» آه .. أنا عشقت وشفت غيري كتير عشق عمري ما شفت المر إلا في هواك « (أغنية للشيخ سيد درويش) قد يلفت انتباه المتلقي عنوان الرواية »أنا عشقت« للكاتب محمد المنسي قنديل، إذ يحيل العنوان إلي أحد الأدوار الغنائية الشهيرة في الموسيقي العربية للشيخ سيد درويش والذي يحمل الاسم ذاته، ثمّ لا يلبث المتلقي أن يصافح العتبة الثانية للرواية؛ فيجد البيت الأول من أغنية »أنا عشقت« ليؤكد الكاتب أنّ اختيار العنوان لم يكن عبثاً، وإنما كان عن قصد، لا ليحيل القارئ إلي كلمات الأغنية وإنما إلي قالب غنائي يتناغم بقوة مع تيمة وبنية الرواية السردية، ألا وهو قالب »الدور الغنائي«. و»الدور« يعني الحركة والتنقّل ثم العودة إلي البداية, فيتنقل الملحن بين المقامات الموسيقية المتعددة ثم يعود ليستقر علي المقام الأصلي. وليس من الغريب علي كاتب وباحث في التراث العربي كالمنسي قنديل أن يتخيّر قالباً غنائياً أصيلاً من أغني مؤلفات التراث العربي الموسيقي ليكون ركيزة لبنية رواية تخوض في التجريب والحداثة بعمق. وإذا كان الملحّن في »الدور« يتنقل بين أجناس موسيقية يتبادل أداءها كل من المغني والمذهبجية، فإن الكاتب في رواية »أنا عشقت« يستعين بتقنية تعدد الأصوات في شكل أقرب ما يكون إلي بنية " الدور"؛ فيتراوح السرد بين بطل الرواية »علي« - السارد الرئيس - وأربع شخصيات أخري شبيهة بمجموعة مذهبجية يتناوبون السرد معه. ومن ثمّ يؤثث الكاتب رواية (بوليفونية) أي متعددة الأصوات والمنظورات السردية والفضاءات؛ تبدأ من نقطة ضيقة ثم تأخذ في التشعّب والاتساع ، لتعود في نهاية المطاف من حيث ما بدأت وتتقلص في المشهد الأول من الرواية بين »حسن« و»ورد«. التعددية في الأطروحات الفكرية تبتعد الرواية عن الطرح التقليدي ذي الرؤية الواحدة التي تهيمن علي السرد، فهي رواية ديناميكية تطرح بامتياز رؤي متعددة تتحرك من دائرة الأنا إلي فضاءات الأنا الغيرية؛ إذ تدور في إطار البحث عن »حسن« وتجميع المعلومات عنه من مصادر مختلفة، يقول علي: »ولكن رغماً عني عدت إلي نقطة البداية مرة أخري، وأصبح هناك لا شيء يقودني إليه«، إن القارئ يتقمّص موقف »علي« في كل مرحلة يجتازها في بحثه عن »حسن«؛ ما بين استنكار تركه حبيبته متجمدّة علي محطة القطار بلا مبالاة، ثم التعاطف معه كشخص فقد أباه وضاع مستقبله وتم الزجّ به إلي السجن، ثم الشعور نحوه كمجرم محترف يقتل بدم بارد، لذا فكان احتجاج »علي« أن تحيا »ورد« بعد أن يلمسها »حسن« ، يقول: »إنه لا يحمل إلا الموت، كل ما يلمسه يموت كان يجب ألا تستيقظي من لمسته!