يعلن وجود اسم مكان في بعض عناوين موديانو عن القدرة الدلالية والغنائية للحيز المكاني في نصوصه. وباستخدام "المحركات المكانية" يمكننا بكل تأكيد النظر لهذه العناوين كما لو كانت بيانات تفسيرية بالمبدأ، ما يطرح سؤالاً عن الخيار الذي يسلكه المؤلف، دعونا نحصي هذه المحركات المكانية ونقيمها. " ميدان النجمة"عنوان دلالي لأقصي قدر، لأنه يحيلنا في المقام الأول إلي ميدان النجمة اليهودية والذكريات المبهمة للاحتلال، التي ستكون محل معالجة فيما بعد. فتركيبة النص في هذه الرواية لا تأتي اعتباطاً: إذ تظهر المسألة اليهودية فيها بوضوح، فحيناً نلحظ نزعة حادة مضادة للسامية، وحيناً آخر مظاهر صهيونية ساذجة جداً. وهذا هو العنوان الصحيح لما تقدمه صفحة الغلاف الخارجي الختامية من خلال جملة :" جرح عنصري لا يندمل". وها هي العبارة التصديرية التي تحذرنا من روح الدعابة السوداء لهذا الكتاب:" في شهر يونيو عام 1942 يتقدم ضابط ألماني نحو شاب ويقول له:" معذرة يا سيدي، أين يقع ميدان النجمة؟" فيشير الشاب إلي الجانب الأيسر من صدره.( القصة اليهودية)" "جادات الحزام" تحيلنا إلي التسكع حول باريس أثناء الاحتلال-ووالد لا يعرف الرحمة-، تسكع لا طائل منه وبشكل دائري بداية من السوق، لأن الأنا-الراوي ينتهي إلي العودة إلي نقطة الانطلاق، خالي الوفاض، بدون أدني شك. وتحس الدلالية الهائلة المأساوية للمحرك المكاني في السطور التالية:" في وسط الكثير من الشكوك، نقاط الاستدلال الوحيدة لدي، الأرضية الوحيدة التي لم تكن تهرب مني، كانت تقاطعات وأرصفة هذه المدينة التي سأنتهي بدون شك إلي أن أجد نفسي وحيداً فيها."... " منذ عدة أسابيع، كان والدي يهتم كثيراً بالحزام الصغير، خط السكة الحديد المتوقف عن الاستخدام الذي يحيط بباريس. " لم ينجح مشروع الأب، وينتهي الابن إلي أن يجد نفسه وحيداً، تماماً كما كان يخشي من قبل. وهكذا، فإن " جادات الحزام" تصبح عالماً من الوحدة حيث يدور الإنسان في دائرة مفرغة. الڤيلا الحزينة: علي ما يبدو، يحمل الاسم في نفسه تماماً معني المكان المنعزل أكثر من كونه مؤشراً علي تشكيل مكان ما؛ فهذا العنوان يحمل محركاً مكانياً جميلاً جداً يحيلنا كلية إلي حالة الحنين الداخلي الخفي الجارف بالرواية، وبالتالي يحيلنا إلي الدلالية الموحية جداً للمكان. فالكاتب يتذكر سنوات عمره الثماني عشرة، التي ستصبح من الآن فصاعداً ذكريات مراوغة غير قابلة للإمساك. مصادفة العنوان في النص تكشف كذلك عن "الصوتية الحكائية" الشخصية لدي موديانو:"بالرغم من ذلك، قدرت أن الصفة الوصفية" "الحزينة" كانت تتوافق مع العنوان بشكل سيئ. وبعد ذلك، انتهيت إلي أن مينت ( بطل الرواية) كان علي حق إذا ما التقط الإنسان من النطق الرنان لكلمة "حزينة" شيئاً ما من الرقة والرهافة. وهكذا ترتسم، عبر هذا التفكير الشعري المبني علي كلمة "حزينة"، تلك الڤيلا التي هجرها تقريباً رينيه مينت. ونلمح فيها، ليس فقط الظل الطاغي والمنذر لحرب الجزائر، ولكن أيضاً، في الوقت الراهن، ظل الراوي