«حقل نرجس - 1».. أرض سيناء مازالت تلقي بخيراتها الطبيعية    «تموين الجيزة»: عقوبات رادعة على المخابز غير الملتزمة بالتسعيرة    22 جنيها تراجعا في أسعار الفراخ خلال شهر.. اعرف الكيلو وصل كام    أبو عبيدة: أسراكم بقبضتنا ولن تدركوا مكانهم .. وربط الانتصار باجتياح رفح أكذوبة    ما أهمية بيت حانون وما دلالة استمرار عمليات جيش الاحتلال فيها؟.. فيديو    آرسنال يقسو على تشيلسي بخماسية مذلة في «ديربي لندن»    صلاح يفاجئ الجميع بطلب غير متوقع قبل الرحيل عن ليفربول.. هل يتحقق؟    هبة من الله.. المناطق السياحية في سيناء «عالمية بامتياز»    «سياحة النواب» تصدر روشتة علاجية للقضاء على سماسرة الحج والعمرة    اتصالات النواب: تشكيل لجان مع المحليات لتحسين كفاءة الخدمات    أستون فيلا يعلن تمديد عقد مدربه أوناي إيمري    مدرب جيرونا يقترب من قيادة «عملاق إنجلترا»    السجن عامين ل 3 سائقين وعامل بتهمة شروعهم في قتل شخص وشقيقه    مواطنو سيناء: الرئيس حول أحلامنا إلى واقع على أرض الفيروز    متحدث نقابة الموسيقيين يكشف السبب الحقيقي وراء إلغاء حفل كاني ويست في مصر    لأول مرة.. مدير مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ضيفا على «بين السطور» الليلة    محمد إمام يستقبل ابنه «عمر» الزعيم الصغير| صور    أمين الفتوى: "اللى يزوغ من الشغل" لا بركة فى ماله    دعوة أربعين غريبًا مستجابة.. تعرف على حقيقة المقولة المنتشرة بين الناس    جامعة المنوفية توقع بروتوكول تعاون مع الهيئة القومية للاعتماد والرقابة الصحية    جامعة المنصورة تطلق قافلة طبية متكاملة إلى قرية الحوتة بالمنزلة    عادات خاطئة في الموجة الحارة.. احذرها لتجنب مخاطرها    وداعًا حر الصيف..طريقة عمل آيس كريم البرتقال سهل وسريع بأبسط المقادير    الأردن يحذر من تراجع الدعم الدولي للاجئين السوريين على أراضيه    شاب يقتل والده بسبب إدمانه للمخدرات.. وقرار من النيابة    خصومات متنوعة على إصدارات «هيئة الكتاب»    دياب يكشف عن شخصيته بفيلم السرب»    مقتل وإصابة 8 مواطنين في غارة إسرائيلية على منزل ببلدة حانين جنوب لبنان    صدمة في ليفربول| غياب نجم الفريق لمدة شهرين    «قضايا الدولة» تشارك في مؤتمر الذكاء الاصطناعي بالعاصمة الإدارية    «بروميتيون تاير إيجيبت» راعٍ جديد للنادي الأهلي لمدة ثلاث سنوات    يد – الزمالك يفوز على الأبيار الجزائري ويتأهل لنصف نهائي كأس الكؤوس    أبو عبيدة: الرد الإيراني على إسرائيل وضع قواعد جديدة ورسخ معادلات مهمة    «التعليم العالي» تغلق كيانًا وهميًا بمنطقة المهندسين في الجيزة    إنفوجراف.. مراحل استرداد سيناء    بائع خضار يقتل زميله بسبب الخلاف على مكان البيع في سوق شبين القناطر    القومي للكبد: الفيروسات المعوية متحورة وتصيب أكثر من مليار نسمة عالميا سنويا (فيديو)    تحت تهديد السلاح.. استمرار حبس عاطلين لاستدراج شخص وسرقة سيارته في أكتوبر    اللعبة الاخيرة.. مصرع طفلة سقطت من الطابق الرابع في أكتوبر    عضو ب«التحالف الوطني»: 167 قاطرة محملة بأكثر 2985 طن مساعدات لدعم الفلسطينيين    السياحة: زيادة أعداد السائحين الصينيين في 2023 بنسبة 254% مقارنة ب2022    11 معلومة مهمة من التعليم للطلاب بشأن اختبار "TOFAS".. اعرف التفاصيل    محافظ كفرالشيخ يتفقد أعمال التطوير بإدارات الديوان العام    غدا.. اجتماع مشترك بين نقابة الصحفيين والمهن التمثيلية    مجلس الوزراء: الأحد والإثنين 5 و6 مايو إجازة رسمية بمناسبة عيدي العمال وشم النسيم    خلال الاستعدادات لعرض عسكري.. مقتل 10 أشخاص جراء اصطدام مروحيتين ماليزيتين| فيديو    وزير الأوقاف من الرياض: نرفض أي محاولة لتهجير الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته    محافظ قنا يستقبل 14 مواطنا من ذوي الهمم لتسليمهم أطراف صناعية    افتتاح الملتقى العلمي الثاني حول العلوم التطبيقية الحديثة ودورها في التنمية    عربية النواب: اكتشاف مقابر جماعية بغزة وصمة عار على جبين المجتمع الدولى    رسميا .. 