تعد القاهرة من أعرق المدن علي مستوي العالم في كيانها التراثي الممتد لأكثر من ألف عام، فهي تحتفل هذا الشهر بعيد ميلادها الخامس والأربعين بعد الألف، فقاهرة المعز تعد رابع عواصم المسلمين بمصر بعد الفسطاط والعسكر والقطائع، أسسها جوهر الصقلي قائد جيوش المعز لدين الله الفاطمي، والذي دخل مصر بجيوشه وهزم جيوش الإخشيديين وضم مصر لملك الفاطميين، حينما دخل مصر مر بجيشه الذي قوامه مائة ألف جندي علي الفسطاط ثم العسكر فالقطائع، فترك كل تلك العواصم، واستمر مروره شمالا حتي بستان الاخشيدي، وهو بستان كبير جميل فأمر ببناء أسوار القاهرة، وبدأ ببناء الجامع الأزهر ليكون جامع عاصمة الفاطميين، وهو جامع بسيط جميل في أول عهده به محراب مزخرف بأجمل الزخارف الجصية وهي ما أتي بها الفاطميون وصناعها للقاهرة المدينة الوليدة، وله مجاز مزخرف بالجص يعد آية من آيات الفن، وكان له صحن كبير تشرف عليه أربع ظلات أكبرها ظلة القبلة والتي تقترب في مساحتها من مساحة الصحن، أما المنارة فلم نعرف شكلها وقت إنشاء الجامع وإن كانت من المرجح أن تكون كمثيلاتها بالمغرب والمعروفة باسم الصوامع، والتي هي عبارة عن برج مربع المسقط ذو شرفة عالية تنتهي بقبة صغيرة، ويقال إن السبب في اختيار اسم القاهرة أن المنجمين وضعوا أجراسا لتحديد منازل الكواكب لتسمية العاصمة الجديدة ليلا فجاء غرابا فهز تلك الأجراس فاستبينوا فكان منزل النجم القاهر، فكانت القاهرة، ويقال أيضا إنه كان اسمها المنصورة وأن اسم القاهرة أطلقه الحاكم لأمر الله، كلها اجتهادات ودراسات كثيرة لسبب الاسم وأصوله، وجعل جوهر للمدينة خمسة أبواب : النصر والفتوح وزويلة والقنطرة والخليج، وبني للخليفة قصران عظيمان الشرقي والغربي، بينهما ساحة عظيمة يستعرض فيها الخليفة جيوشه، ويمر بين القصرين الشارع الرئيسي بالمدينة ويسمي بالقصبة فكان شارع المعز لدين الله الذي نعرفه، وسمي بالقصبة لأنه يتكون من سلسلة متوالية من الأسواق التجارية، تلك الأسواق التي أجرها للعامة من المصريين وجعلها درة أسواق العالم، فكان يرتادها تجار المشرق الأقصي وتجار أوروبا، أما التجار فكانوا يأتون باكرا صباحا ليمارسوا تجاراتهم وبحلول المغرب ينصرفون، وتغلق أبواب القاهرة علي الخليفة وحاشيته وجنوده ويغادرها أهل مصر لبيوتهم، فكانت القاهرة في بداية إنشائها مدينة خاصة بالخليفة وعشيرته، مفتوحة للشعب بعض الوقت، ومنغلقة علي علية القوم بقيته، وتعد حارات القاهرة من علامات المدينة المميزة فكل حارة تخرج وتتفرع من القصبة تؤدي إلي الدور السكنية، ولها بوابات علي القصبة تعزل المنطقة السكنية الداخلية عن المنطقة التجارية الخارجية، وتعطي خصوصية للسكان، فكانت الحارات تغلق أبوابها بعد العشاء ولكل حارة فتوة يحميها وشيخ حارة يقيم العدل والحكمة بين سكانها، يلجأون إليه حينما يختلفون، فيقوم بينهم بالقسط والعظة والحكمة، ذلك الهيكل الديموغرافي وشكل الحارة ظل ساريا طوال تاريخ القاهرة حتي ظهرت الشرطة في القرن التاسع عشر، هذا بخلاف أن نابليون إبان ثورة القاهرة علي الحملة الفرنسية هدم كافة بوابات الحارات، التي كانت بمثابة حصون دفاعية ضده وضد قواته الاستعمارية، ولم يبق من تلك البوابات إلا بوابة حارة برجوان والتي أعيد إنشاؤها ضمن مجموعة سليمان أغا