الرواية العربية نوع أدبي لم يكتمل داخل قواعد محددة بخلاف الشعر والخطابة والدراما، كما أنه ولد ونما في العصر الحديث وذو قرابة عميقة بالعصر وما فيه من تجديد. لذلك كان التجريب من مقومات وجود النوع تاريخيا، وظلت الرواية أمدًا طويلا ذات وجود غير رسمي خارج ما سمي بالأدب الرفيع. . لقد ارتبطت كما يقول جابر عصفور بدعوة التنوير بحثًا عن فن جديد للوعي المحدث وللقيم الجديدة بين جمهور الأفندية وطلائع المرأة. فرنسيس فتح الله المراش في غابة الحق المنشورة سنة 1865 في حلب كتب تمثيلاً رمزىًا لقيمة العقل وتجسيدًا إبداعىًا لمملكة التمدن التي لا تخلو من معني العدل. هناك أيضًا فرح أنطون الذي جسدت رواياته الحوار المتوتر بين الدين والعلم في ثنايا الحلم بالمستقبل، وصاغ صياغة إبداعية حق الاختلاف ومعني التنوع وتأكيد قيم المجتمع المدني الذي لا يعرف النعرة الطائفية أو التمييز العرقي أو الديني. ومن التجارب المبكرة ميراث كتابة المرأة العربية ابتداء من أليس بطرس البستاني الكاتبة الأولي مرورًا بزينب فواز العاملية التي سبقت قاسم أمين في الدعوة إلي تحرير المرأة. أمامنا الرواية في تجريبها الفن الواعد للطبقة الوسطي التي قادت ثورة 1919، زينب فواز صاحبة رواية "حسن العواقب" 1905، ولبيبة هاشم صاحبة "فتاة الشرق" 1907 ويواصل ذلك الأفق دوره عند رضوي عاشور وسلوي بكر وفي الأجيال اللاحقة. بدايات تجريبية لقد كان التجريب الروائي فتحًا يتعلق بمواد التناول، ثم دعا محمد لطفي جمعة في مقدمة روايته "في وادي الهموم" (1905) إلي الرواية الريالستيك أي الحقيقية في مقابل الرواية الرومانتيك أو الخيالية، ومناط التمييز عنده هو تجول المؤلف في الطرق والأزقة ودخول المجتمعات ومراقبة حركات الناس ليكتب قصته التي تدرس الأخلاق والطباع والعادات، وكذلك عيسي عبيد في روايته "ثريا" (1922) ومقدمتها في دفاعه عن الحقائق المعاصرة الجديدة، ومحمود تيمور في "رجب أفندي" -1928- وطاهر لاشين في "حواء بلا آدم". فالتجريب كان منصبًا علي تصوير الشخصية المستقلة للبيئة والارتباط بالواقع ورفض تيمات وأشكال السرد التقليدية والبناء من جديد علي أساس منهج الوقائع والحقائق. ففي وصف المكان كان القص القديم يعتبره مجرد ستارة خلفية تنأي أبعاده عن العمق والكثافة ويصور ما يحتويه من مظاهر عجيبة أو كائنات غريبة. فلم يكن الوصف الممتد لأي مكان مألوفًا في القص القديم عمومًا. كان هناك وصف لملح بارز، ويفتقر تصوير المكان إلي المنظور أو العمق، وقدمت "رجب أفندي" أحياء قاهرية من الحسين إلي الحمزاوي إلي السيدة زينب، كما صور عيسي عبيد في "ثريا" مناظر من الاسكندرية. ففي التجريب أصبح للمكان شخصية روائية متميزة. وفي تصوير الشخصية اتجه التجريب الروائي إلي تصوير أفراد عاديين أي بعيدين عن البطولة والمثالية والنمطية، ولكن فرديتهم تصل إلي درجة عالية من الغرابة، وفي تصوير الشخصية اتجه الابتكار إلي البعد النفسي الذاتي وأغواره واضطراباته، واهتم عيسي عبيد بالكشف عن خفايا القلب الإنساني الغامض وزعم محمود تيمور أنه يقوم بتحليل نفسيات أفراد من الطبقتين "الوسطي والحقيرة" (كان يصف الطبقات الشعبية بأنها حقيرة)، ولا يزال ذلك الاتجاه ماثلا في كتابات الأجيال الجديدة بعد