رغم رحيله منذ فترة طويلة، إلا أن هناك تفاصيل خافية في حياة عبد الحليم حافظ، تفاصيل تُعطي أبعاداً جديدة لشخصيته، وتكتسب هذه التفاصيل أهميتها من الشخص الذي يسردها، ليست أهمية المكانة أو المناصب، ولكن أهمية القرب من عبد الحليم. وليس من قبيل المبالغة القول إن الدكتور هشام عيسي الطبيب الخاص لعبد الحليم كان أقرب إليه من أي شخص آخر، خاصة في الأيام التي استبد خلالها المرض به، وحينما يصدر كتاب بعنوان "حليم وأنا" للدكتور هشام فإن هذا يعني ضرورة التوقف أمامه للإحساس بأن هناك جديداً سيُقال، وهو ما سيتأكد فعلاً. يشير هشام إلي أن حادث رحيل الزعيم جمال عبد الناصر كان فارقاً في حياة عبد الحليم حافظ، فحينما وصله النبأ أصيب بما يشبه الهيستريا، وراح يضرب مرآة بيديه وبرأسه، وخرجت من فمه كمية من الدماء التي كان مصدرها دوالي المريء: "لم يكن في الجوار أي وسيلة إسعاف فحمله مرافق كان معه إلي مستشفي المواساة بالإسكندرية، وحين وصل هناك كان النزيف قد توقف ولكن الطبيب المناوب الذي استقبله تسرّع بنقل زجاجة دم إليه لم يكن حليم في حاجة إليها، فمثل هذا النزيف يمكن السيطرة عليه بوسائل أخري ولم يعلم الطبيب ولا أي واحد منا أنّ هذه الزجاجة ستقضي عليه". ظهرت أعراض التهاب كبدي وبائي علي حليم، فقد كانت زجاجة الدم تحتوي علي فيروس "ب": "ليلتها جلست مع المرحوم الأستاذ الدكتور ياسين عبد الغفار والتشاؤم يُخيّم علينا، أدركنا أنّ تحوّلاً خطيراً قد حدث في مجري المرض، تحولاً يُنذر بأنّ الأمر سيكون أشد خطورة وأن العلاج سيكون أصعب". انضاف المرض الجديد إلي الأمراض القديمة. كان قد أُصيب بالبلهارسيا المعوية منذ طفولته، والتي سببت له تليّفاً كبدياً: "ظل الأمر مقتصراً حتي ذلك الوقت علي التصدّي للنزيف ومحاولة الوقاية منه وإيقافه عندما يحدث، أما وقد أُضيف إلي ذلك التهاب فيروسي فإنّ التليف يُصبح مزدوجاً ويغزو الفيروس خلايا الكبد ويدمّرها ويصبح المريض معرّضاً لكل أعراض النقص الوظيفي للكبد، والتي تنتهي بالفشل الكبدي القاتل، وأيضاً تزداد شدة النزيف وتعاوده علي فترات أقصر. أصبحت الصورة قاتمة وأدركنا أن الخطر قد اقترب وأن العلاج سوف يقتصر علي الوقاية من النزيف والاستعداد لنقل الدم طوال الوقت، ومنذ ذلك الوقت أصبحتُ ألازم حليم ليل نهار وفي كل مكان حاملاً معي ما يُشبه عربة إسعاف محمولة بها كل الأدوية اللازمة وزجاجات دم تم لها إجراء اختبارات التوافق مع دمه". أُجريت لحليم عمليات نقل دم في كل مكان، في منزله عقب الغناء، أو في المصيف، وفي مستشفيات بالمغرب ولندن وباريس ونيويورك: "وحين صارحنا حليم ببعض ما حدث من تغييرات واجه الأمر في شجاعة وقاتل المرض ببسالة متخطياً حاجز الخوف واليأس، حتي كان النزيف الأخير في مستشفي كينجز كولج بلندن". يحكي الدكتور هشام عيسي عن قصة لقاء حليم ويوسف شاهين للاتفاق علي فيلم بعنوان "وتمضي الأيام" وهو تمصير ل"غادة الكاميليا": "كان اللقاء جميلاً، كانت هذه هي المرة الأولي التي أستمع فيها إلي هذا العبقري وأعتقد أنها أيضاً كانت المرة الأولي التي يلتقي فيها بحليم، وقد بهرنا شاهين الذي استمع إلي السيناريو وأخذ يُعلّق عليه ثم يتكلم في شتي المواضيع المتعلّقة بالسينما والسياسة، وكعادته أخذ يوسف السيناريو قائلاً إنه يعترض علي بعض الأشياء وسوف يقوم بتغييرها. كان من الضروري أن يضع بصمته علي أي سيناريو قبل أن يقوم بإخراجه. قبِل حليم كل الشروط وانتظرتُ، كما انتظر الجميع ثمار هذا اللقاء، لقاء عبقرية شاهين مع رومانسية حليم وشعبيته، طلب حليم من شاهين أن يذهب إلي العجمي في الفيلّا الخاصة بحليم ليبدأ الكتابة، ولكن شاهين أجّل الموضوع فقد كان مشغولاً بإخراج فيلم العصفور". يشير عيسي إلي الجانب الإنساني في شخصية حليم بعد أن يتحدّث طويلاً عن قصة صعوده وتوطيد علاقاته بالسياسيين، فمثلاً في عام 1971 رُزق الكاتب الصحفي منير عامر بطفله الأول شريف الذي أُصيب بعد ثلاثة أشهر من مولده بالتهاب رئوي كان يُهدد حياته واحتاج الأمر إلي مضاد حيوي غير موجود في مصر خلال هذا الوقت، وكانت الحاجة ملحّة وسريعة فكتب منير عامر القصة في