السلحدار، والتي أنشئت في عصر محمد علي بعد خروج الفرنساوية من بر مصر، ويتوسط الشق الشمالي من المدينة جامع من أجمل الجوامع في تاريخ المسلمين، وإن صغرت مساحته وهو الجامع الأقمر وهو أول جامع ذو واجهة حجرية دقيقة الصنع في القاهرة، وجامع الأقمر يعد قيمة فنية معمارية غير تقليدية، تفنن صانعه في جودة زخارفه وجلال نسبه، فأصبح مثالا يدرس في مدارس العمارة العالمية كنموذج من نماذج الجمال المعماري المثالي، وأتي بعد سنوات الحاكم بأمر الله وبني جامعه الكبير الذي جاوز الجامع الأزهر مساحة خارج القاهرة شمالا وزوده بمنارتين دقيقتين غاية في الروعة علي أركانه، فكان ثالث المساجد في القاهرة بعد الأزهر والأقمر. الشدة المستنصرية وبدر الجمالي وبناء البوابات الجديدة استمر الحال حتي عصر الخليفة المستنصر والذي استمر حكمه ستين عاما، والذي واجه أثناء حكمه شدة اقتصادية كادت تطيح بملكه استمرت سبع سنوات كاملة، روي المؤرخون حوادث قاسية، فلقد تصحرت الأرض وهلك الحرث والنسل وخطف الخبز من علي رءوس الخبازين وأكل الناس القطط والكلاب، حتي إن بغلة وزير الخليفة الذي ذهب للتحقيق في حادثة أكلوها، وجاع الخليفة نفسه حتي إنه باع ما علي مقابر آبائه من رخام، وتصدقت عليه ابنة أحد علماء زمانه وخرجت النساء جياعا صوب بغداد، وذكر ابن إلياس أن الناس أكلت الميتة وأخذوا في أكل الأحياء وصنعت الخطاطيف والكلاليب لإصطياد المارة بالشوارع من فوق الأسطح وتراجع سكان مصر لأقل معدل في تاريخها، وظهر القائد بدر الجمالي أمير الجيوش الأرمني الأصل، والذي استعان به المستنصر ابان الشدة التي أطاحت بالبلاد، فجاء فأصلح البلاد ووحد الجيش، ومارس اصلاحات عظيمة في العاصمة، وزاد في القاهرة شمالا وجنوبا، فأدخل جامع الحاكم في داخل الأسوار الجديدة وبناها بالحجر بدلا من الطوب اللبن وزاد في اتجاه الجنوب وأنشأ بوابات القاهرة الأشهر الثلاث الفتوح والنصر وزويلة وكانت آية من آيات البناء في القاهرة بعد أن كانت بالطوب اللبن، فقد بنيت البوابات الجديدة من الحجر الجيري الصلد وتفنن في زخرفتها، وكان قد استعان براهبين أرمن من الرها فبنيا تلك البوابات الثلاث تبعا للطراز الأرمني الجميل. الملك الصالح طلائع وبعد المستنصر بنحو مائة عام جاء الخليفة الفائز واستخدم الوزير الصالح طلائع بن رزيك الأرمني الأصل، وصار نفوذ الصالح عظيما حتي صار أقوي من الخليفة العاضد الذي تلي الفائز، والذي صار بينهما نسبا، وأراد الصالح أن يبني جامعا يضم فيه رأس الحسين حفيد الرسول صلي الله عليه وسلم بعد ما استقدمها من عسقلان خوفا عليها من الصليبيين، ولكن بعد ما بني جامعه خارج باب زويلة، آخر الجوامع الفاطمية ورابعها، حتي رفض الفائز أن يضع رأس الحسين به وأصر علي أن يكون بداخل القصر الشرقي، فأعّد له الفائز مشهدا خاصا داخل باب الديلم أحد أبواب القصر الفاطمي، وهو المشهد القائم حالياً، وبقي الجامع لا تقام به جمعة حتي صلي به السلطان عز الدين أيبك الجمعة بعد إنشائه بمائة عام، وهو جامع جميل دقيق الصنعة، يعد أول المساجد المعلقة في تاريخ المساجد الإسلامية، فقد كان يعلو مجموعة من المتاجر، وبه محراب جميل دقيق الصنعة ومنبر خشبي آية في الجمال شأن كل ما خلفه الفاطميون من فنون أدخلوها مصر وصار لها شأن وتراث عميق