الثمانينات. وبالإضافة إلي ذلك اعتبرت الرواية الزمن بعدًا حاسمًا هو القوة المشكلة للتاريخ الفردي والجمعي للإنسان، أي تصوير الحياة بواسطة مرور الزمن في تضاد مع أشكال القص السابقة علي الرواية (الخبر التاريخي أو السيرة الشعبية) التي تصور الحياة بواسطة المعاني الجوهرية والقيم الخالدة، وهكذا اتجه التجريب منذ خلق الرواية العربية إلي أن الرواية تسرد قصة تحدث في زمان معين ومكان معين حيث يكون سريان الزمن وثيقة لارتباطه بنسيج الخبرة اليومية المباشرة في كل تفرعاتها ومناحيها. كما أن الرواية تصف فردًا وخبراته الذاتية يقوم بأفعاله داخل حبكة مبنية علي حادثة معاصرة. فالتجربة الفردية فذة بمعني مبتكرة طازجة تهتم بالجزئي والفردي بدلا من العام والكلي وتحتفي بالمعاصر الراهن. لقد وصل التجريب الروائي الذي أسس الرواية إلي أن المعيار الجمالي هو الصدق الذاتي وعمق الاستجابة الباطنية وارتياد تفاصيل الواقع في نهم لا يشبع. كل ذلك علي الرغم من أن من بين 250 رواية أحصاها علي شلش في كتابه "نشأة النقد الروائي في الأدب العربي الحديث" كان الكثير من هذه الروايات التي صدرت بين 1870 و1914 يستلهم التراث القديم في بعض أبنيته التعبيرية. فمن بدايات التجريب الروائي كانت الرواية تعتصر بعض الأنواع الأدبية التقليدية مدمجة إياها معيدة تشكيلها وصياغتها أو معيدة توكيد النبر فيها (رومانس أو مقامة)، وربما قامت بالمحاكاة التهكمية لها، وواصل ذلك خيري شلبي مجددًا فيه كما لمع جمال الغيطاني في تطوير التراث السردي وكذلك الطاهر وطار، ومن الأجيال الجديدة نجد أبو خنيجر. وترجع سمة متكررة من سمات التجريب وأفق من آفاقه وهي التوازي بين أحداث واقع تجريبي وشخصيات عادية وأوصاف تفصيلية من جهة ودلالات أسطورية من جهة أخري دون أن يكون المهم دقة التوازي. لقد كانت "عودة الروح" بداية هذا الأفق التجريبي. اختلاط الواقعي بالرمزي والخرافي وهناك سمة تجريبية نجدها في الروايات المعاصرة هي اختلاط بين السرد الواقعي والبعد الخرافي والرمزي -عند بهاء طاهر والكوني مثلاً- نجد بدايتها عند محمود تيمور في "نداء المجهول"، وكثيرًا ما نجد الإطاحة بالحبكة المتكاملة التي تسير في خط مستقيم وتفضي إلي نهاية سببية في الروايات المعاصرة نجد بدايتها عند المازني في روايته "إبراهيم الكاتب" المنشورة 1931 والتي بدأ في كتابتها 1925 وقدم الرواية في ثلاث حلقات مستقلة تربط بينها علاقات البطل بفتيات ثلاث، وسمة حداثية أخري هي عدم مراعاة السرد للتتابع الزمني، وقد يسير في الزمن جيئة وذهابا ويبدأ بالأحداث المتأخرة، ويلعب التناص في التجريب دورًا بنائيا في الربط بين أجزاء الرواية نجدها أيضًا في "إبراهيم الكاتب"، واستمر دور التناص في تجريب إدوار الخراط. ويجعل التجريب الرواية أكثر مرونة وحرية وقدرة علي التطور وعلي نقد نفسها، كما يجدد لغتها ويدخل عليها تعدد الأصوات والانفتاح الدلالي والاحتكاك الحي بواقع متغير وبحاضر مفتوح النهاية. إن التجريب المستمر جعل الشكل الأدبي الروائي متطورًا قادرًا علي الاستجابة لتطورات الحاضر وتفتحه، فهي النوع الوحيد المولود من هذا العالم الجديد المتطور ويمتلك تماثلاً معه. فهي تقع في نطاق الاتصال المباشر بالحاضر المتطور غير