كشفت »عايدة« شقيقة جابريل ماركيز عن موهبة كبيرة في عالم الكتابة من خلال كتابها "جابيتو: الطفل الذي حلم بماكوندو" عام 2013، من خلال هذا العمل تكشف عايدة عن جوانب خفية من حياة صاحب نوبل الكولومبي الراحل: كانت حياة (جابيتو) وهو اللقب الذي أطلقته العائلة علي جابرييل جارثيا ماركيز، والذي اختصره رئيس تحرير جريدة الاسبكتادور الكولومبية إلي جابو، في منزل جده، بمثابة فصل متفرد يضم كل ما حدث بهذا المنزل الملئ بالذكريات. فقد تجلت ملامح شخصيته وارتسمت أمارات عبقريته المبكرة من خلال عدة ممارسات بعينها مثل ألعابه وطريقته الخاصة في إعادة إفراز كل ما تمكن وعيه وحواسه من إدراكه، كما سنري فيما بعد. خيال أم واقع ظلت عواطف ومشاعر جابيتو في حالة تشكل مستمر. ذات مرة استحضر بشكل حدسي أداء شخصية الجنرال أوريبي أوريبي، بينما ظلت الشخصية طول الوقت في عقله: "الجنرال في متاهته". "من نافذة مكتب الجد سمعت صوتاً معدنياً شديد التطابق مع الشخصية، في نفس الوقت الذي كانت فيه الجدة تعلمني تقليم زهور الحديقة. أهمّ رجل في الكون ، قالت لي بدون اندهاش. لم استطع مقاومة الإغراء فأسرعت عدواً إلي المكتب لكي أراه، وحين رأيته متمدداً علي مقعد الجد، كان جلده مدبوغاً من تأثير شمس الحروب التي خاضها، بشوارب شديدة السواد طرفها مبروم بعناية، وعيني قط جبلي. كان يرتدي ثياباً من الكتان ناصع البياض، وينتعل حذاء مرتفعاً مماثلاً لذلك الذي كان يرتديه جدي منذ حرب الألف يوم، إلا أن أكثر شئ أثار انتباهي منذ الوهلة الأولي كان الحضور الطاغي لصوته المعدني. حين رآني أدخل، تأهب جدي ليحذرني عند أول وقفة، لكن لم يكن هذا ضرورياً. وضع الزائر، بدون حتي أن ينظر إليّ، يده علي كتفي، وظل هكذا حتي انتهي من سرد حكايته الخيالية، بينما شعرت برعدة حمي تسري في جسدي، لم ينقذني منها إلا صوته المعدني، والذي أخذت أتذكره دائما ليأخذني حيث أعيش بلحمي ودمي في عالم الحكايات والحروب الخاسرة التي كان يقصها علي جدي، كما ساعدني علي بناء (شخصية الزائر الذي لا ينسي)". "في ختام مرحلة المدرسة، كان عليّ مواجهة حقيقة هذه الزيارة التاريخية، التي سمعت الجد يتحدث عنها طوال مرحلة طفولتي. لا يمكن أن تكون شيئا آخر سوي اختراع من نسج خيالي، حينئذ اكتشفت بالصدفة أن الجنرال أوريبي أوريبي، لم يزر بيت جدي سوي مرة واحدة في نهاية حرب الألف يوم، وأنه قتل بضربة فأس في مدخل مبني البرلمان، قبل مولدي بأربعة عشر عاما". تجلياته الأولي كل التأثيرات التي تلقاها جابيتو منذ طفولته، تشكلت سريعا في عقله ذي الإدراك المبكر، لتساعد في بناء عالم ماكوندو الخيالي الفذ. هذا ساعده سواء في طفولته أو في مرحلة المدرسة الابتدائية علي أن يكون القائد بين أشقائه في المنزل، وبين زملائه في المدرسة. أفضل الأماكن التي استعرض فيها هذه المهارات كانت فناء منزل الجد، ومنزل صديق طفولته فرانكو إيريارتي، ممر أشجار البيجونيا المشمس خلف منزل آل كوريا جارسيا، حيث كان جابيتو دائما يلعب دور الزعيم والقائد. جابيتو، مخرج سينمائي غرس فيه الجد حب السينما، وكان يصحبه معه لمشاهدة الأفلام التي تناسب مرحلته العمرية. فكان يقلد هذه الأفلام: في البداية