محمود حسن إسماعيل يعتبر - بعد شوقي - طفرة بارزة في شعرنا الحديث، وهو التمهيد الأكيد بل الأصيل لكافة فروع الشعر الحديث التي امتدت عندنا من بعده".
أما ذكريات عاشور عن شاعر العامية الكبير بيرم التونسي فيذكر أن بيرم كان يكتب في أي مكان يهبط عليه فيه الوحي، وكان يقول: "لما تواتيني زنقة الإلهام فقل علي الدنيا السلام". وكان حين يشرع في كتابة الأعمال الفنية الكبيرة يحتشد لها بكل المهيئات الممكنة التي تتيح له التفرغ والانقطاع والعزلة عن الناس. وكان يحب دائمًا أن يكتب بالقلم الرصاص. وكان لا يقبل أبدًا أن يعبث أحدٌ بكلماته فيما عدا الشيخ زكريا أحمد وأم كلثوم، ولا تُستبدل أي كلمة إلا بعد موافقته، وهو الذي يختار بديلها وينتقيه بنفسه.
مدينة ميت غمر، وهي المدينة نفسها التي ينتمي إليها عاشور. والخجل هو السمة الغالبة علي شخصية السحرتي. وعاش السحرتي عزبا إلي نهاية عمره. وقد وهب نفسه كليةً لهوايته الأدبية والفنية وأخذ لنفسه من البداية دور راعي الأجيال الأدبية، فكان همزة الوصل بين الأجيال. ولم تكن هناك ندوة أدبية تخلو من وجوده. وأنشأ السحرتي أكبر تجمع أدبي وشعري عرفته حياتنا الأدبية، وهو (رابطة الأدب الحديث)، التي وهبها كل عمره وماله وفكره. كان كل همه اكتشاف الشعراء الجدد والأدباء الشبان. وكان الموت عنده هو أبشع ما في الحياة. لقد بقي لنا من ذكري السحرتي أنقي وأعظم وأبقي القيم، الصدق والطهارة والتضحية والصفاء والتواضع والبساطة والزهد والإخلاص والاعتزاز بالكرامة وكل ما أصبحنا نفتقده من قيم ومُثل في حياتنا الحاضرة التي تساوت في بشاعتها مع بشاعة الموت.
أما زكريا الحجاوي فيُشبِّهه عاشور بميدان الجيزة، فهو مليء مثله بالتجاعيد والنتوءات والتضاريس الجسمية المتعددة، ثم إنه كميدان الجيزة أيضا حيث كانت تنصب فيه وفي شخصيته العديد من التيارات الفكرية، تماما كما تنصب من ميدان الجيزة مختلف الشوارع التي تؤدي إلي الخروج من القاهرة أو الدخول إليها. كان الحجاوي صاحب مدرسة تضم العديد من الأتباع والأشياع والمريدين. وكان من أبرع المتحدثين، وله باع طويل علي الكلام التلقائي. وكان يصك بعض العبارات والتركيبات اللفظية العجيبة، من ذلك كتابه عن (سيد درويش) الذي سماه (دكتوراه من الله)، ويعني به أن سيد درويش كان صاحب موهبة موسيقية تعادل الدكتوراه، ولكنه حصل عليها من السماء، ولم يحصل عليها من الجامعة، ذلك أنه لم يكن يحترم الدراسة الجامعية. وتحول الحجاوي بكُليته إلي الاهتمام بالفنون الشعبية والفلكلوريات.
ويتحدث عاشور عن الشاعر نجيب سرور الذي يصفه عاشور قائلا: "كان تلقائيا مندفعا صريحا صراحة مباغتة، لا يعرف كيف يكتم عواطفه أو يتحكم في آرائه،.. لكنه كان يتحلي بالطيبة المتناهية التي تجعله يضحك لمن يعاديه ثم يندفع ليقبله ويصالحه كأن شيئا لم يكن". كان نجيب قارئا نهما شديد التمسك بالقيم الأدبية. وإذا اقتنع بشيء فإنه علي استعداد للدفاع عنه حتي الموت. وكان شديد الإيمان بالحرية. وفيه ما يسميه محمود حسن إسماعيل بشموخ الشاعرية. وكان يردد بإصرار: "أنا أكتب من دمي.. أنا أسفح دمي كل يوم علي الورق إلي أن يفرغ مني الدم".
