د.احمد مرسى حدث أن كنت في زيارة لإنجلترا منذ سنوات بعيدة أثناء ركوبي القطار متجها نحو الشمال حيث يقيم صديق لي دعاني لزيارته آنذاك تصادف أن جلس إلي جانبي رجل إنجليزي ، وسألني بعد أن تعارفنا عن جنسيتي فقلت له : مصري ، فسألني هل نتحدث الإنجليزية في مصر .. قلت نعرفها ، لكننا نتحدث العربية .. قال أنت عربي إذن .. كم زوجة عندك ؟! وكم عدد الجمال التي تمتلكها ؟! فلما ظهرت علامات الدهشة علي وجهي .. أعاد السؤال مرة أخري اعتقادا منه أني لم أفهم وأخذ يشير بيديه إشارات معينة قائلا .. حريم ... نساء .. جمال .. حريم .. هل تفهم ؟! أخذت أناقش الرجل طيلة ساعتين ، محاولاً إقناعه بغير ما يظن ، وإذا به يخرج لي من حقيبة معه عدة مجلات بها تحقيقات صحفية عن الحياة العربية ، ولشد ما أحزنني ما قرأته خاصة ما يرتبط بالمرأة العربية عامة من أنها كائن منقوص الإنسانية ، لا وظيفة لها إلا إمتاع الرجل ، وأنها دنسة نجسة .. الخ . آنذاك فكرت في إعداد دراسة عن المرأة من خلال تخصصي في المأثورات الشعبية ، وبدأت بالنظر فيما تجمع لدي من مأثورات ، وكانت النتيجة أن صورة المرأة في هذه المأثورات تختلف اختلافا كبيرًا عن تلك الصورة النمطية التي تلوكها الألسنة أو تشيع في بعض الكتابات التي تعتمد الانتقاء من التراث لاثبات وجهة نظر معينة أو رؤية مسبقة ، تعممها ، وتستعين علي تأكيدها بأقوال تنتمي إلي تراث بليد ، وفكر مريض ، من نتاج عصور الانحطاط التي رأت « أن كلامها نفاق ، وهي مخاتلة تجسد المكر والخداع ، وهي مصدر الفسوق ، فاسدة لا ينفع معها تأديب أو إصلاح . وأنها أم الخطيئة وأداة الشيطان للإيقاع بالبشر ، تفتن الرجل بمفاتنها لتورده موارد التهلكة ، وهي جاهلة ، حمقاء ، حسودة ، ساذجة ... الخ أي أنها باختصار « صورة للشيطان أو هي الشيطان بعينه «. يعيدني إلي هذا الموضوع الآن ذلك الاتجاه العنيف الغريب علي حياتنا عامة ، وثقافتنا المصرية خاصة ، الذي ينحو إلي إحياء هذا التراث ، للتقليل من شأن المرأة وإهانتها وإلغاء دورها الفاعل في الحياة ، ذلك أنني أشعر أن خطرًا كبيرًا يتهدد حياتنا ومستقبلنا ، إذا أعيد إنتاج هذا التراث الذي يشوه المرأة ، ويسلبها إنسانيتها ، ويئدها ماديا ومعنويا . إن تاريخ الإنسانية هو تاريخ المرأة والرجل ، والحضارة الإنسانية لا يمكن أن تقوم علي أكتاف أحدهما فحسب . فمنذ أقدم العصور والمرأة إلي جانب الرجل ، تصون الحياة ، وتقوم علي استمرارها ، وبعض النظريات تذهب إلي أن دور المرأة في صنع الحضارة بدأ مع الزراعة والاستقرار نتيجة رغبة المرأة وجهدها في توفير المأوي والقوت لأطفالها وعائلتها والمثل الشعبي يقول « الأم تعشش والأب يطفش « وهو مأخوذ من ملاحظة سلوك الطيور ، فالأنثي / الأم هي التي تبني العش ، أما الرجل / الأب فهو الذي يحميه بإبعاد الأعداء عن مهاجمته . وهكذا تحدد الثقافة الشعبية لكل من المرأة والرجل أدوارًا في صون الحياة وحمايتها لا علاقة له بتكوين بيولوجي خاص ، بالوظائف التي يؤديها كل منهما، والتي لا يمكن لإحداها أن تنفصل عن الأخري ... هذه الوظائف هي التي تعطي لكل منهما تميزه القائم علي دوره الذي يؤديه في الحياة التي لا تكتمل دورتها إلا بتكامل المرأة والرجل في صنع الحضارة التي كانت وستظل حصيلة الجهود المشتركة للجنس البشري كله ، رجالاً ونساءً ، علي كل الأصعدة ، اقتصاديا واجتماعيا ، وثقافيا. ولقد زادت هذه المشاركة في وقتنا الحاضر نتيجة انتشار التعليم ، ونمو الوعي بالذات ، سواء علي صعيد الفرد أو الجماعة ، والاتجاه المتنامي إلي تحقيق الديموقراطية والتركيز علي حقوق الإنسان ، باعتباره إنسانا فحسب . ولعلنا نعود إلي الثقافة الشعبية وتجلياتها الفنية لنري أن المرأة هي التي أبدعتها وحافظت عليها ، ونقلتها إلي الأجيال المختلفة ، وأنها لم تكن يوما عاجزة عن الخلق والإبداع والابتكار ، بل لعلها أكثر قدرة عليه حين يتوفر لها ما تستحقه من احترام ، وما تحتاجه من أمان . والتاريخ يشهد أن المرأة كانت وستظل موضع تبجيل وتقدير ، فقد احتفظ لها منذ العصر الحجري بصور كثيرة كانت فيها رمزًا للطبيعة المعطاء ، وإلهة للخصب والنماء ، « فإيزيس في الأسطورة المصرية القديمة رمز للوفاء والخصب وصيانة الحياة ، والوصل والتجميع ، ونزعم أنها مازالت رمزًا لهذه القيم الإنسانية العليا . وثقافتنا الشعبية هي التي عبرت من خلال أشكال الحكي والغناء وغيرها ، مما أبدعته المرأة ، ومن خلال العادات والتقاليد وأنماط السلوك التي حافظت عليها وصانتها ، عن كل هذه المعاني ، ذلك أنها هي التي احتفت بالابن وغنت له قبل أن يولد ، وغنت وحكت له ولاعبته بعد ولادته ، وصاحبته في رحلة حياته من الميلاد وحتي بعد الوفاة ... تغني وتحكي وتلقن وتعلم وترسخ القيم والمباديء وتصونها ..... إنها الأم والأخت والابنة والزوجة والعمة والخالة ... إنها الأهل .. وتعيش بلدي وأهل بلدي