الجذور بعد ذلك، ولنا أن نتخيل أن من بين من شكل مدينة القاهرة منذ بداية إنشائها وطوال حكم الفاطميين وأكثرهم تأثيرا هم صقلي واثنان أرمن، جوهر الصقلي وبدر الجمالي والصالح طلائع والذين كانوا من السطوة والقوة والتأثير علي شكل الدولة والسيطرة علي الخلفاء وظهر لذلك انعكاس علي شكل العاصمة القاهرة. صلاح الدين وفتح القاهرة للعامة استمر الحال حتي تولي أمر البلاد الناصر صلاح الدين الأيوبي، والذي أزال ملك الفاطميين ومذهبهم الشيعي وأبطل الصلاة في الجامع الأزهر بمدرسته الشيعية، وأصبح المذهب السني الشافعي هو مذهب أهل مصر، ونقل مدينة الملك إلي قلعة الجبل جنوبا، وترك القاهرة مفتوحة للعامة، وضم للقاهرة العواصم الأخري فضم الفسطاط والقطائع وأنشأ سورا عظيما زاد فيه فاحتوي عواصم الإسلام بين جنباته، وزاد لها أبوابا فصارت ثمانية، ودمرت علي مر السنين القصور الفاطمية وبني علي أنقاضها المدارس والمساجد الفقهية فنجد المدرسة الكاملية بشارع المعز وهي أولي المدارس التي عنيت بتدريس الحديث والمذهب السني في القاهرة، وتبعها مدرسة الصالح نجم الدين آخر السلاطين الأيوبيين والذي مات في معركة المنصورة في مواجهة الصليبين، وترك لنا مدرسة عظيمة تبقي منها الآن نصفها ومنارة جميلة تقف علي باب المدرسة، وبعد أن مات بنت له أم ولده شجر الدر قبة وألحقتها بالمدرسة فكانت أول ضريح يلحق بمدرسة ومسجد في تاريخ العمارة الإسلامية، وكلا المدرسة والقبة مقامة علي أطلال القصر الشرقي الفاطمي والذي يمتد حتي الجمالية شرقا وجامع الحسين حاليا جنوبا. المماليك وإعادة تشكيل القاهرة بعد أن توفي الصالح نجم الدين والذي كان يكثر من شراء المماليك وحرص علي إنشاء جيش عظيم منهم، حتي تحقق لهم النصر علي جيوش لويس التاسع بالمنصورة وأسر بيبرس قائد المماليك البحرية لويس التاسع بطريقة مذلة، فأثناء اجتماع لويس التاسع بقواده في إحدي الليالي لدراسة موقف المعركة، دخل عليه بيبرس فجذبه من شعره وسحبه وسيفه في غمده لم يخرجه، وسط ذهول قواده الذين لم يستفيقوا إلا وسيوف المماليك مصوبة علي أعناقهم، وأسر لويس التاسع وأودع دار بن لقمان بدمياط، وافتدي نفسه بالمال وغادر البلاد ذليلا هو وجيوشه، في ذلك الوقت كان السلطان الصالح نجم الدين قد وافته المنية، وأخفت زوجته شجر الدر خبر وفاته عن الجيوش، واستمرت تحكم وتقود البلاد حتي تحقق النصر، فأعلنت بعده وفاة زوجها السلطان، فكان أن نادي بها المماليك لتحكم الدولة المصرية، فاستمرت في الحكم ثمانين يوما، حتي أتاها تهديد من خليفة بغداد والذي ذكر فيه "إن كانت مصر خلت من الرجال ليحكموها بعثنا من عندنا من يحكمها"، فاستقر رأي المماليك أن تتزوج شجر الدر منهم وكان عز الدين أيبك أول سلاطين المماليك، وما لبث أن قتلت شجر الدر زوجها حينما علمت بنيته الزواج من قريبة للخليفة، وعوقبت بالقتل علي الخازوق وتركت في المزبلة لعدة أشهر حتي نقل رفاتها لقبتها الجميلة قرب السيدة نفيسة، وانتقل الحكم بعد ذلك حتي وصل لسيف الدين قطز والذي لم يمهله العمر أن يترك معمارا في القاهرة فقد كان مشغولا بحرب التتار، حتي أجري الله النصر علي يديه في عين جالوت بفلسطين وكسرهم شر كسرة، وقتله ببيبرس البندقداري في طريق عودته للقاهرة آخذا بثأر أستاذه أقطاي والذي قتله