4 أيام إجازة للموظفين| تعرف عليها    منها الطماطم والفلفل.. تأثير درجات الحرارة على ارتفاع أسعار الخضروات    تنبيه عاجل من المدارس المصرية اليابانية لأولياء الأمور قبل التقديم بالعام الجديد    بدأ جولته بلقاء محافظ شمال سيناء.. وزير الرياضة: الدولة مهتمة بالاستثمار في الشباب    الإفتاء: لا يحق للزوج أو الزوجة التفتيش فى الموبايل الخاص    اتحاد عمال مصر ونظيره التركي يوقعان اتفاقية لدعم العمل النقابي المشترك    "بأقل التكاليف"...أفضل الاماكن للخروج في شم النسيم 2024    دعاء في جوف الليل: اللهم اجمع على الهدى أمرنا وألّف بين قلوبنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة في "وشم الهناجر" ل سعدية عبد الحليم
نشر في الواقع يوم 22 - 10 - 2010


بقلم د. محمد طلعت
تمرد السارد على الكاتب
في جماليات السرد القصصي عند سعدية عبد الحليم
القصة الحقيقية لا ترتكن إلى الفضاء الواحد، إنها تتحرك في الزمان والمكان، تعيش وتساير وتلتقط وتجسد وتدقق في كل التفاصيل وبجميع أنواعها وهذا سر من أسرارها.
ومن هذا المنطلق نبدأ بتعرف عالم سعدية عبد الحليم القصصي، فربما الفقرة السابقة في تعريف فن القصة كما يجب أن تكون؛ لهو أشد مصداقية دالة على المجموعة القصصية "وشم الهناجر"!
ونبدأ القول ب
التقديم:
تُعرف سعدية عبد الحليم في أوساط التلقي المصري والعربي بكونها مخرجة أفلام وثائقية وتسجيلية، فضلا عن كونها المستجد ككاتبة للقصة، وقد سمح لها هذا التراكم المتنوع بأن تخوض المعترك القصصي بقلم عنيد سوف يكتب له التحقق في إضافة عوالم أخرى لفن القصة بعين أو بكاميرا مخرجة قديرة تصنع من لا شئ شيئا فعالا، وسوف تشغل إذا استمرت على غزل ثوبها الجديد في فن القصة ساحة المشهد الأدبي المصري والعربي.
وطالما أن المجال لا يسمح بالحديث عن استعراض إنجازاتها في مجال الإبداع المرئي فى أفلامها الوثائقية والتسجيلية والتعرض لها نقديا، فإننا سنقتصر في هذه المقاربة البسيطة تناول متنها القصصي "وشم الهناجر"، مع التوقف قليلا عند أبعادها السردية الجمالية والفنية، وعند كل ما يمكن أن يثيره لدينا هذا المنجز القصصي من أبعاد نقدية.
لذا سوف نتبع بعض جزئيات جماليات السرد في وشم الهناجر. وهذا سيكون من خلال إلقاء الضوء على جماليات البعد الدلالي للعنوان مع تحليل المتن القصصي، والوقوف على البعد الدلالي لسردية المتن القصصي، وإظهار ما وراء حكائية السرد فى وشم الهناجر.
وشم الهناجر
" وشم الهناجر "، هو عنوان المجموعة القصصية للقاصة المصرية سعدية عبد الحليم، تقع المجموعة في (144) صفحة من القطع المتوسط( مع تقديم نقدى للدكتور أبو الحسن سلام يحتل 44 صفحة!!، وتضم (15) قصة قصيرة. وقد صدرت عن دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر بالإسكندرية.
البعد الدلالي للعنوان:
يطرح عنوان المجموعة القصصية لدى القارئ سؤالا رئيسيا، حول احتمالاته الدلالية، وكذا علاقته بالمتن القصصي، خاصة وأن الدراسات النقدية الحديثة لم تعد تنظر إلى المنجز الإبداعي بمعزل عن العنوان، ومن هنا تبرز أهمية العنوان في هذه الدراسات النقدية مع ما يمكن أن تقدمه من مفاتيح للدخول إلى العوالم النص للنص القصصي .
ورد في معجم الصحاح أن "وشم الهناجر"، ف وَشَمَ اليَدَ وَشْماً، إذا غرزها بإبرةٍ ثم ذَرَّ عليها النَؤُورَ، وهو النِّيلَجُ، والنيلج مادة مثل الحناء، والاسم أيضاً الوَشْمُ، والجمع الوِشامُ. واسْتَوْشَمَهُ، أي سأله أن يَشِمَهُ. وهذا هو العمل الأساسي للغجر في قصة المجموعة الرئيسية وشم الهناجر، و بهذا تعطى الكاتبة من خلال عنوانها التوضيح الكامل لطبيعة العمل الذي يقوم به نوعية من البشر تلك الشريحة التى تكتب عنها الكاتبة.