يقوم بكتابة النص أو السيناريو. كان يرسم الشخصيات علي ورق دفتر مربع يقسم صفحاته إلي مربعات، ويقوم بترقيمها، متبعا نسق الفيلم أو القصة التي يريد تقديمها، وهو ما يعكس ولعا مبكرا بالخيال وخاصة في عالم الفن السابع كوسيلة للتواصل. فنان كوميكس ربما كان المسئول عن تحفيز هذا الجانب في شخصيته، الأم لويسا سانتياجا، التي كانت تقرأ لنا منذ نعومة أظفارنا القصص المصورة التي كانت تصدر يوم الأحد، ثم تقوم باستجوابنا لتتحقق مما استوعبناه منها. كان من بين هذه القصص واحدة بعنوان "كن قاضيا"، وحين كانت تسألنا عن حل اللغز أو من كان علي حق، كان جابيتو يعطيها دائما الإجابة السليمة، ثم يقوم بعد ذلك بتصميم قصص من نسج خياله ويلونها بأسلوب جيد. جابيتو رسام كاريكتير كان يقوم بعمل رسوم لنا، مبرزاً أكثر تعبير مميز في كل واحد منا سواء كان البكاء، الغضب، الدهشة أو الابتسام. التكهن بأحوال الطقس ورسم أوراق اللعب كانت الجدة ترانكيلينا تقول إن الأيام الاثني عشر الأولي من العام (شهر يناير) تتجلي فيها كيف سيكون حال الطقس خلال كل شهر من شهور العام الاثني عشر. فمثلا إذا جاء اليوم الأول من يناير محملاً بالرياح، فهذا يعني أن شهر يناير ستنشط فيه الرياح، أما إذا أمطرت في اليوم الخامس، فهذا يعني أن شهر مايو سيكون مطيرا، وإذا كان الرابع من يناير ملبدا بالغيوم فهذا معناه أن إبريل سيكون علي هذا الحال. كان جابيتو يقوم برسم تنبؤات أحوال الطقس المختلفة علي أوراق اللعب بأسلوبه هو، فمثلا إذا جاء الثالث من يناير محملا بالرياح، فإنه يرسم علي الورقة الخاصة بشهر مارس أطفالا يلعبون بالطائرات الورقية. جابيتو مصورا فوتوغرافيا اعتاد أن يقول لأصدقائه: لوتشو، جوييو، لا تتحركوا قفوا مكانكم فسوف ألتقط لكم صورة. كان يقف فوق منضدة ويغطي رأسه بخرقة سوداء، مقلدا حركات المصور الفوتوغرافي، مشعلا المصباح ثم يطفئه، ثم في الحال يقوم برسم صورة للصديق ويقدمها له علي أنها صورة فوتوغرافية. كان شديد الولع بلعبة المصور، حتي أنه بعد العام الأول من الدراسة في بارانكييا، وكانت الأسرة وقتها تعيش في سكوري، وحين عاد في ديسمبر، قام بتشييد معمل بسيط لتحميض الأفلام في حمام الطابق الثاني من المنزل، كما جهز حجرة مظلمة لهذا الغرض. وكان شقيقه لويس إنريكي يشاركه الولع بنفس الهواية، وحين كبر واستقل بحياته في كارتاخينا، كان أول شخص في المدينة يقوم بتحميض وطبع الصور الملونة. جابيتو رسام إعلانات كان هناك محل اسمه (الطوكيو) يحتل ناصية شارع سانتانا بين شارعي توباسيو والوندرا، حيث كانت تقطن أسرة جارسيا ماركيز عام 1938. في ذلك الوقت كان جابيتو لا يزال طفلا في الحادية عشرة من عمره. كان لقب صاحب المحل يشي بأصول إسبانية، وقد طلب من جابيتو أن يصمم له إعلانا لبيع الآيس كريم. وبدون تفكير قام ماركيز برسم صاحب المحل وأمامه طفل بيد ممدودة وهو يقول: "بابي اعطني سنتيما لأشتري آيس كريم". من فرط ذكائه رسم الأب وهو يمد يده في جيبه علامة علي الاستجابة لطلب ابنه. جابيتو رسام هذا الملمح من شخصية شقيقي الأكبر يكاد يكون مجهولا: رسم كتيباً كاملاً يضم زهوراً ونباتات وشخصيات خيالية مرحة للأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة. ظلت فالنتينا جارسيا، إبنة عمي إليسير، شقيق جدتي ارخميرا جارسيا، تحتفظ بهذا الدفتر الذي رسمه جابيتو بالريشة والحبر الشيني - ذلك كان خطاطاً بارعاً، وهو ما يظهر من خلال الدفتر الذي كان ينسخ فيه الأبيات التي كانت تعجبه لعدد من الشعراء المعروفين. يقولون أن من يحن الخط يكون لديه الاستعداد الفطري لأن يكون رساماً. وكان جابيتو مولعاً بالرسم لدرجة أنه كلما كانوا يطلبوا منع اتوجراف كان يرفقه برسم زهرة. وكان يوقع إهداءاته لزوجته علي النحو التالي: إلي ميرسيدس، زهرة لكي تضعها في الزهرية علي مكتبي، ويرسم لها زهرة جميلة تعبر عن كل هذا الحب. جابيتو عاشقا ومخرجا مسرحيا اعتادت مدينة اراكاتاكا ان تستقبل في الأعياد والمناسبات الدينية والدنيوية فرق مسرح شعبي وسحرة وفرق سيرك. وكان الجد يتحين تلك الفرص لكي يصطحبنا لمشاهدة هذه الأحداث. بعد انتهاء الحدث، يقوم جابيتو واشقائه الثلاثة الصغار وشلة رفاقه بنصب مسرح في فناء منزل الجد، أو منزل الجد أو في ممر البيجونيا بمنزل كورييا جارسيا. كان جابيتو يصمم اللوحات الإعلانية لهذا المسرح، ويقوم بعمل الدعاية اللازمة لكل فقرة. كان يبرم قطعة كارتون علي شكل هورن لينادي علي المشاركين في العرض علي إيقاع موسيقي مرتجلة تصدح بالقرع علي علب معدنية فارغة. كان يقدم الممثلين المتخيلين بثياب لامعة، وفي نهاية العرض يقدمهم واحدا واحدا لجمهور الأطفال. كان من يقلدون لاعبي الاتزان بعمل دورانات علي مناضد نصبت بشكل مرتجل وكيفما اتفق، وحتي لا يتأذي أحد كان يضع وسائد أسفل المنضدة وأجولة القطن. فريق الفنانين كان يضم كلا من: أليسيا وأميرة جونزاليث، نيللي كورييا، مارجو وعايدة جارسيا. كان يضع لنا ريشا من ورق، وكنا عقب انتهاء العرض نطوف بأرجاء المنزل لتلقي التحية من الجمهور، الذي كان عبارة عن جيراننا وزملائنا في المدرسة. جابيتو ساحرا كان ريتشاردين ساحرا جوالاً شهيراً، يقدم عروضه في العديد من القري أثناء الموالد والأعياد. ولما كان جابيتو شديد الملاحظة، فقد تعلم العديد من الحيل من هذا الساحر، مثل إخفاء المنديل أو مضاعفتها. كان الساحر يخرج من القبعة ريشا، ولكن جابيتو لم يتمكن مطلقا من اكتشاف سر هذه الحيلة. لأداء إحدي فقرات الساحر قام جابيتو بالآتي: التقط بضع ثمار جوز الهند من فناء مركز الشرطة بالبلدة، كانت لا تزال تحتفظ ببعض أليافها وأوراقها، ثم وضع عليها بعض الأقنعة من تصميمه وشعر مستعار، ثم يضع وسائد علي منضدة في هيئة شخص راقد، ويضع ثمرة جوز الهند كما لو كانت رأسه. ثم يحضر زجاجة صبغة حمراء، ويتظاهر بأنه يقوم بقطع رأس الشخص الراقد علي المنضدة بالسكين ويسقط الزجاجة ذات السائل الأحمر علي الأرض في اللحظة التي يهوي بها بالسكين علي الدمية، وبعد ذلك يرفع الرأس المزيف من الشعر المستعار، مستعرضا له وهو مخضب بالدماء، وسط تصفيق الحاضرين بالساحر الصغير. ذات مرة لجلب ثمار جوز الهند طلب من نيللي أن تتسلق النخلة في منزل آل كورييا، وبعد أن جلبتها لم يتمكن من إنزالها فأخذت المسكينة تصرخ في استغاثة من أعلي. جابيتو الساحر يخفي طفلة في محاولته لتقليد الساحر ريتشاردين، كان يستعين بنا أميرة