«. فتتبدّي جدلية الحياة والموت، ومَن لديه القدرة علي إعطاء الحب والحياة للآخر دون مقابل، وهل يكفي أن يكون الإنسان طيباً كي يهب الحياة لغيره أم يمكن أيضاً للمجرم أن يفعل ذلك ؟. وهكذا لم تعد الحقائق المطلقة مسلّماً بها، بل إنّ كل شيء قابل للشك، والتعددية ومخالفة التوقع؛ وهذا هو عين التجريب. وتلامس الرواية وتراً حساساً حول نسبية الشخصية الإنسانية، وكيف يمكن لليأس والرغبة المكبوتة أن تحول عصفوراً بريئاً مثل "حسن" إلي وحش قاتل، يقول »آدم« شريكه في الإجرام :« لم أدر أنني ساعدته علي اكتشاف الوحش الذي بداخله، أنت في الموقف نفسه الآن، إما أن تدعه يكشف عن الوحش الذي بداخلك، وإما أن تأخذه إلي مدينتك«، فيشكك الكاتب في جوانب النفس الإنسانية المطلقة الخيّرة أو الشريرة، ويُظهر كم أن الحد الفاصل بين الخير والشر في النفس دقيق للغاية. تعدد الأصوات تتميز الشخصيات في الرواية بالاستقلال النسبي، والقدرة علي التعبير عن عوالمها الداخلية، لذا فتختلف المنظورات السردية بين المتكلم والمخاطب والغائب لأن الهدف من تعدد الأصوات هو تقديمها كذوات فاعلة تعرض رؤيتها دون تدخل من الكاتب وهو ما يعرف ب»دمقرطة« الرواية. فالشخصيات ليست صديً لصوت المؤلف؛ ف« عزوز مهرج الشوارع« و»عبد المعطي خريج السجون« و»سمية يسري رابعة هندسة« و »ذكري البرعي سيدة الأعمال«، عوالم مستقلة داخل خطة الكاتب، تسرد تجربتها الخاصة ثم لا يلبث أن يضفّرها الكاتب بمهارة ضمن الحكي الروائي. يقدّم الكاتب من خلال شخوصه أنماط وعي مختلفة عبر ثنائيات الحبس والجمود والحركة والدوران؛ ف »عزوز« يستسلم لأمره الواقع كمهرج لأصحاب وجوه جامدة، يقول: »هؤلاء الأبالسة الصغار، لماذا لا يضحكون؟ لماذا شبّوا مثل آبائهم يحملون السحن الكئيبة نفسها؟« ويقبل العيش في معبد يهودي مهجور ويتخلّي عن محبوبته ليكتفي بمجرد طيفها الذي يزوره ليلاً في وحدته. و»عبد المعطي« خريج السجون تظل مشاعره حبيسة تمثال فتاة في متحف للآثار، وهنا كانت مفارقة رائعة، فبالرغم من تحرك مشاعر »عبد المعطي« نحو تمثال المتحف مما دفعه إلي صناعة تمثال فخاري محاكٍ، فكان جزاؤه الحبس في سجن قضي علي ما تبقي من حريته وكرامته، ليمضي حياته مشاطراً حسن في مسكنه، يقول: "ومهما استطالت أيام وحدتي لم أشْكُ، أصبح حسن بالنسبة إليّ نوعاً من القدر، يظهر حين لا أتوقع، ويختفي من دون أن يأبه بإخباري«، وهذا هو التحول الكامل إلي الجمود والاستسلام للقدر. أما بقية الشخصيات فكانت تفيق متأخرة جداً؛ ف»سمية يسري« استسلمت لشهوة جسدها ووهم الزواج من أستاذها الجامعي، ولم تفق إلا بعد أن حملت منه. و»ذكري البرعي« ظلت حبيسة »ذكري« والدها وقاربه الغريق، فأفاقت علي تحولها من فتاة بسيطة إلي سلعة للإتجار علي يد "أكرم البدري »تقول« لم أكن تحدثت مع أحد عن أبي، وعن الانكسار الذي تركه في داخلي، وعن العالم الذي تدمّر عندما توقف مركبه عن الإبحار"، وبالرغم من انتقامها منه إلا أنه قتلها بواسطة »حسن«. وباستقراء تلك الشخوص يتبيّن أنّ "علي" هو المتحرك الوحيد الإيجابي، بينما »حسن« لم يظهر صوته إلا قرب نهاية الرواية ليسد فراغات الحكي ويروي تحوله من معيد بالكلية إلي مجرم قاتل، فكان تحركه في الاتجاه السلبي المضاد، بينما »ورد« الشخصية الوحيدة بلا صوت باستثناء المشهد الأول، فقد كان صمتها مثالاً مجسماً للجمود الذي يدفع الغير نحو التحرك. إذن، يقدّم الكاتب من