وكما حدث مع الروايات النثرية المجهولة للشاعر أحمد شوقي يحدث مع الروائي الكبير يحيي حقي. لقد كان معروفاً أن الشاعر أحمد شوقي كتب في مستهل حياته الأدبية ثلاث روايات نثرية ترجع أولاها وهي عذراء الهند لعام (1897) ثم تبعها بروايتي لادياس (1898) و دل وتيمان (1899)ورغم هذه الحقيقة تجاهلها غالبية النقاد خاصة أن شوقي نفسه لم يذكرها في مقدمته للشوقيات وكان الجواب علي هذا التجاهل أنها روايات ضعيفة في حين طالب آخرون بضرورة العودة إليها ووضعها في اطارها التاريخي لنشأة الرواية العربية لكنهم عجزوا علي العثور عليها لم تنشر منها سوي رواية واحدة نشرها محمد سعيد العريان. واستمرت دائرة الصمت حتي عثرت علي الروايات الثلاث وقدمتها لاول مرة مع مقدمة ضافية لما أحاط بها أهميتها في مسيرة الرواية العربية ونشرت في مجلد واحد يحمل اسمه "روايات شوقي المجهولة" المجلس الأعلي للثقافة. أعمال مجهولة ومسكوت عنها وها هو نفس الحدث الأدبي يتكرر مرة ثانية بالتوصل إلي أعمال أديبنا الكبير يحيي حقي : ليس المسكوت عنها فقط : بل والمجهولة تماماً من أعماله القصصية والنثرية والمترجمة. وأقول الأعمال المسكوت عنها لأن نسبة معقولة من أعماله المبكرة لم تنشر في كتاب رغم ذكرها في أكثر من مصدر ذكر بعضاً منها أديبنا في سيرته الذاتية ومع ذلك لم تجد العناية الواجبة لضمها ضمن نشر أعماله الكاملة . وأضيف هنا إلي أعماله المسكوت عنها أعمالاً أخري مجهولة تنشر لأول مرة. إن الباحث لأعمال يحيي حقي المبكرة يواجه مشكلة اعترف نفسه بها فما أكثر ما كان يوقع عليها بأسماء مستعارة، ونادراً ما كان يوقع عليها باسمه صراحة: مرة باسم "بيب" أو "قصير" أو " عبد الرحمن بن حسن أو عابر سبيل أو "شاكر فضله...، الخ، وعلي الباحث أن يلهث وراء هذه الأسماء في العديد من الدوريات والتي أن وجد بعضها فقد انتهي عمر الآخر منها! لكن لماذا كل هذه الرموز؟ يجيب قائلاً: (فعلت هذا لأنني كنت أؤمن في تلك العهود أن الكاتب يكفيه أن يقحم رأيه علي قرائه وأن يقحم نفسه عليه فوق البيعة" أو لعلي توهمت أن وراء التستر حرية تتيح لي أن أخوض كما أشاء في سيرة أصدقائي أو أنبش عش زنابير دون أن يسيح دمها سمها أن شئت تواضعاً وحكمة أوجبنا وقلة وثوق في النفس ) "ونضيف نحن.، وطبقاً لأعراف عصره كان يخشي علي نفسه باتهامه "بأنه أصاب الأدب" وهي مهنة من لا مهنة له علي حساب مستقبله كمحام سوف يشار له بالبنان:أولم يسبق هيكل مؤلف رواية "زينب"أن وقع عليها باسم "فلاح مصري" ! وربما كان هذا أحد دوافعه في أن يسجل خواطره بعد أن صار للأديب مكانته في المجتمع خاصة وأن تجارب جيله من رواد القصة القصيرة لا نعرف عنهم الكثير بل إنه يتساءل عن معاصره "عيسي عبيد" في كتاب فجر القصة القصيرة.، من هو ؟ وما خبره؟ وماذا مصيره هو وشحاتة عبيد؟ هذا سبب آخر في رأينا لحديثه عن النفس في شبه مذكرات وعلي حد تعبيره "لا أعتمد فيها إلا علي الذاكرة وحدها والذاكرة خؤون دون ولا كنت مغرماً بجمع قصاصات من الصحف وتبويبها ولو فعلت لأصبحت أسكن في دفتر خانة ولأن الذاكرة خئون علي حد قوله فإن ما سجله عن حياته يترك للباحث فرصة فريدة في تعقب هذه المسيرة الأدبية ألا وهي أعماله المنسية - والتي تذكر أحياناً- علي استحياء باعتبارها عند البعض "كناسة الدكان" حتي أن الكاتب عباس خضر يري أن أعمال يحيي حقي المبكرة هذه تمثل ( طور بدء حائر يحاول الكاتب فيه ان يعرف طريقه) ونحن وأن كنا نتفق معه علي هذه الملاحظة إلا أننا نختلف معه في قوله عن هذه البدايات القصصية "وأغلب الظن أنه أهمل هذه القصص فلم يجمع منها شيئاً في الكتب التي أصدرها بعد ذلك، وقد أحسن بذلك. والواقع أن بعضا من هذا الإنتاج المبكر بدأ يأخذ طريقة للنشر علي استحياء ، وكان يحيي حقي قد اختار ثلاثاً منها في مجموعة "دماء وطين" وعلي هذا كما يقول د.حمدي السكري (ستظل أي دراسة لتطور أدب يحيي حقي القصصي ناقصة حتي تصدر وزارة الثقافة البدايات الحقيقية لفنه القصصي في تناول الباحثين.)" " لذا نحن نتفق مع قول محمود تيمور عام 1936 " من ان القصة كانت فناً يحبو وأنه " ليس من السهل أن يتصدي الناقد لمعالجة الموضوع فالحكم علي الزمن القريب محفوف دائماً بالريبة وإن حسن فيه القصد إذ أن للبيئة التي نحيا فيها تأثيراً علينا يكاد يعمي بصائرنا عن إدراك الحقيقة لذا يجب أن يترك لنقاد المستقبل يدرسونه في تؤدة وروية وفي جو صالح يساعد علي استجلاء الحقائق وتفهمها تفهماً نزيها) .من هنا تأتي أهمية البحث عن الجذور والكتابات الأولي التي شكلت جزءاً مهماً من مسيرة يحيي حقي وسوف نجد أن تراثه ليس قاصراً علي القصة القصيرة فقط بل وإلي المقالات والترجمات التي تكشف عنها هذه الدراسة لأول مرة.، المنسي منها والمجهول لنا.، وربما ضاعت من ذاكرة كاتبنا الكبير نفسه ! العفريت.. رواية مجهولة ! لو تتبعنا سيرة يحيي حقي الأدبية طبقا للترتيب الزمني فان هذا العمل يعتبر أول اعماله في الترجمة وهو مازال في سن مبكرة لا تتعدي السابعة عشرة..، اي قبل التحاقه بمدرسة الحقوق -الا وهو تعريبه لرواية العفاريت في سلسلة مقالات: يقول (بدأت أكتب في سن مبكرة.. حوالي السادسة عشرة، ومعظم تلك المرحلة تجارب ساذجة لم اعن بجمعها والاحتفاظ بها) ربما لهذا الرأي لم يذكرها ضمن بواكير أعماله الأدبية واغلب الظن عندي انه نسيها تماما، ودعنا من رأيه الشخصي فيها.، لماذا هذا العمل الذي بدأ به حياته الأدبية ؟ لماذا اختار هذه الرواية دون غيرها والتي تبدو اختياراً غريبا في مسيرته كلها؟ تقول مقدمة رواية " العفاريت انها مأخوذة عن الانجليزية بقلم يحيي حقي ذات أربعة فصول " وفي تعريفه بها (الف هذه الرواية الكاتب الانجليزي بولر ليتون الطائر الصيد وطبعت لاول مرة عام 1859 .