الأدب النابع من الأصالة، أو لما لا نقول النابع من الألم، يفرض نفسه دائما في نهاية المطاف. والأدب يحتاج إلي وقت عندما يكون شديد الذاتية والتميّز. يتأمل باتريك موديانو، صاحب «شارع الحوانيت المعتمة» و»مدينة الحزن» وما يعرف باسم «ثلاثية الاحتلال»، كيف تترك كتبه بصمة غائرة في نفس القارئ. تدور الأحداث في كل رواياته تقريبا في باريس، وقد استحالت المدينة إلي شخصية روائية معقدة، بأركانها وأحيائها وميادينها التي توائم مشاعر الراوي، وشكوكه، وإخفاقاته البطولية. تنبض باريس موديانو، تقاسي، تتذكر. إنها نيجاتيف باريس «فيكتور هوجو» ذات الأنوار الساطعة. تَقاطُع تلتقي فيه حبكات دقيقة، ولقاءات خائبة تكشف عن الظلال شديدة الكثافة، وبصمته القوية بادية آثارها علي الذاكرة كالوصمة. شخصياته، حتّي أكثرها إبهاما وشحوبا، تفرض نفسها علي مخيلة القارئ، تاركة بصمتها علي الأحلام. والمناخ، الهالة المحيطة بقصصه كخيوط العنكبوت، يفرض سيطرته علي الحجة، علي الشخصيات، لينتهي به الحال وقد صار المادة الخام لأدبه، في رقصة باليه سردية نابعة من «كافكا». تتسم كتابة موديانو ببساطة الرخام المشغول إلي الحدّ الذي لا يبقي معه أدني أثر لخدش، بل يتلألأ فوقه بريق البرودة الحريري، برودة ثلاجة الموتي في بعض الأحيان. حديثه بصيغة المتكلم مقتضب، يتحدث بين السطور، يفصح عن نفسه عبر الصمت. والقارئ، المرفوض كدخيل في البداية، يأخذ في الدخول شيئا فشيئا، وكأنه ينبغي علي العينين اعتياد صور تبدو مجردة في بادئ الأمر. يعرف الكاتب الفرنسي بدقّة دائما في أيّ عضو من أعضاء باريس يضرب الألم. تأخذنا «حيّ ضائع»، الرواية الصادرة عام 1984، إلي شقة في ميدان «لا بلاس ديل ألما». نحن في انتظار أن تستيقظ «كارمن بلين». الراوي هنا مؤلف روايات إثارة، «أمبروز جيز»، العائد إلي باريس بعد عشرين عام من الغياب. في يوليو شديد الحرارة، تبدو له المدينة مهجورة وبالغة الصغر. ولا هو نفسه يعرف أنه جاء يتتبع ظلّ الشاب الذي كانه، وظلال أولئك الذين كان يراهم قبل أن تدفعه جريمة للهرب إلي إنجلترا. حينئذ كان يدعي «جون ديكير». وكان يتردد علي «كارمن» الهزيلة، وعلي «جيتا» المخلصة، وعلي «روكروي» المحامي. تسافر «جيتا» في رحلة وتترك له مفاتيح المنزل، حيث كانت تعيش مع «روكروي». وهناك يواجه «ديكير» الماضي، أي يعبر إلي الجانب الآخر من المرآة. وعلي هذا الجانب، غير الآمن، عديم الأهمية، العبثي فيما يظهر، تكمن مفاتيح هويته الضائعة. عن طريق «تان تان»، عامل السينما الذي يقوم كلّ ليلة بتتبع السيارة التي سيستقلها «ميلو» المختفي، يدخل إلي ذلك العالم الذي خاله قد مضي، إلّا إنه لا يزال هناك. «بدأت حياتي بخروج زائف»، يكتب. سقط في الدوامة من جديد عبر ذلك المخرج، القادر علي أن يمحو، بجرّة قلم، عشرين عاما من الهوية الناجحة كمؤلف ورب أسرة. من هنا ندخل إلي عالم موديانو. مكان حيث لا يمكن لأحد أن «يبقي»، ولكن في الوقت نفسه، لا أحد يملك إذنا بالخروج. مصيدة الحياة والأدب. نحن في انتظار أن تستيقظ «كارمن»، التي يحرسها كبير الخدم الغيور، أو أن تعود من ليلة لا تنتهي. نقطع مرة تلو الأخري، تحت أضواء أعمدة الإنارة، جادة «بريزيدون ويلسون»، جادة «مونتاني»، ميدان «بلاس ديل ألما»، منتزه «كور دو لا ريان». كلّ شيء حيّ ضائع، ليلي، مهجور فيما عدا تلك الشخصيات. دونهم، دون حبيبة «لودو» التي تعرضت للضرب، لا وجود لحياة «ديكير». وما إن يُستعاد الحيّ الضائع، لا يعود في مقدور مورفين الذاكرة نسيان كلّ شيء. باتريك موديانو كاتب الهجران. تبحث شخصياته عن الدفء الإنساني الذي حرمهم منه الماضي، فيتشبثون به بكل قواهم، بل ويحاولون في سبيلهم إلي ذلك «أن يجدوا الغموض حيث لم يكُن له أثر»، شأن الراوي في «أصيل النسب»، العمل الذي يُعدّ بمثابة سيرة ذاتية للكاتب. ومن رواياته «زهور الأطلال»، والتي تركز علي الهوس باكتشاف سبب انتحار زوجين في العقد الثالث من العمر. وكذلك رواية «كلب الربيع»، التي تعدّ بروفايل لمصور اختفي في المكسيك. يحتاج «جانسن» إلي التعبير عن الصمت عبر صوره. أما الشاب الذي ينظم أرشيفه، الأنا الأخري للكاتب، فيتفهم أن ما يريده هو أن «يخلق الصمت بالكلمات»، وأن يجعل علامات الحذف تتكلم. هجران، ألم، صمت: ذلك هو العالم الروائي البديع ل»باتريك موديانو».