المكتمل الذي يواصل إعادة التفكير والتقييم دون حسم نهائي، حاضر يستطيع الناس رؤيته ولمسه وتصوره باعتباره علي نحو متجدد عالم الممارسة والملامسة، وأهم مشكلة تعرض لها التجريب في تاريخه الممتد هي التساؤل حول فكرة أن الرواية لا تتألف فقط من الحبكة والشخصية والوصف، بل تتألف أيضًا من البناء والتركيب والقالب اللغوي أي الشكل. فهي ليست مجرد نقد للحياة واحتجاج عليها وإنما تخلق حياة فنية من خيال لغوي يتصدي لتنظيم تجربة حية تهدف لتفسير الواقع لا نقل التجربة كما هي بل التجربة التي تنجزها التقنية السردية. فهذه التقنية تكتشف التجربة وترتادها وتنميها وتقيمها وتوصل معناها ولا تكتفي بأن تعكسها. فتجريب التقنية يعتبرها سيطرة علي مواد التجربة الحية وليس وقوعًا في حبائلها واضطرابها كما يقع المرء في حبائل وتناقضات تجربة واقعية. إن التجريب التقني المتفق مع شخصية وطابع العصر يستلزم ما هو أكثر من الموضات العصرية ومن محاكاة القردة لأساليب فن طليعي. فالأسلوب الصياغي يحدد نوعية التجربة ويحللها ويقوم بتقييمها لأن الشكل بنية رمزية وليس نسخة من الحياة فهو يعتمد علي امتلاك المعني واستمرار الفهم المركب البعيد عن التبسيط للواقع والذات واكتشاف لا يزال مجهولا، وعلي ذلك فتعريف التجريب هو أنه التزام بإبداع مفاهيم جديدة وتمثيلات للعالم بواسطة أساليب تتجاوز الأعراف التقليدية وأشكال التعبير التي تعد صدئة أو متحجرة، ونجد ذلك عند منتصر القفاش ومي التلمساني ونورا أمين. ففي الستينات أعيد النظر في تعريف الواقع والموقف منه وأعيد النظر في الشكل الفني وأدواته. فالشخصية أصبحت فردًا معزولاً في واقع مرفوض، لذلك تجيء تقنية المونولوج الداخلي (أو تصوير العالم من خلال وعي مثل هذه الشخصية) نازعةً للألفة عن هذا العالم. فهو ليس وعيا متآلفًا مع العالم بل هو مغترب عنه، وعي له زمانه الخاص المنفصل عن تيار الزمان الموضوعي التاريخي، ولكننا نلاحظ أن السرد من خلال الشخصية المغتربة يمتزج بالسرد من خلال الراوي الذي يقدم كل شيء من الخارج، وتتناسج التقنيتان معًا، وقد يكون ذلك في الفقرة الواحدة. فتقنيات تعدد وجهات النظر والمونولوج الداخلي معا كتابة مقتضبة حيادية في جمل قصيرة تعرض الأشياء والأفعال كما تدركها الحواس، أي تقديم العالم كما هو بعد نزع الأردية الاستعارية والرمزية المفروضة عليه (ونجد ذلك عند ابراهيم أصلان ومحمد البساطي وصنع الله ابراهيم)، ولا تجذب اللغة البسيطة الشفافة النظر إليها بل تحوله إلي الأشياء والأفعال، ولا كلام من خلال تصورات عمومية أو ايديولوجية جاهزة، بل وصف العالم كما يري دون وضع عصابات علي العينين تزيف الرؤية، تصوير العالم كما يراه الفرد شخصىًا لا من وجهة نظر جمعية مشتركة. فهناك تضاد في السرد الروائي بين عالم غير مكترث بالفرد وبين التجربة الداخلية، وقد نجد عند صنع الله ابراهيم مثلا سردًا في الهنا والآن يقطعه وميض استرجاع (فلاش باك) من الذاكرة يقدح شرر السرد الدرامي الواقعي التفصيلي. ونلاحظ عند رصد النماذج القياسية الروائية، أي أشكال الحساسية وصراعها في مصر (السرد ما قبل الروائي - السرد الواقعي ثم السرد الحداثي وما بعد الحداثي) أن الصراع لا يصل أبدًا إلي منتهاه فما من نموذج يتحقق في نقائه