سابقا قطز، واستقر الحكم للظاهر بيبرس الذي زاد في عمارة القاهرة الكثير فأنشأ مدرسته في بين القصرين وجامعا ضخما في الحسينية شمال القاهرة، خارج باب الفتوح كما أنشأ العديد من المباني منها ربع عظيم عند باب زويلة حتي سمي الشارع باسم تحت الربع نسبة له، وشهد حكم بيبرس إرساء الدولة المملوكية فجلب أحد من تبقوا من سلالة خليفة بغداد ونصبه خليفة للمسلمين وتولي هو السلطنة فكان للخليفة السلطة الدينية وللسلطان السلطة الدنيوية، وأصبحت الدولة المملوكية من وقتها دولة الخلافة، وأغني دول الإسلام علي مر تاريخه وأقواها، تلي حكم الظاهر بيبرس ومن بعده ابنيه، حكم المنصور قلاوون الألفي والذي زامل بيبرس وكان أحد أقوي أركان حكمه، وكان لقلاوون العديد من المنشآت أهمها البيمارستان والضريح والمدرسة والتي أنشأهم علي أطلال القصر الغربي الفاطمي فكانت أول مستشفيات القاهرة وأعظمها وسبقت مثيلاتها في أوربا بنحو ثماني مائة عام تقريبا، وكان للبيمارستان القلاووني أقسام عدة للعلاج منها عيادة للامراض النفسية وللجذام وللأمراض الجلدية والصدرية، ومن أغرب ما كان فيها أن الجناح الذي كان مخصصا للمرضي النفسيين كان يستأجر الموسيقيين ليعزفوا للمرضي بالكمان ليهدأوا، وقد أراد المنصور قلاوون أن يبين معماريا أنه شريك الظاهر بيبرس ولا يقل عنه في المرتبة، فبني مئذنته مقابل مئذنة مدرسة الظاهر وجعلها تناظرها في المعمار مساوية لها في الأبعاد، ليكون مناظرا لبيبرس حكما ومعمارا، وقد حكم بعد المنصور قلاوون أربعة عشر من أبنائه وأحفاده لقرابة المائة عام، فكان أطول حكم عائلة في دولة المماليك، ففي ظل حكم ابنه الأشرف خليل انتهت الحروب الصليبية للأبد وانتهت إلي غير رجعة. السلطان الناصر محمد بن قلاوون يعد الناصر محمد بن قلاوون من المعماريين العظام فعرف عنه حبه للعمارة، حتي إنه أنشأ ديوانا للعمارة أشرف عليه بنفسه ويقال إنه صمم مساجد وبيوتا عدة فكان ولعه بالعمارة له التأثير علي تشكيل المدينة الكبيرة، فأنشأ بها القناطر والتي تعرف بسور مجري العيون ليمد القلعة بمياه النيل ورفعها وجمعها في صهاريج ضخمة بالقلعة لخدمة الجيش وقت الحصار، وحدث أن ضرب القاهرة زلزال مدمر ضاعت في منارات عدة منها منارة مدرسة أبيه فأعاد إنشاءها كما في عهده أعيد إنشاء قمتي مئذنتي الحاكم بأمر الله، وتبع ذلك إصلاحات عدة في تخطيط القاهرة فربط العمران بين القلعة والفسطاط والقاهرة الفاطمية، وانشئت الأحياء والدروب بينها وحدث في عهده رخاء وسعة في الرزق انعكست علي دقة وجمال المباني التي انشئت وقته، وأنشأ مدرسة ببين القصرين لها مئذنة فريدة من أجمل المآذن المملوكية في دقتها وجمالها ونسبها، كما بني جامعا مجيدا في القلعة من أجمل ما بني نسبا وصنعة نراها جلية في مئذنته وفي مدخله، وامتد جمال المعمار فيمن خلفه من أبنائه، فبني ابنه السلطان شعبان مدرسة عظيمة لم يتبق منها اليوم شيئا، وكذلك ابنه بدر الدين حسن الذي أنشأ أجمل العمائر المملوكية قاطبة بل أجمل عمائر المسلمين إلي يومنا هذا مدرسة السلطان حسن والتي لم يتكرر بناؤها لا قبلها ولا بعدها، فأصبحت درة العمائر الإسلامية، لا يجاريها مبني في العالم الإسلامي بهاء ولا جمالا ولا صنعة، وقد عمر المماليك أكثر ما عمروا سكة الدرب الأحمر باب الوزير