1 ماكوندو، وفقا لكارلوس فوينتس، "تبدأ في التنامي مع ثراء يوكناباتاوفا الكولومبية". فوكنر - الذي يتقاطع معه كافكا - هو الأصل الأدبي لجابرييل جارثيا ماركيز. التأثير الفوكنري منتشر جدا في أوقات يسمع فيها المرء جويس وكونراد؛ أستاذا فوكنر، اللذين نسمع صداهما عند ماركيز، إلا أن فوكنر غالبا ما يتوسطهم دوما. فوكنر يغزو "خريف البطريرك"، ولكن "مائة عام من العزلة" تمتص فوكنر، كما تفعل مع كل التأثيرات الأخري، نحو فانتازماجوريا قوية ومكتفية بذاتها جدا حتي أن القاريء لا يتشكك في سيطرة ماركيز. ربما، كما أشار رينار آرجاس، أن كاربينتير حل محل فوكنر، وبورخيس حل محل كافكا في "مائة عام من العزلة"، بالتالي مخيلة جارثيا ماركيز تروض نفسها بلغتها. ماكوندو، المملكة المتخيلة هي فعل وعي هندي وأسباني، بعيد جدا عن أوكسفورد والميسيسيبي وعن المقبرة اليهودية في براج. في عمله التالي، عاد جارثيا ماركيز إلي فوكنر وكافكا، بالتالي "مائة عام من العزلة" هي معجزة لا يمكن أن تحدث سوي مرة، حتي لو كانت أقرب لأن تكون نصا مقدسا منها لرواية، كتاب ماكوندو المقدس؛ ملكيادس الساحر، الذي يكتب بالسنسكريتية، ربما يكون قناعاً لبورخيس أكثر منه للكاتب نفسه، إلا أن الحكاء الغجري أيضا يربط جارثيا ماركيز بالحكاء العبري القديم، اليهودي، وفي الوقت نفسه بالواقع الأعظم والخيال الأعظم، ولكن ماركيز فوق كل شيء هو المنافس الحقيقي الوحيد لهوميروس وتولستوي كحكائين. انطباعي المبدئي، أثناء إعادة قراءة "مائة عام من العزلة" هو نوع من إجهاد المعركة الاستطيقية، طالما أن كل صفحة مفعمة بحياة كاملة فيما وراء قدرة أي قاريء واحد علي امتصاصها. سواء كانت السمة المترابطة لنص هذه الرواية هو في النهاية ميزة أم لا أنا لست متأكدا - فأنا أشعر أحيانا أنني شخص مدعو لغداء لا يُقَدَّم فيه شيء سوي طبق ضخم من الملبن. إلا إنها ليست سوي قصة، كل شيء فيها منقول وغير منقول يحدث في الوقت نفسه، من الخلق وحتي الأبوكاليبس، من الميلاد إلي الموت. مضي روبرتو جونزاليز إتشيفاريا بعيدا حتي تكهن بمعني ما أنه القاريء هو الذي يجب أن يموت في نهاية القصة، وربما الثراء الكبير للنص يساعد علي تدميرنا. تصور جويس بدون جدية قارئا مثاليا مصاب بالأرق سيقضي حياته في فهم "يقظة فينجان". القاريء لا يحتاج لترجمة "مائة عام من العزلة" وهي رواية تستحق شعبيتها طالما لا تحتوي علي صعوبات ظاهرة علي أي حال. إلا أن هناك بعدا جديدا مضافا للقراء بهذا الكتاب. قارئها المثالي يجب أن يكون شخصيتها الأكثر تذكرا، كولونيل أوريليانو بوينديا الغاضب المتعالي الذي "بكي في رحم أمه وولد وعيناه مفتوحتان". لا توجد جمل بلا قيمة، لا توجد مجرد انتقالات في هذه الرواية، وعليك أن تلاحظ كل شيء في اللحظة التي تقرأها. كل شيء سيتماسك، علي الأقل الأسطورة والمجاز إن لم يكن دوما المعني الأدبي. في حضور واقع غير عادي، يأخذ الوعي مكان المخيلة؛ البديهية الإمرسونية هي بديهية والاس ستيفنز وتستحق الرؤية ل "ملاحظات نحو سرد راق" و"مساء عادي في نيو هافين". ماكوندو هي سرد راق، ولا توجد أمسيات عادية بداخل حدودها. السخرية وحتي التهكم ومعظم الخيال هي أشياء من الصعب أن تكون ممكنة في الولاياتالمتحدة. كيف يمكن السخرية من رونالد ريجان أو ليري فالويل؟ رواية بينشون "صيحات مزاد 49" تتوقف عن أن تبدو خيالية عندما أزور كاليفورنيا الجنوبية، في عرض يأخذ شكل المثال. بعض الجوانب في الوجود الأمريكي اللاتيني يتعالي حتي عن ابتكارات جارسيا ماركيز. قيل لي من أناس ثقات، أن دوفالييه الكبير ديكتاتور هاييتي، الشهير ببابا دوك، أمر بإبادة كل الكلاب السوداء عندما اعتقد أن عدو أساسي له حَوَّل نفسه إلي كلب أسود. معظم الرائع في "مائة عام من العزلة" سيكون رائعا في أي مكان، ولكن الكثير مما يبدو غريبا أمام ناقد من أمريكا الشمالية ربما سيكون تمثيلا للواقع. أكد إمير مونيجال أن عمل جارثيا ماركيز الأساسي كان فريدا وسط روايات أمريكا اللاتينية، كونه مختلفا جذريا عن الإنجازات المتنوعة لخوليو كورتاثر، وكارلوس فويتنس، وليثاما ليما، وماريو بارجاس يوسا، وميجيل آنجل أستورياس، ومانويل بويج، وجيليرمو كابريرا إنفانتي، والعديد من الآخرين. القرابة بين بورخيس وكاربنتيير ملحوظة عن طريق مونيجال إلي جانب آريناس، ولكن نقطة مونيجال الديالكتيكية بدا أن جارسيا ماركيز يمثلها فقط بمشاركته لكل زملائه بعدم كونه يمثلها. إلا أنه الآن من الحقيقي، لمعظم قراء أمريكا الشمالية أن "مائة عام من العزلة" تُستدعي إلي الذهن أول شيء عندما يفكرون في الرواية الأسبانية في أمريكا. رواية آليجو كاربنتيير "انفجار في كاتدرائية" ربما يكون كتاب أقوي حتي، ولكن بورخيس فحسب سيطر علي المخيلة الأدبية في أمريكا الشمالية كما فعل جارسيا ماركيز بخياله العظيم. من المحتم أن قدرنا أن نطابق "مائة عام من العزلة" بثقافة كاملة، غالبا وكأنها "دون كيخوته" جديدة، هذا الأمر غير الصحيح بالتأكيد. المقارنات ببالزاك وحتي بفوكنر هي أيضا ليست عادلة بالنسبة لجارسيا ماركيز. الابتكار العظيم لبالزاك يصغِّر الرؤية اللاحقة، ولا يوجد شيء حتي في ماكوندو بقدر التعالي السلبي كالسعي المخيف لآل بوندرين في رواية "وأنا أستلقي ميتا" لفوكنر. "مائة عام من العزلة" في قامة أعلي من رواية نابوكوف "اللهب الشاحب" وبينشون "قوس قزح الجاذبية"؛ الخيالات المتأخرة، الوارثون الأقوياء للتقاليد الذاوية. بغض النظر عن ما يمكن أن تكونه الحدود أو لا تكونه، سرد جارثيا ماركيز الآن يتمتع بوضع مرجعي إلي جانب وظيفة تمثيلية. وضعه الثقافي يستمر في التدعيم، وسيكون من الحمق أن نختلف علي ظاهرة كبيرة كتلك. أتمني أن أتحدث إلي نفسي فقط عن سؤال أي مدي من الجدية يحتاجه القاريء لتلقي الجانب المقدس للكتاب. جملة الرواية الثالثة هي: "العالم حديث جدا حتي أن الأشياء كانت تنقصها الأسماء، ومن أجل الإشارة إليها كان من الضروري الإيماء". والجملة الثالثة من النهاية طويلة وجميلة: "كانت ماكوندو بالفعل دوامة مخيفة من الغبار والحصي تدور حول غضب البركان الكتابي؛ عندما تجاهل أوريليانو 11 صفحة حتي لا يفقد الوقت مع حقائق كان يعرفها جيدا جدا، بدأ في تفسير لحظة أنه يعيش، تفسيرها كأنه عاشها، يتنبأ لنفسه وهو يفسر الصفحة الأخيرة من المخطوط، وكأنه ينظر إلي مرآة تتحدث". مدار الزمن بين هذا التكوين والأبوكاليبس هو ستة أجيال، بالتالي خوسيه آركاديو بوينديا، مؤسس الخط، هو جد آخر أجداد آوريليانو. جد جد دانتي، الصليبي كاساجويدا، يقول لخليفته دانتي أن الشاعر يدرك الحقيقة لأنه يحدق في تلك المرأة التي تستمع لأصوات أفكار الأشياء الصغيرة والكبيرة في الحياة لأصوات قبل أن يفكروا فيها. في النهاية يقرأ أوريليانو المخطوط السنسكريتي للغجري، الساحر الشبيه ببورخيس، وينظر إلي المرأة التي تتحدث، تستمع إلي فكره قبل أن يفكر فيه. ولكن هل هو يستمع إلي الحقيقة مثل دانتي؟ هل فلورنسا مثل ماكوندو مدينة المرايا "أو السراب" بالمقارنة بوقائع الجحيم، والمطهر، والفردوس؟ هل "مائة عام من العزلة" هي مجرد مرأة تتكلم؟ أم هي تحتوي بداخلها علي أي حال علي جحيم ومطهر وفردوس؟ فقط الخبرة والتأملات المنضطبة للعديد من القراء الأقوياء ستساعد علي إجابة تلك الأسئلة وصولا إلي أي نتيجة. البروز الأخير ل "مائة عام من العزلة" الآن يظل غير مقرر. ما هو واضح لمعاصري الكتاب هو أن جارسيا ماركيز قدم للثقافة المعاصرة، في أمريكا الشمالية وأوربا، بقدر ما قدم لأمريكا اللاتينية، واحد من من تكويناتها المزدوجة للسرديات الضرورية، بدونها لن نفهم بعضنا ولا أنفسنا. 2 المبدأ الاستطيقي في "الحب في زمن الكوليرا" هو نسخة مشذبة قليلا لما يمكن أن يكون شعار "مائة عام من العزلة": "أي شيء يمضي" أو حتي "كل شيء يمضي". أي شيء وكل شيء يمضي إلي خليط؛ فوكنر، كافكا، بورخيس، كاربنتيير، كونراد، جويس. كل من الروايتين كتابان مقدسان: "العزلة" هي عهد قديم، و"الكوليرا" عهد جديد، علي الأقل بالنسبة لجارسيا ماركيز والأكثر إخلاصا من قرائه ونقاده. أنا نفسي بدأت أُقَدِّم "الكوليرا" علي "العزلة"، ولكن هذا اختيار من لديهم الكثير. ما كان سيفعله فوكنر أكثر من قَدَّر الكتاب المقدس (فقط كأدب)، وشكسبير وملفيل وكونراد وجويس مع هذين العملين الأسبانيين البارزين، لا يمكنني التكهن به. الاندفاعات الكلامية التي كان سيدرك أنها مشابهة لاندفاعاته، والفردية البطولية بالتأكيد كانت ستثيره. إلا أنه مضي بينما ينتظر اللعنة التي ستحمله، وشخصياته الأعظم دارل بوندرين، كوينتين كومبسون، سوتبين، جو كريسماي، بوبي ذ . يمكن أن يكون طريفا بشكل عظيم كديكنز، كما هو مشهود بعائلة سنوب، التي تشكل الآن الحزب الجمهوري التكساني، الذي يقوده توم دي لي سنوبز، بينما اختار وطننا بينيتو بوش كدوتشي. كان أوسكار وايلد علي حق دوما: ليس للحياة اختيار سوي محاكاة الفن. ربما كان فوكنر سيرفض البهجة الغريبة لجارسيا ماركيز، علي الأقل في حالته التراجيدية، ولكنه كان سيقبل الإنسانية الأخيرة التي أكدها السابق واللاحق. التدهور، الخوف المهووس من زنا المحارم، غمر العزلة المبدعة بمحيط المعلومات: تلك موضوعات شائعة ومخاوف. ما هو بالتالي الاختلاف المحفوظ، إلي جانب الروح العالية الرائعة عند جارسيا ماركيز، التي تميز الاثنين؟ آمال فوكنر بالكاد ما تكون مقنعة: شخصياته الأعظم عدمية مثلها مثل شكسبير. الشعبية الكبيرة لجارسيا ماركيز حصل عليها بخصوبته، تحجب إنذاراته الأبوكاليبسية. مثلما كان شكسبير لفوكنر، كان سيرفانتس ضروريا لجارسيا ماركيز: السلف الحقيقي. سيرفانتس، بحكمته الظلامية، ليس أقل عدمية من شكسبير، ولا أعتقد أنه في النهاية كان مسيحيا أو مؤمنا، بشكل أكثر مما يمكن أن يقال عن فوكنر أو جارسيا ماركيز. اختلاف جارسيا ماركيز عن الثلاثة أكثر وضوحا في "الكوليرا" عن "العزلة": هو بالطبع لديه اعتقاد رومانسي راق في الإيروس، علي الرغم من أنه يعلم الحقيقة الفرويدية أن الحب الكثير جدا هو قناع لغريزة الموت. إلا أنني أفضل "الكوليرا" عن "العزلة" في النهاية لأن فلورينتينو آريثا شجاع، كما يتضح من الفقرة الختامية بالرواية: "دعينا نعود نعود نعود إلي لا دورادا". ارتعشت فرمينا داثا لأنها أدركت صوته السابق، المضاء بنعمة الروح القدس، ونظرت إلي القبطان: كان مصيرهما. ولكن القبطان لم يرها لأن قوي الإلهام العظيمة لفلورنتينو آريثا خدعته. سأل: "هل تعني ما تقول؟" قال فلورنتينو آريثا: "من اللحظة التي ولدت فيها لم أقل أي شيء لم أعنه". نظر القبطان لفرمينا داثا ورأي علي أهدابها الوميض الأول لبرد الشتاء. ثم نظر إلي فلورنتينو آريثا، وقوته التي لا تقاوم، وحبه الشجاع، وكان مفعما بالتشكك المتأخر من أن الحياة - أكثر من الموت - هي التي لا حد لها. سأله: "وإلي متي تعتقد أننا نستطيع أن نمضي ونعود؟" حفظ فلورنتينو آريثا إجابته جاهزة لثلاثة وخمسين عاما، وسبعة أشهر، وأحد عشر يوما وليلة. قال: "إلي الأبد".