ولا يزال الكتاب الانجليز يعتبرونها أعظم قصة كتبت عن العفاريت - لان مؤلفها لم يكتبها تخيلا - بل نتيجة أبحاث كثيرة قام هو بها بنفسه، وقد قال "آرثر كونان دويل" الكاتب المعروف إنها خير ما كتب عن العفاريت)، ولعل عنوان الرواية - وقبل ان نعرف مضونها تعيد الينا بعض ذكريات طفولة يحيي حقي نفسه عن حكايات العفاريت والست عزيزة ما كانت تثيره في نفسه من تساؤلات فلسفية وعلمية بعد ذلك . في مقالته ( هذا العالم الخفي المجهول- كناسة الدكان ما نراه يفصح عن هذه المخاوف والدهشة إزاء عالم الجن والعفاريت " " إننا نعتقد بتجاوز مرحلة الطفولة إحساسا غريبا هو لذيذ ومخيف في آن واحد لان وراء عالم الواقع الذي نعيشه عالما خفيا مبهماً يحيط بنا ويتدخل في حياتنا ويخاطبنا صراحة أحيانا ورمزاً أحيانا، انها خسارة جسيمة لاننا نهبط من الروعة والدهشة والاهتزاز النفسي الي وجود رتيب وطمأنينة تافهة تقام علي مصطلحات قلما اصطلحنا عليها، وقلما نناقشها وان بقي صوت ضئيل جدا يهمس لنا انه لا ضمان بأنها غير زائفة" "............................ " ولم يكن الفزع إن العفاريت أو الست عزيزة سيصيباني بشر، بل الاحساس بان عالمنا مسكون بأقوام لا نراهم ، جنس ليس جنسنا مهما أحكمنا غلق الأبواب والنوافذ فلن نسلم ان تكون معنا مخلوقات لا ندري من أمرها شيئا ". ثم نقول: " آمنت بهذا كله لا تقليدا فحسب بل بلذة وطرب شديدين، أنني لا أنفي عليهم حشوا دماغي بهذه السخافات كلها بل أشكرهم كل الشكر كم كانت طفولتي يومها تبدو لي تافهة مملة سقيمة محدودة العقل بليدة الحس ضيقة الأفق ، بفضل هذا التلقين وجدتني أدفع دفعا وانا في سن مبكرة الي الانتباه الي ان عالمنا محاط بأسرار كبيرة لا نعرفها، وان وراء الصوره التي تتراءي لحواسنا صورة أخري نجهلها ، فلم ينقطع لي منذ ذلك الوقت تساؤل عن أسرار الحياة والكون والعجب لها، والعجب هو علامة يقظة العقل والروح ، انه نشوة لا تماثلها نشوة ) ثم يختم مقالته ذات الدلالة في اختياره وتعريب رواية العفاريت (جزي الله فرويد، لا أدري هل اقول خير الجزاء أم شر الجزاء.، حين قرأته وجدت تفسيرات معقولة لأحلام لي كثيرة في حياتي وشبابي، انها كما قضت علي الغموض قضت أيضا علي جانب كبير من سحر هذا العالم الخفي المجهول الذي عرفته في طفولتي). ولنا ان نتذكر اسم فرويد ودوره في أعمال يحيي حقي وفي رسم الأبعاد النفسية لشخصياته بعد ذلك ! هذا مبرر إذن لكي يختار بدون وعي أو بوعي منه لتعريبه او ترجمته لهذه القصة، ولكن علينا الا نغفل ان اختياره لهذه القصة لم يكن لموقع الرواية في دنيا الأدب بقدر ما في هذا اللون الشعبي من تسلية وترويح كانت الصحافة المصرية حينذاك تتسابق لتقديم مثلها مترجمة فضلا عن السلاسل الشعبية التي كانت تحفل بمثل هذا اللون من القصص الجماهيري نظرا لضعف سوق التأليف المصري في ذلك الوقت وتلبية لرغبات القراء، ولا أدل علي ذلك أن المجلة توقفت في أحد أعدادها عن النشر ثم عادت لتواصل نشر بقية قصة العفاريت وفي ذلك تعتذر للقراء ( لأننا لم ننشر جزءا من الرواية في العدد الأخير من مجلتنا وقد عتب علينا كثيرون واظهروا لنا انهم شديدو الاهتمام بهذه الرواية الغريبة