"عندما نكتب فإننا نضطر أن نقوم بدور المشاهد والمستمع وأنا لا أقول المتلصص، ولكن يمكن أن نلمس الواقع كى يمكننا أن نراقب وأن نعيش فى الأجواء، وذلك بدلا من أن نرتبك عندما نضطر أن نقوم بدورنا". هكذا يقول صاحب نوبل الروائي الفرنسي باتريك موديانو الذي اعتبره النقاد من أهم الظواهر الأدبية منذ ظهوره عام 1968، ووصفوه بأنه الوحيد من بين المعاصرين الذى يمكن أن يعيد للرواية الفرنسية عظمتها منذ رحيل مارسيل بروست وألبير كامى. كانت بدايته مع رواية "ميدان النجم" التي نشرها وهو فى الثالثة والعشرين من عمره، حوالي 20 رواية هي حصيلة كتابات موديانو التي رشحته للفوز بنوبل. ينطلق موديانو في كتاباته من الشعور الإنساني الفردي بضعف الإنسان أمام الفوضى والعبثية في كافة المجتمعات، وفي مجمل أعماله الروائية يبحث عن صورة الوالد الغائب ويدعى "البير موديانو" وكانت مسيرة حياة هذا الأخير تضج بالأحداث الغامضة، فهو ولأسباب سياسية بقي متوارياً طوال حياته، ويحكي باتريك الابن عن اللقاءات الغريبة معه في الأمكنة العامة لعدم إثارة الشبهات حيث كان وبعد مرور سنة او سنوات على عدم رؤيته يجلس قبالته في أحد المقاهي او احدى محطات المترو كإنسان غريب ويتبادل معه الكلمات القليلة، حتى قرر الابن أخيراً وضع نهاية لهذه العذابات وفي السابعة عشرة من عمره وبعد لقاء شديد الغرابة والقسوة قرر انه سيكون اللقاء الاخير، وبعد سنوات سمع بموته في ظروف غامضة وهو حتى اليوم لا يعرف اين دُفن والده. رواياته تهتم بتجسيد معاناة الفرد الحديث الضائع في المدينة والعالم، لذلك اهتم فى رواياته بالأشخاص الذين يبحثون عن جذورهم الضائعة، عبر منظره الخاص، فهو يرى أن الحياة عبارة عن مجموعة من الصور القديمة فى صندوق الذاكرة، كاتب يتسم بالحنين إلى الماضي وجاءت أبطال رواياته لتعبر عن ذلك. أبرز رواياته التي عرفها العرب هي "شارع الحوانيت المعتمة"، و"سيرك يمر"، "محلب الربيع"، "بعيداً عن النسيان"، "مجهولات"، "الجوهرة الصغيرة"، "حادث مرير"، "مسألة نسب"، وفى مقهى الشباب" وغيرها من الرويات. ترجمت أربعة من روايته للعربية، إذ نشرت دار ميريت، طبعة عربية لرواية "مجهولات"، ونشرت روايات الهلال، روايته "شارع الحوانيت المعتمة"، ودار ضفاف أصدرت طبعة عربية من رواية "الأفق"، وصدرت طبعة أخرى مترجمة للعربية من رواية "مقهى الشباب الضائع" عن الدار العربية للعلوم. في روايته "الأفق"، كتب من وحى عذاباته الشخصية، إذ بدأت قصة بطل الرواية باحثًا عن وطن، وانتهى به المطاف باحثًا عن الحب، إلا أن الحب أجهض بفعل عوامل الزمن والحروب ومطاردة السلطان. هي قصة حب هائلة. البطلان في العشرينات من العمر يعربان عن ضياعهما في بداية الرواية وسط العاصمة باريس في مرحلة قلقة وماضية وهي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية: جان بوسمانس ومارغريت لوكوز يلتقيان وسط حشد في احدى ساحات العاصمة الفرنسية وهما يعيشان القلق والخوف من مطاردات معينة، كما هما يمتلكان احلاماًَ كثيرة لا يمكن ان تتحقق وسط مخاوف المرحلة. يقعان في الحب منذ لحظة لقائهما الاول، وكذلك منذ اللحظة الاولى يفهمان ان حبهما سيكون مستحيلاًَ. الحب الكبير والهائل ينقطع بطريقة فجائية في ظروف حياتهما لكنه يستمر داخل كل منهما، وبعد اربعين عاماً وحيث لم يعد يقوى جان بوسمانس على فراق مارغريت، يذهب للبحث عنها في مسقط رأسها علّها عادت الى هناك، وفي عملية البحث تختلط الأمور ويختلط الماضي بالحاضر وتختلط بداية الحب بفصوله الجديدة. فى روايته "شارع الحوانيت المعتمة"، بطل العمل يدعى "تال" ويعانى من فقدان الذاكرة، وامرأته "دينيز" اختفت بعد أن فقدت ذاكرتها هى أيضا، ويبحث البطل عن نفسه من خلال السفر إلى عدة بلدان يتعرف فيها على أشخاص آخرين وتزداد أحداث الرواية اشتباكا بهم. وتنتهى الرواية عندما يصل البطل إلى روما ويعرف هويته الحقيقية لكن "موديانو" لا يبلغنا بهذا الاسم ولا بهويته كأن المؤلف قد أنهكته رحلة البحث مثلما فعل بطله. وفي روايته "مقهى الشباب الضائع" سرد تفاصيل مقهى "كوندى" واجترار ذكريات هذا المكان. قدمت روايته "مجهولات" ترجمة رنا حايك، ثلاث لوحات نسائية، لثلاثة فتيات تائهات فى خضم هذا الواقع، يعانين الإهمال وصقيع الوحدة، والضياع فى غربة واسعة داخل النفس وخارجها، يمضين حياتهن فى ضياع، وافتقاد لكل معنى الألفة، والائتلاف العاطفى الإنسانى، نساء متوحدات، متوحشات يعشن فى انغلاق نفسى بعيد عن أى تواصل. الكاتب يعبر عن زهد الإنسان الحديث في الحياة، فيقول في إحدى رواياته: "الفارس الأزرق ليس لديه ما يُشغله الليلة. الفارس الأزرق حر الليلة. أعطنى رقم تليفونك .. أعطنى رقم تليفونك"، لنعرف بعدها أن الفارس الأزرق هو كناية عن الموت!. وقالت الأكاديمية السويدية في بيان إن موديانو كرم بفضل "فن الذاكرة الذي عالج من خلاله المصائر الإنسانية الأكثر عصيانا على الفهم".