فنري عمائرهم تختلف عن شارع المعز لرحبة الأراضي وخلوها من الأملاك وقت بنائها بالدرب الأحمر، وظهرت تجلياتهم في حب المعمار وتذوقهم في مدارس ومساجد ووكالات ورباع جعلت من القاهرة درة العواصم وفخرها. برقوق والمماليك البرجية أسس السلطان برقوق دولة المماليك البرجية وبرع هو ومن خلفه في تطورهم المعماري فأنشئت المدارس العظام والجوامع الجميلة والوكالات الغنية، واستمرت الدولة غنية بل شديدة الغني وضمت لأراضيها قبرص وجزر عدة في المتوسط، ونري مدي الثراء في عظيم معمارهم فكثرت الخانات والرباع والوكالات، وامتازت مدارسهم بكثرة زخارفها ودخول تأثيرات الشام عليها كما نراها في خانقاته العامرة في النحاسين، وعظم معمارها ودقته، وكذلك خانقاة ابنه فرج في القرافة من أعظم المباني، التي كان لها من كل شيء اثنان فكان لها مدخلان وسبيلان وكتابان وقبتان ومنارتان، ونذكر لابنه أنه في زمنه بزغ نجم جمال الدين الأستدار الذي سمي شارع الجمالية نسبة إليه، فبلغ السلطان أنه يبني مدرستين في وقت واحد، فاستدعاه السلطان يسأله عن تفشي ثروته وكان ردا سياسيا من جمال الدين الاستدار أنه يبني للسلطان مدرسة من ماله الخاص، فاختار السلطان الزاوية الصغيرة قبالة باب زويلة لتكون رشوة ليبتعد مؤقتا عن جمال الدين الأستدار، ولكنه ما لبث أن قتله وصادر أملاكه ورسم أوقافه باسمه، وجاء من بعده المؤيد شيخ المحمودي الذي كان فرج قد سجنه في خزانة شمائل بباب زويلة، فلبث فيها فترة، وكان أن تملكت البراغيث منه ذات ليلة فنذر إن نجاه الله من السجن واستقر علي تخت الملك أن يحول هذا السجن إلي بيت من بيوت الله، وقد كان له ما أراد فأقصي فرج وقتله وانفرد بالحكم، ودانت له الدنيا فأنشأ جامع عظيما، جامع المؤيد شيخ، زوده بكل نفيس من الرخام والأخشاب واشتري له باب جامع السلطان حسن بخمس مئة دينار وأوقف للمدرسة عوضا عن الباب قرية قها بزمامها، وبني علي باب زويلة منارتين في منتهي الإبداع والجمال في صورة معمارية لقهره لفرج بن برقوق الذي تمثله زاويته الصغيرة أسفل باب زويلة، فكانت صورة معمارية تمثل انتصاره علي فرج خلدت هذا الحدث علي مر التاريخ، وجعل في الجامع عشرة آلاف كتاب من مكتبته الخاصة كما زوده بمثلها من كتب اشتراها من سائر الممالك فكان الجامع من أكبر المنشآت الدينية والثقافية في بر مصر، كما أنشأ بيمارستان عظيما كان أكبر مستشفي في زمانه وامتد من الحطابة الي ميدان الرميلة، وما بقي منه الآن إلا المصلي وصالة استقبال الرجال. وعمر المماليك القاهرة بأجمل المدارس والدور ونري في المعز تلميذ برقوق السلطان الأشرف برسباي ومدرسته العظيمة التي افتتحت يوم فتح قبرص، وكان للأشرف خارج القاهرة خانقاة عظيمة ناحية سرياقوس بالقليوبية. السلطان الأشرف قايتباي يعد من أقوي السلاطين سطوة وحكمة، وعرف عنه حبه للمعمار وتذوقه وممارسته كما كان الناصر بن قلاوون، وتشهد مدرسته وقبته في القرافة عبقرية معمارية غير مسبوقة ففيها قبة محارب من خمسة أحجار لا يدري أحد كيف بنيت، علاوة علي روعة الزخارف التي نحتت علي القبة في تحد هندسي رياضي عبقري، وكذلك مئذنته، كما بني عدة أسبلة ووكالات تبين مدي تطور الفكر والتصميم وقت حكمه، حتي إن العمارة الأوربية الحديثة استلهمت من وكالاته وتصميمها نظريات حديثة في