لا أحد يستطيع أن ينكر أهمية الأمن في حياة المجتمع, كما لا يستطيع أحد أن ينكر ما تضطلع به الشرطة في المجتمعات المعاصرة من تحقيق مستويات من الأمن والاطمئنان لسكان هذه المجتمعات. إن ما ينكر بحق هو أن يتحول رجل الأمن إلي أداة قهر في يد الدولة ومن تحميهم من أقوياء الناس, وأن يتحول إلي أداة لبث الخوف والرعب في النفوس. هذا ما يحدث في المجتمعات التي يسود فيها الطغيان, والتي تستخدم فيها الشرطة لتكون أداة بطش وتخويف. لقد لعبت الشرطة في مصر دورا متميزا في إرساء دعائم الأمن, وضحي عدد من رجالها بأرواحهم في سبيل الوطن. لقد كانت مشكلة الشرطة في مصر كما في كثير من بلدان العالم النامي هو نقص المفهوم الاجتماعي/ الثقافي للأمن. لقد عملت الشرطة في ضوء نظرية للأمن مفادها: إقامة النظام, وإرساء دعائم الاستقرار, بصرف النظر عما يترتب علي ذلك من نتائج, ولقد تلاءم هذا المفهوم مع مصالح النظم الحاكمة, التي لم تكن تسعي إلي سعادة شعوبها بقدر ما تسعي إلي إرساء دعائم النظام والاستقرار, ومن هنا ظهرت جل المشكلات التي جعلت أواصر الصلة بين المجتمع والأمن تضعف ثم تنقطع, فقد أفرز هذا المفهوم للأمن هذا الضعف وذلك الانقطاع, عبر ممارسات تصاعدت من تدخلات سافرة في حياة الناس, ومعاملات عنيفة وقاسية لمن يقع في قبضة الأمن, وتمييز في التعامل بين الأقوياء والضعفاء, ونظرة متعالية غير عادلة إلي البشر من عامة الناس, تصاعدت كل هذه الممارسات إلي أن وصلت ذروتها يوم القتل العظيم في ميدان التحرير وغيره وفي آتون الثورة. وبرغم أننا لا ننكر أن ما حدث كان كبيرا وجللا, إلا أن العقل يملي علينا أن نتدبر الأمر مليا. فلا يمكن للحياة أن تستقيم, ولا العيش أن ينضج دون أمن, ودون جهاز ذي كفاءة يقوم علي شئونه. ومع تسليمنا بضرورة عقاب كل قاتل أو باغ أو فاسد, فإنني أحسب أننا يجب أن نبدأ من نقطة بداية, وأن نرسم لأنفسنا في هذا المضمار طريقا لا نمل من ارتياده والسير فيه لكي يزداد تمهيدا واستقامة. وأحسب أن نقطة البداية هي الاتفاق علي مفهوم جديد للأمن يفرح به المجتمع وينتصر له. ذلك هو المفهوم الاجتماعي الثقافي الذي من خلاله لا يصبح الأمن أداة للخوف والفرار, بل أداة للسكينة والطمأنينة, مفهوم يعمل في ضوئه رجل الشرطة علي أنه الحارس علي طمأنينة الناس وسكينتهم, يسعد الناس برؤيته, ويشعرون بقمة الطمأنينة والسكينة والرضا عندما يشاهدونه أو يتعاملون معه, ينامون وهم يعرفون أنه يحرسهم بحق, ويكون بجوارهم عندما يستنجدون أو يستغيثون. ويقوم المفهوم الاجتماعي للأمن علي عدد من الأسس يمكن اشتقاقها من تجارب الدول الحرة. من ذلك أن الأمن لا يحمي النظام السياسي إلا في حدود القانون, وأن مهمته الأصلية هي حماية الحقوق السياسية والاجتماعية للأفراد, وأن كفاءة الشرطة تقاس لا باستعراض القوي وإنما بالقضاء علي الجريمة والفوضي, وأن منح الشرطة الحق في تنفيذ القانون هو تكليف من المجتمع وليس وسيلة لتحقيق منافع خاصة, وأن التعاون بين الشرطة والمواطنين