كان سائق التاكسي الذي كنت أجلس إلي جواره يشكو من الإرهاق والتعب وصعوبة الحصول علي السولار، وما إلي ذلك من أمور.. فقلت له يا سيدي انتهز فرصة شم النسيم، واخرج مع أسرتك لِتُروَّح عن نفسك.. كانت المفأجاة أنه قال لي: لا.. هذا حرام.. اندهشت وقلت: أن تروّح عن نفسك وعن أسرتك حرام.. قال: لا.. شم النسيم حرام !!! ازدادت دهشتي وسألته لماذا؟! قال: لأنه اليوم الذي خرج فيه الكفار بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، قائلين "مات محمد فلنخرج لنشم النسيم".... لا تعليق!! هذا هو شم النسيم.. يا ناس.. شم النسيم عيد مصري كان عند المصريين القدماء - وأظنه ما يزال عند المصريين المعاصرين- يرمز إلي تجدد الحياة واستمرارها. ويرجع الاحتفال به إلي ما يزيد علي خمسة آلاف عام، إذ يذكر بعض المؤرخين أنه كان معروفا في "أون" "هليوبوليس" في عصر ما قبل الاسرات، وأن المصريين القدماء كانوا يعتقدون أن ذلك اليوم هو بداية الزمان ويحددونه بتساوي الليل والنهار وقت حلول الشمس في برج الحمل. وجدير بالذكر أن كثيرًا من الأعياد المصرية كانت ترتبط بالظواهر الفلكية وانعكاساتها علي حياتهم، وبالزراعة أيضا، كما يذكرون أن التسمية جاءت من الكلمة الفرعونية "شمو". ومن الملاحظ أن الاحتفال بقدوم الربيع شائع وموجود في كثير من الثقافات الإنسانية وتختلف بالطبع طرق الاحتفال من شعب إلي آخر، وقد تتغير من عصر إلي عصر، أو قد تتخذ أشكالاً مختلفة، إلاّ أن الاحتفال بشم النسيم المصري يكاد يكون الاحتفال الوحيد الذي لم يتغير شكله أو ممارساته علي مرّ الزمان. وقد وصف "إدوارد وليم لين" الاحتفال في القاهرة في القرن 19 فذكر أن أهلها كانوا يبكرون بالذهاب إلي الريف المجاور، راكبين أو راجلين، ويتنزهون في النيل ليتنسموا الهواء العليل، إعتقادًا منهم أن النسيم في هذا اليوم له تأثير عظيم علي الصحة، وأنهم كانوا يتناولون غذاءهم في الريف أو علي المراكب في النيل. وما زال المصريون جميعا يحتفلون بهذا اليوم بالخروج إلي النيل والحقول والحدائق حاملين معهم أطعمة معينة لا يتناولونها مجتمعة إلا في هذا اليوم. تشمل هذه الأطعمة البيض والفسيخ والرنجة والسردين والخس والبصل والملانة (الحُمّص الأخضر). وإذا تأملنا هذه الأطعمة سنجد أن كلاً منها يرمز إلي شيء وثيق الصلة بحياتهم: - البيض: ويرمز لخلق الحياة من الجماد وكانوا ينقشون عليه دعواتهم وأمنياتهم ويضعونه في سلال من سعف النخيل يعلقونها علي شرفات المنازل وأبوابها أو علي الأشجار لتحظي ببركة النور الإلهي عند شروق الشمس. وقد ذكر هيرودوت المؤرخ اليوناني الشهير أنهم كانوا يأكلون: - السمك المملح (الفسيخ السردين): ويرمز السمك إلي التكاثر، وربما كان تناول الأسماك المملحة ذا علاقة بالأسطورة المصرية القديمة "ايزيس و أوزوريس" ويأكلون أيضا: - البصل: وهو رمز لإرادة الحياة وقهر الموت والشفاء من الأمراض. وكانوا يعلقونه وما زالوا حول رقابهم ويضعونه تحت الوسائد لاعتقادهم في قدرته علي طرد الأرواح الشريرة، ونظرًا أيضا لما يحتويه من قيم غذائية مرتفعة. - والخسّ: الذي اعتبره المصريون القدماء من النباتات المقدسة وأنه رمز للإخصاب وأنه يريد من معدل الخصوبة لديهم، وبالمناسبة فقد تم علميا اكتشاف أن زيت الخسّ يزيد من الخصوبة لاحتوائه علي فيتامين (ه). - والملانة (الحمّص الأخضر): إذ كانوا يعتقدون أن نضج ثمرة الحمّص علامة علي مقدم الربيع، واعتدال الجو، وتجدد الحياة. لقد اتخذ الاحتفال بهذا اليوم دلالات متعددة لدي أصحاب الديانات السماوية المختلفة، لكن المصريين ظلوا يحتفلون به بطريقة واحدة علي اختلاف دياناتهم ويمارسون العادات نفسها، ويتناولون الأطعمة نفسها، ويتبادلون التهاني نفسها... فهل هذا حرام!!! وتعيش بلدي وأهل بلدي...