بدأ غومبريتش مع بداية الحياة قاصا الحكاية من أولها مؤكدا أنه فى الواقع لا أول لهذه الحكاية فلكل بداية بداية أخرى أقدم منها الصدق هو المعضلة التاريخية للتاريخ. كيف لنا أن نصدق ما لم نرَه، إذا كنا لا نستطيع الحكم على ما نعيشه ونشاهده بأعيننا؟ هل فكرت يوما عما سيقوله التاريخ عن ثورة يناير؟ ما وجهة النظر التى سيتبناها وكيف سيُحكم عليها، إذا كنا نحن حتى الآن لا نستطيع؟! فما بالكم لمن يتصدى لتاريخ العالم كله؟ إى إتش غومبريتش استطاع أن يخرج من هذه المعضلة فى كتابه البديع «مختصر تاريخ العالم» الذى صدر مؤخرا ضمن سلسلة «عالم المعرفة»، ورغم أن هناك مجموعة كبيرة من الكتب التى تدور حول نفس الفكرة -تقديم مختصر لأحداث العالم- فإن هذا الكتاب الذى صدر لأول مرة عام 1936 وتُرجم إلى عدد كبير من لغات العالم وترجم أخيرا إلى العربية يقدم الفكرة بطريقه مختلفة، حيث يختتم الكاتب هذا النص التاريخى باعتذارات وتعديلات أضافت قيمة كبيرة ودرسا مهما للنص الأساسى للكتاب، ففى الفصل الأربعين والأخير يعود الكاتب ليراجع نفسه، مقرا بأنه فى أحيان لم يتأكد من معلومة تاريخية جزمت ذاكرته بحقيقتها وأثبتت له الوقائع غير ذلك، وبأنه فى أحايين حاد عن الحكم الصحيح بسبب ضبابية الموقف وضيق الصورة. غير أن اختياره أن يضيف هذه التعديلات، حاكيا للصغار المستهدفين من الكتاب أساسا عن طبيعة النفس البشرية، مقرا بتحيزاتها وضيق أفقها، فى فصل أخير من كتابه عوضا عن عودته إلى الأجزاء المعنية فى الكتاب وتعديلها فى طبعات لاحقة، لهو فى حد ذاته درس مهم عمد الكاتب إلى إيصاله للقراء من خلال تجربته الشخصية الحافلة بلحظات الضعف وقصور النظر والتحيز، نقاط ضعف لا يخجل أن يقر بها ويعتذر عنها، وربما كانت الميزة الأساسية لهذا الكتاب. غير أنها ليست الوحيدة، فهذا التعامل الصادق مع التاريخ كقصة طويلة وممتدة أخرج الكتاب فى نص قصصى مشوق، كما تقول مترجمته د.ابتهال الخطيب، أجمل ما يميزها هو قدرة الكاتب على ربط الأحداث والأسماء وطرح التشبيهات التى قد تتباعد مئات السنوات بعضها ببعض، فتجده على سبيل المثال فى غمار وصفه لحدث أو شخصية فى منتصف القرن الخامس عشر قفز بالقارئ عائدا إلى حقبة زمنية ماضية، رابطا الشخصية أو الحدث بآخرين مشابهين قص هو عنهما فى العصور الغابرة الموغلة فى القدم. هذه التشبيهات والمحاولات المستمرة لربط التاريخ البشرى من أوله إلى آخره بحلقات الأشخاص والأحداث إنما تجعل النص أكثر تشويقا وإمتاعا، وترفع من قدرة القارئ على تذكر الأحداث وربطها واستيعابها بصورتها الكبيرة الموسعة، غير أن أكثر ما يعكسه ويؤكده هذا الأسلوب محبة الكاتب نفسه للتاريخ الإنسانى. لذا كانت قصته هو نفسه أفضل تقديم لهذا الكتاب، فبعد أن أنهى غومبريتش دراسته فى جامعة فيينا بقى عاطلا عن العمل، محروما من أى بارقة أمل فى الحصول على وظيفة فى تلك الأوقات الصعبة. فى حينها طلب منه ناشر ناشئ من معارفه الاطلاع على كتاب تاريخ بالإنجليزية للأطفال، مع الاحتفاظ برؤية مستقبلية لترجمته إلى الألمانية، كان الكتاب سيضم إلى مجموعة جديدة بعنوان «المعرفة للأطفال». لم يعجب غومبريتش بما قرأ لدرجة أنه أخبر الناشر بأن الكتاب لا يستحق الترجمة، بل إنه علق «أعتقد أن بإمكانى كتابة واحد أفضل» فرحب الناشر بالفكرة، ولم يكن غومبريتش نفسه متأكدا من إمكانية إنجاز المشروع، لكنه أعجب بالتحدى ووافق على المحاولة، رسم خطة الكتاب على وجه السرعة، حيث اختار الأحداث التى سيشملها الكتاب بأن سأل نفسه ببساطة: «ما أحداث الماضى التى كانت الأكثر تأثيرا فى حياة الناس والأكثر رسوخا فى ذاكرتهم؟»، بعدها استعد ليكتب فصلا كل يوم، فى الصباح يقرأ حول موضوع اليوم فى الكتب المتوافرة لديه، وفى أوقات ما بعد الظهيرة يذهب إلى المكتبة ليطلع، متى كان ذلك ممكنا، على بعض النصوص الآتية من العصر الذى يكتب حوله، ليوثق رواياته، أما المساء فكان للكتابة. وهكذا بدأ غومبريتش مع بداية الحياة قاصا الحكاية من أولها، مؤكدا أنه فى الواقع لا أول لهذه الحكاية، فلكل بداية بداية أخرى أقدم منها، من هذا المدخل ينطلق غومبريتش ليحكى عن أشكال الحياة الغابرة المختلفة، من الديناصورات مرورًا بالأنماط البشرية المتباينة التى كانت تحيا على الأرض سابقة الجنس الإنسانى الحالى، ثم يحكى قصة الحضارة البشرية بدءا من قدماء المصريين، ومرورا بالسومريين والبابليين والآشوريين، ثم يستعرض كل الحضارات التى تزامنت مع هذه الحضارات الأولية الغابرة أو توالت بعدها. ينتهى الفصل الأخير أيضا بدرس من الكاتب عن تطورات العصر الحديث وتأثير هذه التطورات على طبيعة المسيرة البشرية وعلى رؤيتنا الحالية لها، كما أنه يؤكد كثيرا على الحقوق الإنسانية كنتاج للحداثة، جازما بأن الرحمة والتلاحم الناتجين ليسا فقط عن نصوص هذه الحقوق، ولكن كذلك من الغريزة الإنسانية إنما تخولنا ليكون «لدينا الحق فى أن نأمل بمستقبل أفضل». أما أجمل ما فى الكتاب ودافعى الشخصى للبدء فيه، فكانت كلمة غومبريتش التى قدم بها الكتاب: «أود من قرائى أن يسترخوا، وأن يتابعوا القصة من دون الحاجة إلى كتابة الملاحظات أو لحفظ الأسماء والتواريخ، فإننى أعدهم بأننى لن أختبرهم فى ما قرؤوه» كم كنا نحتاج إلى جمل كتلك فى كتب التاريخ التى درسناها ولم يتبق منها فى ذاكرتنا سوى طلاسم، ما كان أحوجنا لجمل كتلك تنتصر للمعرفة ولفعل القراءة ذاته، لمتعة القراءة ولثقة الكاتب فى ما يكتب ويسجل.