وتعميق الفهم المشترك لدور كل منهما هو أساس نجاح الأمن في تحقيق وظائفه, والالتزام بعدم الاسراف في استخدام القوة (بحكم القانون) وعدم الاقدام علي تنفيذها إلا بعد تقديم النصيحة والتحذير والإقناع, وفي حالات الضرورة فقط, والتحلي بالشجاعة والاقدام وتنمية المهارات المهنية من أجل حماية الأفراد وحقوقهم, والعمل الدائم علي مساعدة ضحايا الجريمة علي التغلب علي الآثار التي لحقت بهم وأسرهم, والتعاون الخلاق مع قادة المجتمع المحلي ومنظمات المجتمع المدني في حماية المجتمع من الجريمة وتحقيق أعلي مستويات الشعور بالأمن, والوجود الدائم والملحوظ داخل الأحياء السكنية, وإعلان كل هذه المباديء التي يقوم عليها العمل الأمني عبر وسائط الاتصال وفي أقسام الشرطة, وتأدية المهام المكلف بها رجل الأمن في ضوء قيم الأمانة والنزاهة والاحترام والعدل والتعاطف والشجاعة, تلك القيم التي تجعله يتحلي بالموضوعية وفهم ظروف الآخرين والتمسك الشديد بالمهنية المغلفة بروح إنسانية. ولن يستقيم المفهوم الاجتماعي للأمن دون التزامات علي المجتمع, فإذا كان رجل الأمن وفقا لهذا المفهوم حريصا علي حقوق المواطنين وساهرا علي حمايتهم من الجريمة, فإن المجتمع يجب أن يقدر مهمة رجل الأمن, وأن يغير الصورة الذهنية الجامدة حوله, بأنه رجل يبث الخوف من حوله (قد نذكر هنا تخويف الأطفال برجل الشرطة), ومساعدة رجال الأمن علي تطبيق القانون بالانصياع الكامل لأوامرهم, مادامت في إطار القانون, وعدم الالتفاف علي قرارات رجال الأمن عن طريق الرشوة أو العلاقات الشخصية (كما يحدث في حالة المخالفات المرورية وسحب رخص السيارات), والالتزام بالقوانين في التفاعلات العامة (السير في الشوارع قيادة السيارة استخدام المواصلات التظاهر والاحتجاج), وعدم استغلال ما يملكه المواطن من سلطة أو جاه في تعامله مع رجال الأمن, وإبداء الاحترام لرجال الأمن والثقة فيهم وفي قراراتهم, وعدم وصفهم بأوصاف غير لائقة, والتظلم أمام القضاء من أي فعل من شأنه إلحاق ضرر مادي أو معنوي ناتج عن تصرفات رجال الأمن. إن المفهوم الاجتماعي للأمن علي هذا النحو هو نتاج تفاعل وتبادل خلاق بين أجهزة الأمن والمجتمع, فلا شيء يستقيم في الحياة العامة إلا عبر هذا التبادل الخلاق الذي تتحدد فيه الأهداف بدقة, وتخلص فيه النيات, ولا يتسرب إليه الهوي الشخصي أو أي شكل من أشكال التنمر أو التآمر. وبهذه الطريقة يتجه هذا التبادل الخلاق نحو تحقيق مصلحة المجموع. ويفرض هذا علي كل الأطراف التزامات وتوقعات متبادلة. ولذلك فإن الجهود المشتركة هي التي تجعل هذا المفهوم يستقر علي أرض الواقع ويتحول إلي ممارسات عملية. وأحسب أن الايمان بأهمية المفهوم الاجتماعي للأمن, والاعلان عنه, والالتزام به من كل الأطراف هو بداية الطريق نحو التواصل الخلاق بين أجهزة الأمن والمجتمع, والممارسات الفعلية هي التي تؤكد دائما هل استقر المفهوم علي أرض الواقع أم لا, فالطريق لا يعبد ولا يصبح طريقا إلا بالسير فيه. المزيد من مقالات د.أحمد زايد