الإسكان، وكان له أن أصبحت الدولة المملوكية أغني دول العالم قاطبة، ففيها تتم تجارة العالم في وكالتها بين تجار الشرق وتجار الغرب، وأصبحت مصر هي مركز التجارة العالمي ومحوره، مما أدي لانعكاس ذلك علي شوارع القاهرة والأنشطة التي تمارس فيها، وعلي عمائرها ومدي جمالها، فنجد المدارس التي تباري الأمراء في بنائها وهي تتلألأ وتزهو بين عمائر القاهرة، وخلفه الأشرف قنصوه الغوري الذي تولي الحكم وفي مصر كنوز لا تباريها كنوز حتي إنه من جشعه أخذ من التجار جمارك ثلاث سنوات مقدما، واستحدث بمصر نظاما إداريا قويا فكان لكل رجل صاحب صنعة ملف باسمه يسجل نشاطه، واستحدث جواز السفر بمصر في عهد المماليك لكثرة الوفود علي البلاد، فكان كل من يدخلها يسلم ورقة مكتوبة يقدمها حينما يخرج من البلاد، فتكون جوازا لسفره خارج مصر، فكان أن حاول الأوربيون الهروب من سطوة إدارته ونار جماركه فاكتشفوا طريق رأس الرجاء الصالح وحاربهم الغوري باساطيله عند بحر اليمن ولكنه لم يستطع منعهم من الوصول للهند، فكان لهم ما أرادوا، فكانت كلفة التجارة عن طريق رأس الرجاء الصالح أقل مئتي ضعف من كلفتها لو جاءت عن طريق مصر، هذا الأمر ومعه دخول العثمانيين مصر كان له التأثير السلبي علي اقتصاد مصر فانهارت اقتصاديا تحت وطأة الحكم العثماني وسلبه لخيراتها وخيرة علمائها وتركت مصر خاوية بعيدة عن ركب الحضارة ثلاثمئة عام، وكذلك عماراتها فكانت الجوامع التي انشئت في عهد العثمانيين ليست ذات الجمال كما كان عهد المماليك وأصبحت المساجد صغيرة قليلة الزخارف، تعكس قلة الزاد وفقر الاقتصاد. عبد الرحمن كتخدا والي عثماني عني بالمعمار في القاهرة وله العديد من الإصلاحات فأصلح عدة جوامع ومدارس كانت خربة وكانت له اليد الطولي في تشكيل واجهات شارع المعز بالأبلق فكانت إحدي علامات وحدة المقياس علي طول الشارع، كما عمر الجامع الأزهر وزاد فيه ضعف مساحته وأصلح قبلته، كما عمر مجموعة قلاوون ورممها وزاد فيها ما نقص وأعاد البيمارستان لسابق عهده وأنشأ واحدا من أجمل الأسبلة في القاهرة وهو المنسوب له ببين القصرين، ويقال إنه عمر وأصلح ألف بناية وزاد في وقفيات المباني والمدارس الكثير، فكان ثالث الولاة الذين اهتموا بالمدينة وعشقوا عمرانها بعد الناصر محمد والأشرف قايتباي. نابليون والحملة الفرنسية ما لبث أن احتل نابليون مصر واستولي علي القاهرة وبدأ بالتودد للمصريين ولما لم يفلح في ذلك قبض علي القاهرة بقبضة من حديد فثار المصريون وكادوا أن ينتصروا لولا تخاذل بعض المماليك ودنس نابليون الجامع الأزهر بخيل جنوده، وهدم بوابات الحارات التي كانت بمثابة قلاع حصينة استعصت عليه، فكان أن فتحت الحارات وأصبحت بلا حماية، ولكنه في ظل ذلك جعل علماءه يدرسون عمائر القاهرة فدرسوها ورسموها واستولوا علي جامع الظاهر بيبرس بالحسينية وحولوه لمعسكر كبير لهم نكاية فيمن أذل ملكهم لويس التاسع، كما استولوا علي أسوار القاهرة وقلاعها. محمد علي ونهضة الدولة واستلهام عمارة الأوربيين لم يلبث الفرنساوية كثيرا في بر مصر فعاد نابليون ومن بعده جنوده لأراضيهم، واختار الشعب محمد علي واليا علي مصر في أول اختيار حر لحاكم علي مر التاريخ، وأراد محمد علي لملكه الاستقرار والاستقلال فتخلص من المماليك بالقلعة في مذبحة شهيرة، ليبني