المثالي، ولن نلتقي بهزيمة ساحقة لنموذج ما، كما يتميز الصراع علي الرغم من ارتفاع الأصوات وتطاير الغبار في مجال النقد، بوجود مراحل انتقالية بين النماذج وندرة القطيعة الحادة. نبوءات سياسية وتحليلات اجتماعية وقد يتخلي التجريب الآن عن كتابة روايات تكون بمثابة نبوءة سياسية - ما لم تكن متخيلة- أو تحليل سوسيولوجي، فذلك يمكن أداؤه علي نحو أفضل في مقال أو بحث أو دراسة. فما يحاول التجريب الروائي تقديمه هو ما الذي يمكن أن تكتشفه الرواية وحدها وتعرضه بطريقتها النوعية عن حاضر اليوم وعن الفرد ووجوده الداخلي، وتتحدد الرواية التجريبية بعالمها النسبي الملتبس البعيد تمامًا عن حقيقة يقينية واحدة. كما تتصف بالتساؤل والتشكك فيما تقدمه أجهزة الإعلام الرائجة أو بالتساؤل والتشكك عمومًا. لذلك قد تبدأ مسارات التجريب الممكنة التي تتقاطع مع تاريخ الرواية الفعلي بمسار المفارقة والسخرية والتهكم الذي يتقاطع مع الإيهام بالحقيقة والتصوير الواقعي بنظامه الزمني المتسلسل، ويمضي التجريب في مسار إدماج الحلم أو الكابوس والخيال بالواقع ومسار تسليط الضوء الفكري علي ما في الحياة الإنسانية من مجاهل دون أن يكون ذلك بحثًا فلسفىًا، وتكثر في روايات الأجيال الشابة مقاومة ما في الحاضر من كوابيس بعد تصويرها. وهناك مسار خجول هو مسار إطلاق سراح الفرد من الركن الضيق للحياة اليومية وزمنه الخانق وربطه بالزمن الجمعي علي النطاق العولمي وفضائه الأوسع، وإن يكن ربطه بتعدد الأصوات قد صار أمرًا مألوفًا. إن مسارات التجريب كثيرة من الصعب قولبتها. إبراهيم فتحي آفاق التجريب الروائي منذ بدايته وازدهار الرواية العربية الرواية العربية نوع أدبي لم يكتمل داخل قواعد محددة بخلاف الشعر والخطابة والدراما، كما أنه ولد ونما في العصر الحديث وذو قرابة عميقة بالعصر وما فيه من تجديد. لذلك كان التجريب من مقومات وجود النوع تاريخيا، وظلت الرواية أمدًا طويلا ذات وجود غير رسمي خارج ما سمي بالأدب الرفيع. . لقد ارتبطت كما يقول جابر عصفور بدعوة التنوير بحثًا عن فن جديد للوعي المحدث وللقيم الجديدة بين جمهور الأفندية وطلائع المرأة. فرنسيس فتح الله المراش في غابة الحق المنشورة سنة 1865 في حلب كتب تمثيلاً رمزىًا لقيمة العقل وتجسيدًا إبداعىًا لمملكة التمدن التي لا تخلو من معني العدل. هناك أيضًا فرح أنطون الذي جسدت رواياته الحوار المتوتر بين الدين والعلم في ثنايا الحلم بالمستقبل، وصاغ صياغة إبداعية حق الاختلاف ومعني التنوع وتأكيد قيم المجتمع المدني الذي لا يعرف النعرة الطائفية أو التمييز العرقي أو الديني. ومن التجارب المبكرة ميراث كتابة المرأة العربية ابتداء من أليس بطرس البستاني الكاتبة الأولي مرورًا بزينب فواز العاملية التي سبقت قاسم أمين في الدعوة إلي تحرير المرأة. أمامنا الرواية في تجريبها الفن الواعد للطبقة الوسطي التي قادت ثورة 1919، زينب فواز صاحبة رواية "حسن العواقب" 1905، ولبيبة هاشم صاحبة "فتاة الشرق" 1907 ويواصل ذلك الأفق دوره عند رضوي عاشور وسلوي بكر وفي الأجيال اللاحقة. بدايات تجريبية لقد كان التجريب الروائي فتحًا يتعلق بمواد التناول، ثم دعا محمد لطفي جمعة في مقدمة روايته "في وادي الهموم" (1905) إلي الرواية