فرأينا أن ننشر بهذا العدد جزءا كبير منها) . اكثر من هذا ان هذا العالم المجهول عاوده ثانية عام 1926 بنشره في صحيفة الفجر قصة " السخرية او الرجل ذو الوجه الأسود " معلنا انه كتبها تحت تأثير قراءته لادجار الن بو الكاتب الامريكي الشهير بهذا اللون قائلا " إن الكاتب يشعر أحيانا بأسرار غريبة لن يجد في المذاهب الواقعية بغيته اذا احب ان يعبر عنها ويريد ان يرتفع عن الواقع،.، حيث لا يقيده سوي أوضاع اللغة ومعلومات البشر العامة " " بشارات أولي الملاحظة الجديرة بالاهتمام في مجمل أعمال يحيي حقي المبكرة والتي بدأ في نشرها مع نهاية العشرينات ومع بدء اشتغاله بالمحاماة في الإسكندرية أن هذه الكتابات النثرية أو القصص كانت بمثابة البشارات الأولي لما سيصبح عليه كاتبنا بعد ذلك وبمثابة التخطيط والبروفة الأولي لأعماله فيما بعد ، كل مقال أو قصة أو ترجمة سوف نجد صداها وذكرياتها في الكثير من أعماله واعترافاته بعد ذلك وهي الكتابات التي تغنينا عن السؤال عن مبعث ودوافع كتاباته المبكرة الأولي ، ذلك أن حياته شريط ممتد بلا فجوات، ظاهرها كباطنها، مما كان يعبر عنه ويمثل هما هو ما عبر عنه في ذكرياته وكتاباته بعد ذلك ولكن بعمق اكثر وأسلوب أكثر نضجا وبنظرة سريعة موجزة حول هذه البدايات في انتاجه فيما بعد سوف نجده يتحدث عن خبرات او شخصيات شكلت بدايات حياته العملية، حتي حديثه عن أحلام الطفولة والذكريات نجد منبعها الاول تلك الاعمال المبكرة، في سلسة مقالاته " في المحكمة " والتي تنشر هنا لاول مرة _ وهي مقالاته الوحيدة التي وقع فيها باسمه الحقيقي وهو يحيي حقي المحامي - تمثل خبراته الاولي كمحام شاب المحكمة بالنسبة اليه " تختصر العالم بما فيه من ضروب المنازعات واصطدام الأهواء المختلفة"، كيف عرف يحيي حقي طريقه الي الصحافة لنشر سلسلة مقالاته في المحاكم " يقول في كتابه " خليها علي الله" . " كان من بين الخطط الاستراتجية التي وضعتها بحنكة غير المجرب ان أراسل الصحيفة الوحيدة التي تصدر في مدينة الاسكندرية وهي صحيفة "وادي النيل " ( لم تكن الوحيدة بل عرفت اسكندرية العديد من الصحف لكن اكثرها دواما كانت جريدة، البصير - والتعليق من عندنا ) فنشرت لي سلسلسة مقالات عن المحاماة لاشهر المحامين في مصر وأوروبا وفي ذيل كل مقال اسمه وتحته كلمة " محام " ولكن بدون عنوان فإذا بهذه الصنارة لا تصطاد سمكة واحدة " يقصد لم يكن لها صدي عند القراء " ، وفي صفحة أخري من نفس الكتاب يكتب (حين اشتغلت بالمحاماة سعيت الي سماع كل محام مشهور بالخطابة ووصفتهم بعد الانتفاع بكتاب هنري روبير نقيب المحامين في فرنسا. أسماء غير قليلة لا فائدة الآن من ذكرها ولكن احب ان اقف عند ابراهيم الهلباوي .