ويأتي الشاعر صلاح عبد الصبور آخر الرواد، وهو في رأي عاشور "شاعر متميز الإنتاج، ترك بصمات لا تمحي علي مسار الشعر العربي المعاصر". وكان يميل إلي الانفراد والعزلة والتأمل والعيش مع شياطين الشعر. وكان له مجال واسع في الكتابة النثرية، لكنه كان يقول دائما: "أنا لا أجد نفسي إلا في الشعر". وحين أتيح له خدمة الحياة الثقافية من خلال رئاسته لهيئة الكتاب، ما كاد يبدأ المسير حتي سقط فمات ميتته المفاجئة المفجعة.
وأخيرا فإن هذا الكتاب يدلنا علي أن مؤلفه كان رائدا مثل هؤلاء الرواد الذي قص علينا طرفا من أخباره معهم.
ينتقل عاشور إلي الحديث عن الشاعر والناقد الكبير مصطفي عبد اللطيف السحرتي الذي كان له الفضل في هواية عاشور للأدب وحبه للقراءة. فقد كان السحرتي من لا يقصد الكتابة بالعامية لِذاتها، وإنما لدواعي الصدق الفني". و"كان من أهم هوايات تيمور اكتشاف المواهب الأدبية". وكان تيمور "يمتاز بالبساطة والتواضع والرقة". كان محمود تيمور "يمثل هو وشقيقه محمد تيمور ووالده أحمد باشا تيمور الصورة المثالية التي لم ولن تتكرر لأصفي وأنقي ما كان يميز الأرستقراطيات القديمة في تعلقها بالأدب ورعايتها للفنون كأبقي الموروثات الحضارية علي مر العصور".
أما الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل فيذكر عاشور أنه برز أول ما برز شاعرا سياسيا، وكانت الميزة الكبري لمحمود حسن إسماعيل - إلي جانب موهبته الشعرية - هي
ويأتي الدكتور محمد مندور رائدا خامسا، ويعده عاشور صديقا أكثر منه أستاذا، كان مندور يحب المناقشة وكثرة الحوار. يتحدث عاشور عن كتاب (الشعر المهموس) لمندور، وعن زهده في الحياة الأكاديمية الجامعية واشتغاله بالحياة العامة والكتابة الصحفية، وعن قيادة مندور لجناح اليسار في الأربعينيات، وعنايته بالنقد المسرحي، ويذكر قول مندور له: "إن النقد الحقيقي فن خالص، ولذلك لا بد للناقد أن يكون صادقا، لأن النقد خلق مكمِّل للإبداع الفني". كان مندور يعيش من قلمه، ولعل هذا كان السبب فيما أصابه من إرهاق مثل "قزقزة اللب"، والشرط الوحيد أن تكون المرأة جميلة وأن يكون جمالها موحيًا بالشعر. وكانت لناجي ندوة في عيادته، وكان يعالج أغلب مرضاه مجانا. ويري عاشور أن ناجي أبرز طاقاته الخلاقة في بيع الكلمة لضمان القوت المتصل. وهذه جناية كبري لا يدركها إلا من عمل في الكتابة اليومية المتصلة لكسب المعاش وتغطية نفقات الحياة. والمازني - في رأي عاشور - صاحب أسلوب فني بديهي يستحيل أن يخرج إلا من قلمه، ومن المستحيل أن يقلده فيه أحد، تقرأه فتشعر وكأنك تأكل ما يشبه البسكويت، شهي المذاق لذيذ الطعم، تتمني ألا تنتهي صفحاته لأنه خال من كل العثرات، نبراته مختلفة متعددة الألوان، لكنه ينساب في نغمة متكاملة تأخذك إلي آخر كلمة في آخر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.