الريالستيك أي الحقيقية في مقابل الرواية الرومانتيك أو الخيالية، ومناط التمييز عنده هو تجول المؤلف في الطرق والأزقة ودخول المجتمعات ومراقبة حركات الناس ليكتب قصته التي تدرس الأخلاق والطباع والعادات، وكذلك عيسي عبيد في روايته "ثريا" (1922) ومقدمتها في دفاعه عن الحقائق المعاصرة الجديدة، ومحمود تيمور في "رجب أفندي" -1928- وطاهر لاشين في "حواء بلا آدم". فالتجريب كان منصبًا علي تصوير الشخصية المستقلة للبيئة والارتباط بالواقع ورفض تيمات وأشكال السرد التقليدية والبناء من جديد علي أساس منهج الوقائع والحقائق. ففي وصف المكان كان القص القديم يعتبره مجرد ستارة خلفية تنأي أبعاده عن العمق والكثافة ويصور ما يحتويه من مظاهر عجيبة أو كائنات غريبة. فلم يكن الوصف الممتد لأي مكان مألوفًا في القص القديم عمومًا. كان هناك وصف لملح بارز، ويفتقر تصوير المكان إلي المنظور أو العمق، وقدمت "رجب أفندي" أحياء قاهرية من الحسين إلي الحمزاوي إلي السيدة زينب، كما صور عيسي عبيد في "ثريا" مناظر من الاسكندرية. ففي التجريب أصبح للمكان شخصية روائية متميزة. وفي تصوير الشخصية اتجه التجريب الروائي إلي تصوير أفراد عاديين أي بعيدين عن البطولة والمثالية والنمطية، ولكن فرديتهم تصل إلي درجة عالية من الغرابة، وفي تصوير الشخصية اتجه الابتكار إلي البعد النفسي الذاتي وأغواره واضطراباته، واهتم عيسي عبيد بالكشف عن خفايا القلب الإنساني الغامض وزعم محمود تيمور أنه يقوم بتحليل نفسيات أفراد من الطبقتين "الوسطي والحقيرة" (كان يصف الطبقات الشعبية بأنها حقيرة)، ولا يزال ذلك الاتجاه ماثلا في كتابات الأجيال الجديدة بعد الثمانينات. وبالإضافة إلي ذلك اعتبرت الرواية الزمن بعدًا حاسمًا هو القوة المشكلة للتاريخ الفردي والجمعي للإنسان، أي تصوير الحياة بواسطة مرور الزمن في تضاد مع أشكال القص السابقة علي الرواية (الخبر التاريخي أو السيرة الشعبية) التي تصور الحياة بواسطة المعاني الجوهرية والقيم الخالدة، وهكذا اتجه التجريب منذ خلق الرواية العربية إلي أن الرواية تسرد قصة تحدث في زمان معين ومكان معين حيث يكون سريان الزمن وثيقة لارتباطه بنسيج الخبرة اليومية المباشرة في كل تفرعاتها ومناحيها. كما أن الرواية تصف فردًا وخبراته الذاتية يقوم بأفعاله داخل حبكة مبنية علي حادثة معاصرة. فالتجربة الفردية فذة بمعني مبتكرة طازجة تهتم بالجزئي والفردي بدلا من العام والكلي وتحتفي بالمعاصر الراهن. لقد وصل التجريب الروائي الذي أسس الرواية إلي أن المعيار الجمالي هو الصدق الذاتي وعمق الاستجابة الباطنية وارتياد تفاصيل الواقع في نهم لا يشبع. كل ذلك علي الرغم من أن من بين 250 رواية أحصاها علي شلش في كتابه "نشأة النقد الروائي في الأدب العربي الحديث" كان الكثير من هذه الروايات التي صدرت بين 1870 و1914 يستلهم التراث القديم في بعض أبنيته التعبيرية. فمن بدايات التجريب الروائي كانت الرواية تعتصر بعض الأنواع الأدبية التقليدية مدمجة إياها معيدة تشكيلها وصياغتها أو معيدة توكيد النبر فيها (رومانس أو مقامة)، وربما قامت بالمحاكاة التهكمية لها، وواصل ذلك خيري شلبي مجددًا فيه كما لمع جمال الغيطاني في تطوير التراث السردي وكذلك الطاهر وطار، ومن