( ويقصد هنا تلك المقالات المبكرة عن محامين آخرين مثل مصطفي النحاس باشا واحمد لطفي بك و وليم مكرم ومرقص فهمي وعبد العزيز باشا واحمد علي بك) وعندما يصف قاعة المحكمة من خلال مقالاته هذه نجده يصف محكمة الدلنجات في مطلع شبابه كمحام..." تنعقد في حجرة صغيرة ليس بها الا ما يكفي لجلوس ستة أشخاص وأصحاب القضايا والشهود جالسون علي الأرض أكواما وصفوفا ، كاتب الجلسة مصدع يربط رأسه بمنديل حريمي مفلفل، إذا طلب المحامي مستندات تركنا ليبحث عنه" " . وفي كتابه " كناسة الدكان" يكشف لنا دون وعي منه او بوعي بواعث كتاباته عن المحاكم.، يقول : (من ابرز دراستي للحقوق شغفي الواضح بدراسة الجريمة والمجرمين ولعلها مخلفات رغبتي في دراسة الطب واستكشاف تكوين الانسان الجسمي والعقلي، وبلغ من هذا الشغف انني انشغلت فترة عقب تخرجي بكتابة عدة ابحاث عن الاحداث المنحرفين مدعمة بالاحصاءات والمقارنات والقيت بعض المحاضرات العامة حول الموضوع )" " ، والدراسة تتناول اضلاع المحاكمة الثلاث : القاضي والمتهم والمحامي، دون ان يغفل جمهور المحاكم : والاهم مواقفة مما يري.، سلبا او ايجابا. الدراسة لا تقدم مجرد وصف للتكوين الجسماني والعقلي للجمهور و المتهمين علي حد قوله فقط بل واسباب الجريمة وانواعها في مصر، ويمكن اختيار بعض العناوين التي تلخص مرافعته في الموضوع الذي يتناولة : يقول : * علي خلاف الشائع فإن مناقشة الشهود اكثر اهمية من المرافعة . * مشكلة المحامين الآن هي االلجوء الي السماسرة * كلمة مؤخر الاتعاب كما مؤخر الصداق.، لا أحد ينفذها ! * من الظلم ان يحكم علي متهم دون ان يفهم سبب الادانة * نظام المحلفين فاشل.، لانه يغلب المهاره اللفظية علي الحجة القانونية * شخصية المحامي تفوق في الاهمية ان يكون ضليعا في القانون . * مشكلة القضاء مع المحامين حدثت في المنصورة في الثلاثينات ، (وما أشبه الليلة بالمبارحة ) * ضرورة فصل سلطة التحقيق عن سلطة الاتهام مع إعادة النظر في قانون الجنايات . * محاكمة الاحداث يجب ان تكون في مبني مستقل بعيدا عن المجرمين مع الاستعانة بذوي الخبرة في تنشئة الطفل * غالبية زبائن جلسات المحاكم علي درجة قليلة من التعلم.، لكنهم يعرفون القضاة ومشاهير المحامين ويحفظون نوادرهم واخبارهم * باستثناء قاعة محكمة الجنايات فإن باقي المحاكم في حالة غير لائقة بهيئة القضاء ودورالعدل * الخطيئة الأولي للمجرم تحدد مستقبله في الإجرام . هذه بعض العناوين التي تلقي الضوء علي مضمون سلسلة الحلقات التي نشرها في جريدة " وادي النيل " ، الطريف انه يدين فيها لجوء المحامين الي سماسرة القضايا ، لكنه يتعاطف معم أخيرا عندما يسجل الظاهرة مرة أخري" في خليها علي الله معترفا : (كنت انف من السماسرة لا أجد لهم عذرا وأنا شاب عفيف متحمس الا انني وانا اكتب الآن عنهم أجدهم بعد ان وصفت ضحاياهم من اخف الناس ظلا واكثرهم ذكاء.