جيشا عظيما، يغزو به أوروبا ويهدد به الباب العالي ويسيطر به علي اراضي الحجاز ونجد، ولكن الدول العظمي في العالم تجتمع عليه ويقيدوا حكمه في مصر والشام أولا ثم مصر فقط بعد ذلك له ومن بعده أولاده، ويستمر محمد علي محاولا اللحاق بركب التطور بأوروبا وينعكس ذلك علي عمائره التي تأثرت أولا باستانبول وبعدها أوروبا فنري أسبلته بشارع المعز وقصر الجوهر بالقلعة ومعماره الفخيم بجامعه العلامة أعلي القلعة الذي حاول أن يقلد فيه جامع السلطان أحمد في استانبول وتميز عنه ببنائه بالابستر المصري الذي يقال إنه استخدم أحجار جبل كامل في هذا الجامع، وظهرت في عصره المدارس الأهلية بصورتها الأوروبية ملحقة بأسبلته، واهتم بالشوارع والنظافة وكانت في عهده القاهرة تعود للحياة والازدهار مرة أخري بعد عصر من الاضمحلال، ولعل أجمل ما ترك هو كوشك الموسيقي بشبرا وبحيرته الصناعية والملحق بقصر شبرا الذي أزيل وقت الملك فاروق لعمل طريق القاهرةالاسكندرية الزراعي، كما غير محمد علي من بنيان القلعة فدك كل مبان المماليك ما عدا المساجد وردمها، وبني أعلي منها قلعة جديدة هي ما نراه الآن من مباني مثل دار الضرب وسراي العدل وقصر الجوهر وجامعه العظيم وبواباتها التي استحدثها بدلا من البوابات والاسوار السابقة أيام المماليك. اسماعيل والقاهرة الأوروبية "باريس الشرق" تولي من بعده بزمن حفيده اسماعيل مقاليد الحكم، وكان لاسماعيل رؤية حضارية حديثة، فقد تربي في باريس وواكب انجازات هاوسمان عمدة باريس في تخطيطها الحديث وتطويرها كليا لتكون عاصمة أوروبا الأولي، عاد اسماعيل وفي نفسه حلم عظيم أن يحول القاهرة إلي باريس أخري، فردم كل الترع والخليج المصري، وخرج غربا خارج القاهرة فأنشأ امتدادا عصريا علي أحدث تخطيط وقتها وشق الشوارع الواسعة وأنشأ الأوبرا المصرية وهي أول أوبرا خارج أوروبا، وجلب لها الفنانين والموسيقين، وفتح اقتصاد البلاد أمام الأجانب لتكون القاهرة مواكبة لأحدث الموضات والصيحات، وظهرت في عهده المسارح لأول مرة في مصر بصورتها الأوروبية مع تمصيرها، وتوسعت القاهرة وزادت رقعها المبنية حتي وصلت لضفاف النيل الذي أصبح مرودا بالقناطر فخفت حدة فيضانته علي القاهرة، وأصبحت مباني القاهرة لا تختلف عن بنايات باريس وأصبحت القصور الملكية تتفوق علي قصور أوروبا في الجمال والرونق. وعلي صعيد القاهرة كمدينة أصبحت جزئان شبه منفصلين القاهرة القديمة بحواريها وأزقتها والتي عزف عنها الأغنياء وطبقة الصفوة وبقي فيها ولاد البلد والتجار المحليين والعمال، وقاهرة أوروبية الشكل يقطنها الخواجات وعلية القوم المقربين من السلطة الحاكمة الذين يسيطر عليهم الشكل والمنهج الأوروبي في حياتهم، فنري عمائر أوربية ونوادي وبنوك وتطور الوضع عند دخول السيارات وأصبحت صور القاهرة لتلك المنطقة لا تختلف كثيرا عن أي عاصمة من عواصم الغرب، وتحورت الحياة بين شقين شق غربي صريح وشق شرقي تقليدي أصيل، وظهرت لاحقا من يدرس التراث الشرقي من الشق الغربي للمدينة وتحديدا الخواجات الذين وجدوا في عمارة الشرق جمالا غير مألوف، فأنشأوا لجنة حفظ التراث العربية التي رممت وأعادت الرونق لتراث القاهرة الإسلامي، بل جعلت منه تراثا جميلا بعد أن نالته يد الإهمال لقرون، واهتموا بتعميرها وصيانتها، وانتشرت