الأجيال الجديدة نجد أبو خنيجر. وترجع سمة متكررة من سمات التجريب وأفق من آفاقه وهي التوازي بين أحداث واقع تجريبي وشخصيات عادية وأوصاف تفصيلية من جهة ودلالات أسطورية من جهة أخري دون أن يكون المهم دقة التوازي. لقد كانت "عودة الروح" بداية هذا الأفق التجريبي. اختلاط الواقعي بالرمزي والخرافي وهناك سمة تجريبية نجدها في الروايات المعاصرة هي اختلاط بين السرد الواقعي والبعد الخرافي والرمزي -عند بهاء طاهر والكوني مثلاً- نجد بدايتها عند محمود تيمور في "نداء المجهول"، وكثيرًا ما نجد الإطاحة بالحبكة المتكاملة التي تسير في خط مستقيم وتفضي إلي نهاية سببية في الروايات المعاصرة نجد بدايتها عند المازني في روايته "إبراهيم الكاتب" المنشورة 1931 والتي بدأ في كتابتها 1925 وقدم الرواية في ثلاث حلقات مستقلة تربط بينها علاقات البطل بفتيات ثلاث، وسمة حداثية أخري هي عدم مراعاة السرد للتتابع الزمني، وقد يسير في الزمن جيئة وذهابا ويبدأ بالأحداث المتأخرة، ويلعب التناص في التجريب دورًا بنائيا في الربط بين أجزاء الرواية نجدها أيضًا في "إبراهيم الكاتب"، واستمر دور التناص في تجريب إدوار الخراط. ويجعل التجريب الرواية أكثر مرونة وحرية وقدرة علي التطور وعلي نقد نفسها، كما يجدد لغتها ويدخل عليها تعدد الأصوات والانفتاح الدلالي والاحتكاك الحي بواقع متغير وبحاضر مفتوح النهاية. إن التجريب المستمر جعل الشكل الأدبي الروائي متطورًا قادرًا علي الاستجابة لتطورات الحاضر وتفتحه، فهي النوع الوحيد المولود من هذا العالم الجديد المتطور ويمتلك تماثلاً معه. فهي تقع في نطاق الاتصال المباشر بالحاضر المتطور غير المكتمل الذي يواصل إعادة التفكير والتقييم دون حسم نهائي، حاضر يستطيع الناس رؤيته ولمسه وتصوره باعتباره علي نحو متجدد عالم الممارسة والملامسة، وأهم مشكلة تعرض لها التجريب في تاريخه الممتد هي التساؤل حول فكرة أن الرواية لا تتألف فقط من الحبكة والشخصية والوصف، بل تتألف أيضًا من البناء والتركيب والقالب اللغوي أي الشكل. فهي ليست مجرد نقد للحياة واحتجاج عليها وإنما تخلق حياة فنية من خيال لغوي يتصدي لتنظيم تجربة حية تهدف لتفسير الواقع لا نقل التجربة كما هي بل التجربة التي تنجزها التقنية السردية. فهذه التقنية تكتشف التجربة وترتادها وتنميها وتقيمها وتوصل معناها ولا تكتفي بأن تعكسها. فتجريب التقنية يعتبرها سيطرة علي مواد التجربة الحية وليس وقوعًا في حبائلها واضطرابها كما يقع المرء في حبائل وتناقضات تجربة واقعية. إن التجريب التقني المتفق مع شخصية وطابع العصر يستلزم ما هو أكثر من الموضات العصرية ومن محاكاة القردة لأساليب فن طليعي. فالأسلوب الصياغي يحدد نوعية التجربة ويحللها ويقوم بتقييمها لأن الشكل بنية رمزية وليس نسخة من الحياة فهو يعتمد علي امتلاك المعني واستمرار الفهم المركب البعيد عن التبسيط للواقع والذات واكتشاف لا يزال مجهولا، وعلي ذلك فتعريف التجريب هو أنه التزام بإبداع مفاهيم جديدة وتمثيلات للعالم بواسطة أساليب تتجاوز الأعراف التقليدية وأشكال التعبير التي تعد صدئة أو متحجرة، ونجد ذلك عند منتصر القفاش ومي التلمساني ونورا أمين. ففي الستينات أعيد النظر في تعريف الواقع والموقف منه وأعيد النظر