، فحلال عليهم مهنتهم الشريفة) " " القصص المنسية * لقد عالج يحيي حقي معظم فنون القول ولكن تظل القصة القصيرة هي هواه الأول كما يعترف في كناسة الدكان سواء عبر القصة الصغيرة كما كان يسميها أو مجرد صور من الحياة " وكلها تعبر عن تجارب ذاتية أو مشاهدة مباشرة؛ عنصر الخيال فيها قليل جدا ودورة يكاد يكون مقصورا علي ربط الأحداث ولا يتسرب إلي اللب أبدا " ، وهو تواضع منه وهو غالبا ما يلعب فيها دور الراوي الذي يعلق علي ما يراه وفي رسم جو أحداث القصة وشخوصها التي تتحرك أمامنا ويمكن إجمالي إنتاجه المنسي منها نقدا وتأليفا في صورتين: الأولي وهي الغالبة تمثل القصه القصيرة ؛ والثانية يضعها تحت عنوان فرعي " صور من حياة " كما في " العسكري" و" الخزنة عليها حارس " القصة القصيرة المنسية هي" ": 1- صوره من حياة ( حلقتين) 2- عبدالتواب السجان 3 -نهاية الشيخ مصطفي 4- الوسائط يا فندم أما" صور من الحياة" فهي (الخزنة عليها حارس - العسكري) وإذا كان الفارق بين القصة القصيرة يكاد لا يبين عند الوهلة الأولي ؛ وإن كان هناك فارق بينهم وهو الفارق الذي يوجزه د/ شكري محمد عياد في : 1- إن ( الصورة ) تفتقر للموقف الدرامي الذي يؤكد وحدة الانطباع 2- إن (الصورة ) تمس منطقة من الشعور أقل عمقا من التي تمسها القصة القصيرة 3- (الصورة) تقترب من منطقة الملاحظة دون النظرة الشاملة للحقيقة بعكس القصة القصيرة؛" " من هذا المنظور علينا أن نتعامل مع صورتي الخزنة عليها حارس والعسكري كما يمكننا دون تجاوز علي القصة القصيرة ؛ اعتبار( الموت والتفكير) أقرب للمقالة الحوارية أكثر منها قصة، فهي حوار فلسفي بين اثنين حول لغز الحياة والموت وهو موضوع تناوله كاتبنا اكثر من مرة ، وجهة النظر الأولي تمثل وجهة نظر غربية والثاني شرقية ينتهي الكاتب منها إلي نتيجة هي "سيظل الإنسان حائرا دون أن يهتدي لحل ظاهرة الموت وكل شخص يحل المشكلة بمقتضي تفكيره.......................... وان الفكر يشتتنا بعد اجتماع كما أن الموت يجمعنا بعد تشتيت وأن الموت والتفكير نقيضان متعاكسان ولكنهما يأتلفان في مجموعه واحدة عن سر الوجود" والصورة التي يرسمها يحيي حقي في الخزنة عليها حارس تذكرنا ببطل قصة تشيكوف (موت كاتب) الذي يموت رعباً من مجرد تذكره انه عطس في صلعة رئيسه اثناء جلوسه في المسرح ، وهو هنا لا يموت لكن تنتابه هواجس ومخاوف بطل تشيكوف من سرقة عهدة الخزينة لتشفق عليه بقدر ما يعكس صورة من الروتين الوظيفي. كذلك يمكن القول عن "جحود امرأه - قصة اندلسية"" " إنها مقالة تاريخية تدور زمن الأندلس ، فلم يكن التاريخ مصدرا لكاتبنا في أعماله سوي دراسته عن (الدعابة في المجتمع المصري ) التي اعتمد فيه علي تاريخ الجبرتي أما بقية قصصه التي نحيي نشرها فسوف نجد اهتماما منه بجغرافية مكان أحداث القصة وغالبا ما تكون الأحياء الشعبية فضلا عن رسم سيكولوجية شخوصه ، وهم كما قيل بحق من الطبقة المتوسطة أو البرجوازية الصغيرة من المهمشين وهو حريص علي رسم صورة لوضع المرأة المصرية حينذاك من خلال الرجل ، إن نظرة عبدالتواب افندي - السجان للمرأة كمعظم رجال الشرق " إن الرجل سواء كان غنيا أم فقيرا مشوها دميماً أم سليم الوجه يصلح لان يكون زوجا ترغب فيه النساء ما دام أنه يستر زوجته وينفق عليها " والزواج بالنسبة له " معركة لابد وان يخرج منها منتصرا " وأن دوره في الحياة أن يكون زوجا وسجانا " و..