في كل المجهودات التي بذلها لكي يقبض علي فترة شبابه المبكر الضائعة. شارع الحوانيت المعتمة: بالدرجة الأولي، يتعلق الأمر بعنوان قديم لچيمي بدرو ستيرن في روما، ولم يبق أثر من ذلك العنوان إلا استمارة شُرطية مكتوبة بالآلة الكاتبة: " الاسم: ستيرن، چيمي، بيدرو. العنوان: شارع الحوانيت المظلمة، الحي الثاني، روما، إيطاليا. المهنة: خياط. كان السيد/ چيمي ستيرن قد اختفي عام 1940." وهنا نقع علي تفسير حول القيمة الكبري بالنسبة للراوي المصاب بداء النسيان والمشرد، لأنه بالتالي من المحتمل أن يكون هو نفسه چيمي بيدرو ستيرن؛ وهي الملحوظة التي قد تقربه من الوصول إلي جذوره المقطوعة. فالعنوان بهذا الشكل هو ملاذه الأخير:" وبعد، كان لابد لي من أن أحاول محاولة أخيرة: أن أذهب إلي عنواني القديم بروما. شارع الحوانيت المعتمة." والشيئ الذي يعطي مع ذلك معناه الحقيقي لاسم المكان، هو شفافيته. فالإظلام في هذه الصفة الوصفية يعود بكل تأكيد إلي حالة النسيان التي يعانيها بطل الرواية. وهي تتركنا كذلك نخمن دور الضوء وغياب الضوء، التي يشكل تتابعهما لُحمة الرواية. ثم أن كلمة شارع تعني سلسلة: وكل الحلقات التي يسعي من خلالها الراوي لأن يتزود بشيئ من ماضيه، هي بمثابة متاجر مهجورة مثلها مثل تجاويف الذاكرة، مستحيل طمرها. وهنا المحرك المكاني للعنوان يؤكد إذن أن الحكاية مبنية بالكلية تبعاً لمبدأ " التطور الخطي للمشابهة." ميموري لان: يوجد هنا حقيقة مكان وهمي، أسطوري، علي الرغم من أن كل كتب موديانو يمكن أن نطلق عليها نفس التوصيف. ينطلق العنوان من أغنية أميريكة قديمة " ميموري لان": »حتي ولو عبرت الجياد في لحظة ما ميموري لان فآثار حوافرها ستظل باقية«. هذا المقطع الشعري الغنائي القديم، الذي كان يتغني به صاحب الشخصية السوداوية دُوج، يحمل في ذاته كل مأساة الرواية: إنها قصة مجموعة صغيرة من الأشخاص الاجتماعيين المصابين بمرض المشي أثناء النوم ( منهم الراوي، المراهق) الذي يتصدع عالمه ما بين ليلة وضحاها، مثل كل المجموعات الصغيرة ذات نفس النسق عند موديانو( كما في رواية الحي السكني المفقود). لكن ميموري لان لا تحيلنا فقط إلي الجياد التي يرمز مرورها إلي هروب الزمن، ولكنه يحدث صدي أيضاً لصورة الأب المتملص من عربة نقل المعتقلين- وهو الشيء الذي لا ينكر أي شخص أنه يمثل الهاجس الأعظم عند موديانو:" جياد جزارة. كان يجتهد في أن تتعافي في اسطبلاته وكان يعيد بيعها في المرابط، بسعر مغرٍ. حتي إن واحداً من هذه الجياد كان قد كسب جوائز عديدة في سباقات الخيول. كان پول كونتور ينقذ حياتها، تلك هي الخلاصة." هذه القصيدة الشعرية المغناة لأجل پول كونتور، لكي تبقي في الإطار الشعري، تظهر إلي أي مدي أن إبداع موديانو كله- إذا لم يكن هناك منقذ مثل كونتور، الذي يتدخل في الوقت المناسب- مبني علي علاقة الجزار بالحصان، الصياد بالطريدة، المعذِب بالمتشرد. وسنجد، بالتالي، علاقة القوي هذه في أسماء الأماكن التي تحيلنا إلي الضفة الشرقية ( لنهر السين) وإلي