خلال هذه النماذج أنماطاً للوعي الإنساني باختلاف توجهاته لتعزف نغمة واحدة تؤكد علي قضية الاستسلام للأمر الواقع والدوران في فلك الحياة. كرنفالية الفضاء يمثل الفضاء »الزمكاني« للرواية فضاءً للصدامات والأزمات، ويتسم بالكرنفالية والتعددية حد التناقض، فتتنوع الأمكنة وتتحول إلي أماكن معادية تثير الاشمئزاز والقلق والموت، بينما يكون الزمن مهدمّاً مفككاً. فمحطة القطار فاصل زمني في واقع »ورد«، فيتجمد الزمن عندها بينما تسعي بقية الشخوص إلي التحرك نحو الوراء واسترجاع ما مضي من أحداث للتعرف علي سر ذلك الحبيب الذي كان غيابه سبباً في تجمدّها، ومن ناحية أخري يدفع "علي" بعجلة السرد إلي الأمام حفاظاً علي عنصر التصاعد والتأزم في ظل الأحداث المستَرجَعة. كما أنّ المحطة مكان لا يحمل نوعاً من الاستقرار والانتماء، فهناك السفر وحركة القطارات الروتينية الدائمة، يقول جمعة ناظر المحطة:" القطارات لا تتوقف إلا إذا توقفت الدنيا عن الدوران"، ومن هنا يضع الكاتب الثناءية الضدية الفتاة المتجمدة من جهة والقطارات دائمة الحركة والدوران من جهة أخري، فيطرح ضمنياً فكرة الحياة البينية التي أشار إليها »علي« »بحياة« الزومبي«، يقول الطبيب الشرعي عنها :« »كل شيء يتكرر بالكيفية نفسها والمنوال نفسه. هذه ليست حياة، إنه الجمود الذي يقود إلي التحلل«. وبقية الأمكنة المصاحبة للساردين دليل قوي علي حالة الموت/الحياة البينية ، ف »عزوز« المهرج يقطن المعبد حيث تزوره أطياف الموتي في كرنفالية طقوسهم الدينية ورائحة الياسمين المصاحبة للشموع، يقول: »يُخيَّل إليّ أنهم لم يرحلوا جميعاً، ما زالت أطيافهم تراقبني، وفي لحظة ما.. سيهاجمونني«. كذلك رحلة الأقصر وحفلات السمر وأزيائها والمعابد الفرعونية واستحضار الجو الأسطوري للإلهة نوت التي تنحني علي الأرض ووقوف »سمية« مع أستاذها في نقطة التقاء الأرض بالسماء، يوحي بالاستسلام للشهوة وارتباطها الجسدي به. وتبدو الكرنفالية بجلاء في حفل العزبة - »فلاحين بارتي« بصخبها وتناقضاتها، وعلاقات الشذوذ والحميمية، والمجون، تقول »ذكري«: »نسير وسط حلقات صاخبة من الرجال والنساء يضحكون ويرقصون ويتقافزون، نساء مثلنا يلبسن ملابس مكشوفة الصدور"، فيختلط الغني بالفقير، والراقي بالمنحط، والحاجة بالصفقة والشهوة . ومن ثمّ فالكاتب يعرض المعاناة الإنسانية وعلاقتها بالمحيط الخارجي، عبر جدلية الداخل المغلق الخانق المعبد/قلعة الكبش/الدير، والخارج المفتوح المجهول - المحطة حيث تتعرض »ورد« لهجمات الكلاب المسعورة وصحراء الدير القاتلة. وأخيراً، إن رواية »أنا عشقت« رواية تجريبية تتناص شكلياً مع بنية الدور الغنائي وقد استفاد الكاتب من البنية المركبة للدور في خلق رواية بوليفونية تنحو إلي التعدد في كل شيء، كما أستفاد من فكرة الدور وحركته الدائرية في طرح معانات إنسانية بملابسات مختلفة وكيف تعود من حيث ما بدأت، وإثارة تفكير القارئ إن كان الإنسان في الحقيقة يتغير ويتقدم أم أنه يدور حول نفسه.