مجلة "صباح الخير" وبعد مدة لم تتجاوز اليوم الواحد فوجئ منير بمندوب الاستعلامات في دار "روز اليوسف" يُسلّمه طرداً يحتوي علي الدواء المطلوب ومعه خطاب رقيق من حليم يتمنّي فيه الشفاء السريع، وتكرر الموقف ذاته حين مرضت حنان ابنة مفيد وآمال وذهب حليم ليعطيها الدواء المطلوب بعد أن حصل عليه من بيروت. يتذكر عيسي في هذا الصدد موقفاً طريفاً يؤكد وجه حليم شديد الإنسانية، الموقف حدث في منزل الرئيس السادات في مناسبة عقد قران إحدي بناته، وكان حليم يريد أن يتحدّث مع السادات بخصوص مرسي سعد الدين الذي أُقصي من منصبه كملحق ثقافي في ألمانياالشرقية. دار حوار بين بليغ حمدي شقيق مرسي والسادات، وكان بليغ شديد الخجل فلم يفتح موضوع شقيقه: "وهنا تدخّل حليم قائلاً: يا ريّس بليغ عاوز يكلمك في موضوع مرسي، انت عارف إن مرسي مظلوم وهو صديقك ويستحيل أن يعمل ضدك، وهنا أدرك السادات السبب في تلعثم بليغ وتردده، فالتفت إليه في رقة واضحة: انت مش محتاج توصّيني علي مرسي، ده أخويا، وأنا باقرص ودانه فقط، لأنه اندمج مع العيال الشيوعيين في برلينالشرقية ودول عيال خطر، وبسببهم كنت حاقطع علاقتي مع ألمانياالشرقية وقلت بناقص. علي العموم مرسي أخويا وأنا أعطيه درساً وسوف أعيّنه في المكان اللائق". كما كان حليم شديد الاعتزاز بنفسه، يسرد عيسي قصة للتدليل علي هذا الأمر. كان من المقرر أن يغني حليم أغنية "رسالة من تحت الماء" من أشعار نزار قباني ولحن محمد الموجي، وانتشرت إشاعة بأن سبب مرض حليم هو أنّ أم أمين زوجة الموجي تمارس السحر ضده، ونقلت الإشاعة إلي حليم علي سرير المرض، ويبدو أنه حكاها لكاتب كبير، والغريب أن الأخير نشرها في مجلة ذائعة الصيت، وطبعاً غضب الموجي ورد بقسوة وقال إن البلهارسيا هي السبب الحقيقي في مرضه وأم أمين لم تكن هناك حين نزل إلي الترعة ولم تدفعه إلي السباحة فيها، وطبعاً كانت الأغنية علي وشك الانتقال إلي مغن جديد هو هاني شاكر: "كان حليم قد استعد لهذه الأغنية فقد أحبها حين استمع إلي لحن الجزء الأول وصعب عليه أن يفقدها ولكن كبرياءه منعه من التصرّف فقال لي اتصل بمحمد (يقصد الموجي) واطلب إليه الحضور ولكن لا تقل له إني طلبت ذلك. كان الموجي في منزله بالعباسية حين اتصلت به طالباً حضوره إلي منزل حليم حيث كنت أقيم معه معظم الوقت، كان حليم بجواري يستمع، ولم يكن عسيراً علي الموجي بذكائه أن يتبيّن الحقيقة فقال لي حليم بجوارك أليس كذلك؟ رد فقط بنعم أو لا، هل هو الذي طلب منك دعوتي؟ فقلت: أيوه يا موجي لازم تيجي لأنك واحشنا. استغرق الأمر أقل من ساعة لأجد محمد الموجي أمامي، تعانق الموجي وحليم دون أن يتعاتبا ودون أن يذكرا أي شيء، تجاهل كلاهما الموضوع وبادر حليم الموجي بقوله: جري إيه يا محمد أنت لسه لم تنته من المقدّمة الموسيقية؟ أمّا إنك كسلان حقيقي، أنا عاوزك تقعد الآن وتبدأ فيها، الحفلة قرّبت"! أفرد عيسي مساحة لما عاينه حليم في المغرب ومن ضمنه الانقلاب الذي حدث ضد الملك، كان حليم في الإذاعة في الوقت الذي كان يتم تبادل النيران في الخارج بين المتمردين والملكيين: "ما إن انصرفنا لإحضار أدوية حليم حتي اقتحم جنود الانقلاب الإذاعة وسيطروا عليها بعد أن قتلوا أفراد الحراسة ثم دخلوا إلي الاستديو حيث كان حليم يسجل الأغنية وكان معه ملحن مغربي ضرير اسمه عبد السلام عارف، تقدّم أحد العسكريين إلي حليم ومعه ورقة تحتوي علي بيان الانقلاب، قال لحليم: إن الحسن قد قُتل وعليك أن تقوم بإلقاء هذا البيان علي الأمة المغربية. تصّور الضابط أن الحظ قد ساق إليه فرصة العمر فالبيان سيُذاع بصوت العندليب، صوت الثورة المصرية الذي تفوق شعبيته أي فنان في المغرب أو العالم العربي. للحظات بدأ حليم يُفكّر.. فيما بعد قال لي إنه واجه أصعب اختبار في حياته، فإذا كان الملك قد قُتل ورفض هو إذاعة البيان فربما يُقدم هؤلاء علي قتله أو حتي إخراجه من الإذاعة دون حراسة". المهم أن الموقف انتهي برفض قاطع من حليم، وتم إنقاذه.. وهذا الموقف دليل علي قوة شخصيته التي أكد عليها عيسي مراراً في هذا الكتاب. الكتاب: "حليم وأنا" المؤلف: د.هشام عيسي الناشر: دار الشروق