الاحتلال. الأماكن الأثيرة: باريس الشاعرية عند موديانو، يتم تقديم مدينة باريس كحيز مكاني شاعري قبل أي شئ. "إنه يحكي باريس كما فعل أراجون من قبل"، ذلك ما يلاحظه فرانسوا نورسيه انطلاقاً من زهور الدمار. ونضيف إلي ذلك أن موديانو، تأسيساً علي العبارة التصديرية للكتاب- باريس في نهاية طريق طويل من القرن التاسع عشر، يشير في التو إلي المدينة كمكان قد تحول إلي رمز. الصور الريفية ( البرك العديدة) التي نعجب بها في النص نفسه تعضد وجهة النظر تلك. وعلي نفس النسق، فمدينة لندن في رواية من أقصي زوايا النسيان تُصف من خلال عبارة " هذه المدينة التي كان يكفي أن تدور مع زاوية أحد شوارعها لكي تدلف إلي إحدي غاباتها." ولكن الشيء الذي يعتبر أكثر تميزاً من تلك "الأماكن التقليدية منذ هوميروس وڤيرچيل"، هو ذلك التعارض مع الفضاء الواقعي. فباريس لم تعد باريس التي نعرفها، ولندن لم تعد لندن، بل نحن موجودون في مكان آخر. ومن ناحية أخري، يستغل موديانو بعض الأماكن " المفضلة" لديه أو " الجاذبة مغناطيسياً" التي ربما لا تستخدم دائماً في معارضة الفضاء الحقيقي (أو في الإشارة من خلالها إلي الوجه المألوف)، ولكنها أماكن تكتنز بعض المعاني المنتمية للواقع الترحالي أو إلي المظهر الشبحي للشخصيات. فبخلاف الكثير من القصور، الڤيلات أو القصور الريفية التي هجرها أصحابها، سنلحظ بكل وضوح غرف الفندق أو الشقق الخالية. ومع ذلك، تظل مدينة باريس علي الدوام الفضاء الذي يحوز أكبر قدر من " الحقيقة المظلمة" :" يكفي أن أضرب بكعبي علي بعض النقاط الحساسة في باريس حتي تنفجر الذكريات في حزمة من الشرر". أي لوحة واقعية (من بين لوحات أخري متعددة) ننظر إليها عندما يزرع صورة الكنيسة الروسية الصغيرة في قلب الحي السادس بباريس:" كانت الساعة تشير إلي السادسة إلا الربع. عرضت علي سائق التاكسي أن ينتظرني داخل شارع شارل ماري-ڤيدور الصغير ومشيت ذلك الشارع سيراً علي الأقدام إلي شارع كلود- لوران حيث كانت تقع الكنيسة الروسية." ومع ذلك ليس لنا أن ننخدع بالتفسير الخائن لبعض المؤشرات مثل " الساعة السادسة إلا الربع" وأسماء الشوارع، و"جناح"، "من الجانب الأيمن"، إلخ. لأن الوصف يمتلك علي الأخص هنا وظيفة شعرية مزدوجة: كنيسة تقع في قلب باريس، "جناح أحد الطوابق"، تعد بمثابة علامة اجتثاث مسبقة، ثم إن العنصر الروسي يحيل إلي عالم التسكع الطاغي، المنظوم بالشعر تاريخياً- وقد رأيناه من خلال شخصية ستيوپا- بسبب هاجس الهجرة. في هذا الكتاب، ثمة نموذج آخر للخداع المودياني الذي يصل إلينا من خلال شارع كامباسير، الحي الثامن، باريس. هذا الشارع، الذي تنطلق منه ذاكرة "بدرو" المصاب بداء النسيان، موصوف حقيقة بأقصي درجات الصدق:" ستدور إلي اليسار والشئ الذي سيدهشك هو ذل الصمت والخواء الذي يحياه هذا الجزء من شارع كامباسير". بعد ذلك، وبفضل تعبير "خيالات الحراسة"، يمكننا أن نخمن صاحب المنصب المتواجد في الداخل (في كناية واضحة عن الاحتلال). ولكن العنوان الجلي جداً بالنسبة لمريض النسيان هذا