واليسيا وعايدة وروزا لعمل حيله السحرية. علي مقاعد متراصة علي هيئة مسرح كان يضع صندوقين متماثلين متلاصقين من الكارتون، مثلما كان يفعل الساحر علي مسرح أوليمبيا. كان يقدمون أليسيا أولا وتقوم بتحية الجمهور كما يجب، ثم تدخل الصندوق بسرعة ومنه تنفذ إلي الصندوق الآخر. ثم يتناول جابيتو المنشار ثم يبدأ في فصل الصندوقين عن بعضهما، ثم يفتح الصندوق الأول ويستعرضه أمام الجمهور ليبدو خاويا ثم يفتح الثاني حيث تكون الفتاة قد اختفت خلف الستار، ويصفق الحضور بحرارة وحماس لبراعة الحيلة. جابيتو شماس مستغلا معارفه المتنوعة والمبكرة ساعد جابيتو القس في أكثر من مناسبة في مراسم تعميد كلا من ليخيا و جوستابو جارسيا ونورا جونزاليس، كما شارك مرة في مراسم زفاف أحد أفراد الأسرة. جابيتو فارسا وهميا كان جابيتو ينظم مع أصدقائه في المدرسة سباقات عقب انتهاء اليوم الدراسي، كانوا يبدأونها من شارع يعرف الآن باسم (مونسنيور اسبيخو) حتي مركز الشرطة ممتطين خيولا وهمية من عصي المكانس المربوطة بحبال علي هيئة لجام. كانوا يعدون كالممسوسين حتي الوصول إلي هدفهم، وكان جابيتو يكافئ الفائز، ثم يذهبون للراحة من عناء اليوم الشاق. جابيتو مطربا منذ صغره حرص علي أن يعرف والدتي بالاسطوانات التي يحبها، حتي قبل أن يعرف القراءة والكتابة، كان يشير بإصبعه ويقول: راا مو نا. قبل أن يتوفي جدي، ذهب إلي سينسيه (30 كلم جنوب سوكري) مع لويس إنريكي. أما جابرييل وإيليخيو فقد اصطحبهما أبي إلي عرس الخالة نارسيسا، هناك أراد أن يعرف إلي أي حد يجيد ولديه أداء أغاني مطرب التانجو الشهير كارلوس جارديل. رفعهما علي منضدة، وبدأ جابيتو الغناء بصوت واضح منغم وأداء جيد، حين انتهي، هبط شقيقه من علي المنضدة، ورفض الغناء وأخذ يجري حتي ساحة البلدة. منذ هذا الموقف أصبح جابيتو المطرب المعتمد في المناسبات وحفلات أعياد ميلاد الجيران. ذات مرة في بارانكيا كانوا يحتفلون بعيد ميلاد أحد افراد عائلة دوران، في شارع سانتانا، فأجبر جابيتو جميع الجيران علي المشاركة بالغناء. عندما تم تدشين محطة إذاعة كامتشاو إي كانو في بارانكيا، ساعدها جابيتو بشكل كبير، حيث قام بتصميم إعلانتها وتوزيعها، وكان يطوف بعربتها في القرية معلنا عن تشغيل برامج الإذاعة في القرية. جابيتو ينشد السلام عليك يا مريم: كان ذلك في مدرسة زيباكيرا، حينما كان جابيتو في العام الثاني من البكالوريا، حينما أنشد "السلام عليكِ يا مريم" للموسيقار النمساوي فرانز شوبرت. عندما سافر إلي بوجوتا لأول مرة عبر نهر مجدالينا، تعطلت المركب، فقام بتسلية الطاقم بأداء أغاني البوليرو الشهيرة في تلك الفترة بأسلوب بارع، وعندما وصل إلي العاصمة الكولومبية، تعرف عليه مدير المنح في الصف المتقدم لأداء الاختبار لنيل المنحة، فأخرجه من الصف وأخبره أنه لم يعد بحاجة لأداء الاختبار، لأنه عرف من مهارته وخطه البديع وأسلوب كتابته أنه جابيتو وأنه نقل منه بعض أغاني البوليرو أثناء سفرهما معا علي ظهر نفس المركب. وهكذا حصل جابيتو علي منحة ليسيه زيباكيرا الوطني، وهو في الصف الثاني من البكالوريا.طوال حياتها، وبوفاتها آل الدفتر إلي حفيد عمي، الدكتور باتريثيو جارثيا. علاوة علي