»أود من قرائي أن يسترخوا، وأن يتابعوا القصة من دون الحاجة إلي كتابة الملاحظات أو لحفظ الأسماء والتواريخ، فإنني أعدهم بأنني لن أختبرهم فيما قرأوه« هكذا قدم إي إتش غومبريتش كتابه مختصر تاريخ العالم الذي صدر مؤخرا ضمن سلسلة »عالم المعرفة«. الكتاب الذي صدر لأول مرة عام 1936 وترجم إلي عدد كبير من لغات العالم وترجم أخيرا إلي العربية ، يتعامل مع التاريخ كقصة طويلة وممتدة أخرج الكتاب في نص قصصي مشوق كما تقول مترجمته د. ابتهال الخطيب، أجمل ما يميزها هو قدرة الكاتب علي ربط الأحداث والأسماء وطرح التشبيهات التي قد تتباعد مئات السنوات بعضها ببعض، فتجده علي سبيل المثال في غمار وصفه لحدث أو شخصية في منتصف القرن الخامس عشر قفز بالقارئ عائدا إلي حقبة زمنية ماضية، رابطا الشخصية أو الحدث بآخرين مشابهين قص هو عنهما في العصور الغابرة الموغلة في القدم. هذه التشبيهات والمحاولات المستمرة لربط التاريخ البشري من أوله إلي آخره بحلقات الأشخاص والأحداث إنما تجعل النص أكثر تشويقا وإمتاعا، وترفع من قدرة القارئ علي تذكر الأحداث وربطها واستيعابها بصورتها الكبيرة الموسعة، غير أن أكثر ما يعكسه ويؤكده هذا الأسلوب هو محبة الكاتب نفسه للتاريخ الإنساني. قصة المؤلف كانت أفضل تقديم لهذا الكتاب، فبعد أن أنهي غومبريتش دراسته في جامعة فيينا بقي عاطلا عن العمل، محروما من أي بارقة أمل في الحصول علي وظيفة في تلك الأوقات الصعبة. في حينها طلب منه ناشر ناشيء من معارفه الاطلاع علي كتاب تاريخ بالانجليزية للأطفال، مع الاحتفاظ برؤية مستقبلية لترجمته إلي الألمانية، كان الكتاب سيضم إلي مجموعة جديدة بعنوان المعرفة للأطفال . لم يعجب غومبريتش بما قرأ لدرجة أنه أخبر الناشر بأن الكتاب لا يستحق الترجمة، بل إنه علق أعتقد أن بإمكاني كتابة واحد أفضل فرحب الناشر بالفكرة، ولم يكن غومبريتش نفسه متأكدا من إمكانية إنجاز المشروع، لكنه أعجب بالتحدي ووافق علي المحاولة، رسم خطة الكتاب علي وجه السرعة، حيث اختار الأحداث التي سيشملها الكتاب بأن سأل نفسه ببساطة:»ما أحداث الماضي التي كانت الأكثر تأثيرا في حياة الناس والأكثر رسوخا في ذاكرتهم؟ بعدها استعد ليكتب فصلا كل يوم، في الصباح يقرأ حول موضوع اليوم في الكتب المتوافرة لديه، وفي أوقات ما بعد الظهيرة يذهب إلي المكتبة ليطلع، متي كان ذلك ممكنا، علي بعض النصوص الآتية من العصر الذي يكتب حوله، ليوثق رواياته، أما المساء فكان للكتابة. وهكذا بدأ غومبريتش مع بداية الحياة قاصا الحكاية من أولها، مؤكدا أنه في الواقع لا أول لهذه الحكاية، فلكل بداية بداية أخري أقدم منها، من هذا المدخل ينطلق غومبريتش ليحكي عن أشكال الحياة الغابرة المختلفة، من الديناصورات مرورا بالأنماط البشرية المتباينة التي كانت تحيا علي الأرض سابقة الجنس الانساني الحالي، ثم يحكي قصة الحضارة البشرية بدءا من قدماء المصريين، ومرورا بالسومريين والبابليين والآشوريين، ثم يستعرض كل الحضارات التي تزامنت مع هذه الحضارات الأولية الغابرة أو توالت بعدها.