ليس له وجود حقيقي. فما بين 10 و12 شارع كامباسير، يصيغ موديانو 10 جمل تكرارية مكتوبة؛ ستصبح هذه التكرارات تبعاً لوظيفتها في القصة، ذات إيحاء شاف بشكل مثير للغرابة. بالطبع، يمكننا أن نمنح أيضاً قيمة إحالية لأسماء الشوارع المذكورة. وبالرغم من ذلك، فإن نظرة أكثر شمولية لإبداع موديانو تبين أن هذه الأسماء هي أيضاً أسماء خادعة مثلها مثل التفسير التمثيلي الذي نظن أنها تسهم فيه. وفي أحيان أخري يكشف المؤلف النقاب بطريقة مباشرة إلي حد ما عن رؤيته الشاعرية لمكان من الأماكن. " حدائق الشانزيليزيه.. إنها بمثابة البركة المائية التي تستحضرها في ذاكرة كاتبة روائية إنجليزية، ترقد في قاعها، بفعل الطبقات المتوالية، أصداء أصوات كل المتنزهين الذين حلموا علي ضفافها. فالماء المتموج يحتفظ علي الدوام بأصدئه، وفي الليل الصامت، تختلط أصداء الأصوات بعضها ببعض. ذات مساء في عام 1942، بالقرب من سينما بياريتز، وقع والدي ضحية حادثة نشل من قِبل رجال مفتشي الشرطة شڤبالين وبروميو." يتعلق الأمر هنا ب "روائية"، لكن "الطبقات المتوالية"، "في قاع" "البركة" تكشف بكل وضوح مفهوماً موديانياً لعمودية الحكاية الشعرية. ونضيف كذلك، في حالة حدائق الشانزيليزيه، أن هذا المفهوم هو بالأخص مفهوم مكافئ. فالاسم في حد ذاته يستدعي "فضاء" سماوياً ويستفيد علاوة علي ذلك بفتنة عالمية الأثر. في نفس الوقت، الشاعرية " الإليزية" تمتطي هنا قباحة إجرامية وتاريخية: سرقات النشل، اعتقال الأب، السوق السوداء، التواطؤ مع العدو، إلخ. ليس فقط "ذات مساء من عام 1942" ولكن أيضاً كل الماضي الكريه لدي الأب يتمثل هنا. في الواقع، تتأسس تلك الآلية البنائية منذ " ميدان النجمة": عنوان رواية واسم مكان بريئان فقط ظاهرياً، لأنه كما نعرف، يتم تحريفهما بواسطة "تكثيف" الرضوض التاريخية. فمن خلال تحديد المكان، نلمس في الحال النقطة الحساسة في الجانب الأيمن الذي كان يمثل العالم الخاص لمقرات الجستابو الفرنسي. ثم في جولة ليلية يستثمر موديانو مرة أخري التاريخ بطريقته الخاصة، مؤسساً مركزاً مرعباً لأنشطة الشرطة الخفية وطبقة اللصوص العليا، في حديقة سيماروزا العامة. في الحقيقة، اسم أي مكان يوجد في الجانب الأيمن، كما هو حال شارع تيلسيت في رواية رحلة الزفاف أو شارع واشنطن في رواية سيرك ينتقل، يجمع منذ ذلك الحين الآثار الرضوضية لمذبحة اليهود. ومع ذلك، فإن الشاطئ الأيسر لم يعد بريئاً لدي موديانو بل ويحمل نفس النوع من التكثيف الشديد الدلالة، أي يحمل طيات متعددة (أو طبقات متوالية) من الذكريات المؤلمة. وغالباً ما تكون تلك الذكريات مرتبطة بالقصة الشخصية، أي بطفولة أو الشباب المبكر للشخصية الرئيسية. ومن الآن فصاعداً ستأخذ الضفة اليسري بشكل تحقيرياً تاماً:"مدة الدراسة" ستعني مدة الحبس، الإفادة بحالات الاختفاء التي تقع في روايات عن الصبية الشجعان جداً، تأجيل القصاص، زهور الدمار، دورا برودريه. مجتزأ من كتاب "حمل الرحال.. الشعر والأسطورة في إبداع موديانو" ننشره بإذن من المؤلف