في الشكل الفني وأدواته. فالشخصية أصبحت فردًا معزولاً في واقع مرفوض، لذلك تجيء تقنية المونولوج الداخلي (أو تصوير العالم من خلال وعي مثل هذه الشخصية) نازعةً للألفة عن هذا العالم. فهو ليس وعيا متآلفًا مع العالم بل هو مغترب عنه، وعي له زمانه الخاص المنفصل عن تيار الزمان الموضوعي التاريخي، ولكننا نلاحظ أن السرد من خلال الشخصية المغتربة يمتزج بالسرد من خلال الراوي الذي يقدم كل شيء من الخارج، وتتناسج التقنيتان معًا، وقد يكون ذلك في الفقرة الواحدة. فتقنيات تعدد وجهات النظر والمونولوج الداخلي معا كتابة مقتضبة حيادية في جمل قصيرة تعرض الأشياء والأفعال كما تدركها الحواس، أي تقديم العالم كما هو بعد نزع الأردية الاستعارية والرمزية المفروضة عليه (ونجد ذلك عند ابراهيم أصلان ومحمد البساطي وصنع الله ابراهيم)، ولا تجذب اللغة البسيطة الشفافة النظر إليها بل تحوله إلي الأشياء والأفعال، ولا كلام من خلال تصورات عمومية أو ايديولوجية جاهزة، بل وصف العالم كما يري دون وضع عصابات علي العينين تزيف الرؤية، تصوير العالم كما يراه الفرد شخصىًا لا من وجهة نظر جمعية مشتركة. فهناك تضاد في السرد الروائي بين عالم غير مكترث بالفرد وبين التجربة الداخلية، وقد نجد عند صنع الله ابراهيم مثلا سردًا في الهنا والآن يقطعه وميض استرجاع (فلاش باك) من الذاكرة يقدح شرر السرد الدرامي الواقعي التفصيلي. ونلاحظ عند رصد النماذج القياسية الروائية، أي أشكال الحساسية وصراعها في مصر (السرد ما قبل الروائي - السرد الواقعي ثم السرد الحداثي وما بعد الحداثي) أن الصراع لا يصل أبدًا إلي منتهاه فما من نموذج يتحقق في نقائه المثالي، ولن نلتقي بهزيمة ساحقة لنموذج ما، كما يتميز الصراع علي الرغم من ارتفاع الأصوات وتطاير الغبار في مجال النقد، بوجود مراحل انتقالية بين النماذج وندرة القطيعة الحادة. نبوءات سياسية وتحليلات اجتماعية وقد يتخلي التجريب الآن عن كتابة روايات تكون بمثابة نبوءة سياسية - ما لم تكن متخيلة- أو تحليل سوسيولوجي، فذلك يمكن أداؤه علي نحو أفضل في مقال أو بحث أو دراسة. فما يحاول التجريب الروائي تقديمه هو ما الذي يمكن أن تكتشفه الرواية وحدها وتعرضه بطريقتها النوعية عن حاضر اليوم وعن الفرد ووجوده الداخلي، وتتحدد الرواية التجريبية بعالمها النسبي الملتبس البعيد تمامًا عن حقيقة يقينية واحدة. كما تتصف بالتساؤل والتشكك فيما تقدمه أجهزة الإعلام الرائجة أو بالتساؤل والتشكك عمومًا. لذلك قد تبدأ مسارات التجريب الممكنة التي تتقاطع مع تاريخ الرواية الفعلي بمسار المفارقة والسخرية والتهكم الذي يتقاطع مع الإيهام بالحقيقة والتصوير الواقعي بنظامه الزمني المتسلسل، ويمضي التجريب في مسار إدماج الحلم أو الكابوس والخيال بالواقع ومسار تسليط الضوء الفكري علي ما في الحياة الإنسانية من مجاهل دون أن يكون ذلك بحثًا فلسفىًا، وتكثر في روايات الأجيال الشابة مقاومة ما في الحاضر من كوابيس بعد تصويرها. وهناك مسار خجول هو مسار إطلاق سراح الفرد من الركن الضيق للحياة اليومية وزمنه الخانق وربطه بالزمن الجمعي علي النطاق العولمي وفضائه الأوسع، وإن يكن ربطه بتعدد الأصوات قد صار أمرًا مألوفًا. إن مسارات التجريب كثيرة من الصعب قولبتها.