، حتي محجوب أفندي والد العروس الجديد " يري في ابنته المطلقة " تخلصاً من الفتاة التي قبعت في داره كالمصيبة لا تتحرك ". والحاج احمد في قصة صورة من حياة" المنزل لديه لوكاندة نوم لا يبالي بأسرته ونظافة بيته " لانه رجل ليس امراة " ويحلل نفسييته بأنه يعامل زوجته ام احمد كما يعامل زبائنه، بل ويلجأ للتحليل النفسي في وصف بطله بعد ان تصيبه الثروة الفجائية بحرص خبيث ويحدد تطور هذه الصدمة: من الذهول ثم الحيرة والخفة، بل يصف طبيعة طبقة التجار"وقد اعتاد التجار جميعهم هذا الصنف من المعاملة بين بعضهم البعض ورتبوا أعمالهم بمقتضي مقاييس وأحكام هذا الجو الكريه" ، وقصة نهاية الشيخ مصطفي تمثل نموذجا يلعب فيه عامل الإرادة دوره في حياة بطله ، وهو عامل يعطيه الكاتب أهمية كبيرة في أعماله ، إن الشيخ مصطفي إنسان يعيش حياته يوماً بيوم ، يعيش في قوقعة ذاته ولذاته رغم كل علاقته بمن حوله كقارئ للقرآن ومنشد." فهو يداوم علي سكره كما يداوم علي صلاته" وكان من تأثير الخمر عليه أن زاد استهتار بالحياة وهمومها والناس ومشاكلهم واشتد عليه للاختلاء بنفسه . هذا الرجل الطيب الذي لم يؤذ أحداً ولم يؤذيه أحد فتح قبره بيده منذ ان رأي الشيخ ابو الروس.، او قل الفتوة الجديد يغزو عالمه وحياته كمنافس علي لقمة العيش دون ان يأبه للخطر القادم عليه بل مطلوب منه ان يصيح صبي من صبيان ابو الروس الذي يفضح سكره أمام الجميع مع انه اكثر تهتكا منه، لكنه عرف كيف يدير حياته بارداة حديدية، وما كان عصيان الشيخ مصطفي الا سلبيا دون مقاومه " وانقلب خجله الي استهتار ، واصبح يسكر علنا ليضطر في النهاية "للهجرة لحي آخر ليس به مشربيه ولاتبدو من نوافذه السماء، واختفي من حي الحسين دون اي يأسف عليه او يتذكره احد " وعامل الارادة هو ما يفتقده إبراهيم افندي الدر ندلي " في قصة " الوسائط يا افندم " الذي يقضي حياته علي القهوة في انتظار إعلان صحيفة لوظيفة ميري يشغلها "" لينسلخ من سلك رواد القهوة ويدخل في زمرة الموظفين وسيشرب فنجال القهوة علي مقعد امام مكتب". وما ان يعثر علي الإعلان عن وظيفة بالاسكندرية حتي يبدأ مرحلة البحث عن واسطة و بدلا من ان تكون الواسطة عونا له يرفض الوظيفة لكثرتها رغم تفاهة الوظيفة، ليعاود جلوسه علي قهوة الكريتلي ليعلن سخطه علي كل شيء لايسير علي هواه.، فالجريدة ليس فيها ما يستحق شراءها طالما لا يجد فيها طلبه.، والعكس صحيح ، وجارته أم زينب " وابنتها يود التقرب الي البنت الصغيرة ويدافع عن سمعتها السيئة، وسرعان ما ينقلب ضدهما مع قراره العودة الي القاهرة بعد فشله في الحصول علي الوظيفة، ان مشكلة إبراهيم افندي انه هو الآخر يعيش في قوقعة ذاته رغم ضجيج الحياة من حوله، يتمني دون ان يسعي بجهده للوصول الي ما يتمناه ، وهو يري انه علي حق فيما يعتقد وان كل ما حولة باطل.، الوسائط فيها كل شيء !!