القصور الكبيرة أمثال قصر عابدين وقصر النيل وما جاوره من سرايات للعائلة العلوية حتي وصلت إلي الزمالك، وظهرت الحدائق الأوروبية والمتنزهات مثل الأزبكية والأورمان ومن بعدها حديقة الحيوان والحديقة اليابانية بحلوان، وبعدها امتدت المدينة شرقا بمنطقة العباسية التي كان بها ثكنات للجيش الانجليزي وبعدها مصر الجديدة التي حاولت محاكاة شكل العمارة الإسلامية بالقاهرة الأصيلة وبشوارع واسعة، فأصبح لدينا عمائر أوروبية بكسوة عربية إسلامية، وامتدت العاصمة شرقا في تطور جديد في مناطق الزيتون وعين شمس والمطرية، وظل الوضع كذلك حتي حدث حريق القاهرة الذي اطاح ب700 مبني من مباني باريس الشرق وضاع فيه العديد من المباني الجميلة التي كنت تراها في القاهرة الحديثة. الثورة قامت الثورة المصرية في يوليو 1952 والتي تبنت الفكر الاشتراكي القومي وظهر جليا من خلال تطور العمران تجاه الأفكار الاشتراكية، فأنشئ حي مدينة نصر وبه من المباني السكنية العملاقة التي بنيت علي مبادئ الاشتراكية في السكن فظهرت البنايات ذات المئة مسكن والمئتين، وواكبها تطور ثقافي في نفس الاتجاه، فانفتحت مصر علي الفكر الاشتراكي والشيوعي والكتلة الشرقية، واتجهت السياسة لتشجيع قولبة المساكن الاقتصادية، وظهرت عمائر كثيرة بلا روح ولا جوهر، مجرد قوالب مستطيلة لسد حاجة الناس من المساكن، خالية من الجمال والرونق، واصبح الجمال مفقودا في ظل رؤية سطحية ومادية للمدينة، فبعد أن كانت القاهرة تتنازع بين فريقين فريق أوروبي وفريق قاهري، اصبحت مدينة لا شكل لها ولا قيمة نفقد كل يوم من كلا التراثين الكثير. فما خلفه حريق القاهرة من تدمير لم يتم ملئه إلا بمبان عالية لا علاقة لها بقيم الجمال ولا العمارة، علاقتها وطيدة بقيم الكسب السريع والغناء الفاحش بلا عقل ولا ضمير، حتي أصبحنا نصيح ونصرخ من أجل الإبقاء علي مبني أو أطلال مبني فيه بعض لمسات الجمال الذي نفقده الآن. تدهور الوضع سريعا في الثمانينيات حتي وجدنا جراجا للسيارات قبيح الشكل والتكوين يرتفع مكان أول أوبرا خارج أوروبا، حتي وجدنا احدي عشرة محطات سكك حديد تفقد رونقها وتراثها ويحتلها معمار يفتقد للجمال من البلاستيك والاشكال الساذجة التي دنستها وضيعت تاريخها، لا يختلف كثيرا ما حدث في الأوبرا أو محطة مصر عن العشوائيات التي تحاصر المدينة في داخلها وخارجها، والتي أصبحت كالسرطان الذي يضغط علي أوردة المدينة حتي اقترب من قتلها بكل ما يحمله من قبح وخراب وتدمير للذات الآدمية التي تعيش فيه، لقد أصبحنا كل يوم نفقد جزءا جميلا من مدينتنا ونكتسب تلالا من الدنس والقمامة والقذارة التي تدنسها، في غياب وعي إداري من أكثر من أربعين عاما من التكاسل والتغلغل في الفساد المادي والفني والانحطاط الثقافي الذي سيطر علي واحدة من أجمل العواصم "سابقا" في العالم ففي عام 1950 حصلت القاهرة علي أجمل عواصم المتوسط متفوقة علي فرنسا ومدريد وروما وففي هذا العام منذ شهور حصلت علي سادس أسوأ عاصمة علي مستوي العالم من حيث العمارة والنظافة والطرق والمواصلات. القاهرة في عامها الخامس والأربعين بعد الألف في حاجة إلي مخطط سريع ليس لإنقاذ ما تبقي من جمال فقط بل لإيقاف الدنس المعماري الذي سيطر عليها بلا وعي ولا ضمير ولإعلاء لقيمة جميلة تضيع جزئيا كل يوم.