وجاء أيضا في الصحاح أنه يقال: بينهما وشيمَةٌ، أي كلام شَرٍّ وعداوةٍ. ولعل هذه الوشيمة المحور الخفي التي تدور عليه علاقات الشخصيات داخل المجموعة القصصية فرابط الحب غير متوفر إلا فى القليل النادر فثمة علاقة منفعة ما تربط بين الشخصيات التى تؤدى فى النهاية إلى روح العداوة وعدم الرغبة في قبول الآخر فى التمسك بالمصلحة الذاتية والأنانية كما فى أغلب قصص المجموعة.
وجاء أيضا فى الصحاح حول معنى الوشم، فيقال أوشَمَتِ الأرضُ: ظهر نباتها. وأوْشَمَ البرقُ: لمع لمعاً خفيفاً. وهنا محور أخر يدل عليه عنوان المجموعة إذ يوضح لنا ثمة شئ آخر مغاير أو المعادل الموضوعى للانا والأنانية وروح العداوة وهو (الخير) النقيض الأخر الذي تحوم حوله بعض شخصيات المجموعة فثمة بريق يبرق فى الفضاء القصصى للمجموعة فينير لحظة الاغتراب والغربة للشخصية، ولعل هذا متكثف بشدة في قصة "حالة خاصة" حيث تظهر الأرض النبت الطيب بعد الجدب وسنوات العمر الضائعة فى متاهة الحب الافتراضي.
وجاء أيضا فى الصحاح حول معنى الوشم، فيقال أوْشمْتُ الشيء، أي نظرتُ فيه. البعد الأخير الدلالي الذى يشير إليه العنوان، فهو هنا يفتح أفق التأمل حيث البراح الإنساني متمسكا بالقيمة التى يجب أن تكون، ولعلها هنا رسالة المجموعة الخاصة التى تقدمها الكاتبة على استحياء لقرائها وهى ضرورة النظر فى الشئ مرة أخرى وإعادة هيكلة أو جدولة الحياة بكل ما فيها وبكل ما بها من أبعاد قد يصعب لمها مرة أخرى. لكن فرضا هو أن ننظر مرة أخرى فى ذواتنا وحياتنا.
أما "الهناجر" فهى مفردة تدل على اسم مكان كالمخيم لبعض الوقت، يشير على التنقل لا على الثبات.
وهكذا يعطى العنوان دلالة التنقل ما بين النفس والمكان مصحوبا بروح الاغتراب.!
إن العنوان الذي قدمت به القاصة سعدية عبد الحليم متنها القصصي يعبر عن واقع مرير موشوم بالترحال والاغتراب، ولم يكتف فقط بالترحال أو بالاغتراب المكانى أو حتى الزمانى بل تعدى جسور النفس والذات والروح والعقل معا لتوشم سعدية هنا القلب أيضا لإعادة النظر فى صفحات العقل والروح ، كما يعبر أيضا عن المزدوج الثقافي والاجتماعي فى تجسيده الإنساني الذي لا يمكن فصله عن الواقع المُعاش.
فهل يمكن اعتبار وشم الهناجر، وشمنا. الذى نرتحل ونغترب فى إطاره؟
أبعاد الهيكل القصصى :
تتكون المجموعة القصصية من (15) قصة جاءت على النحو التالي:
أصل وصورة ، الهاربون، الوقت وقطرات المطر ، برقية عزاء، بلا عنوان ، ترنيمات على أوتار الزمن، حالة خاصة ، ست غرز ، شات وفات ، علامة تعجب، فنان تلقائي، لقمة عيش، ولكنها لا زالت تتذكر، وشم الهناجر، نهاية سعيدة.
ويلاحظ القارئ أن نصوص هذه المجموعة موزعة على موضوعات اجتماعية مختلفة ومتنوعة من حيث الهم العام، كما تتناول مساحات سردية عريضة تبدأ ب:
أولا: تحليل المتن القصصي
إن من جماليات " وشم الهناجر" إنها قدمت نصوصا مفتوحة غير منغلقة على ذاتها، حيث أعطت للقارئ حق المشاركة في عملية الإنتاج الحكائى، حيث لم يكن(القارئ) مجرد مستهلك أو متلقى عابر. وهذه المشاركة لا تتضمن قطيعة بين البنية والقراءة، وإنما تعني اندماجهما في عملية دلالية واحدة فى تعدد الأفق واتساع فضاء النص، فممارسة القراءة بهذه المشاركة تكون بمثابة إسهام في التأليف. وانطلاقا من هذا سوف نقرأ - نؤلف المتن القصصي لوشم الهناجر مرة أخرى.!
ولنا أن نتخيل وشم الهناجر كبيت فيه ما فى البيت من دهاليز وقاعات وشرفات وأرائك ومزاليج، وكي ندخل هذا البيتوشم الهناجر علينا أن نجرب مفاتيحه حتى يفتح لنا في يُسر، ويكشف لنا عما فيه!
1- أصل وصورة. المفتاح الأول لوشم الهناجر. يضعنا السرد أمام حالة كثيرا ما تتكرر في مراجعة النفس" يبحث في أعماق الذاكرة عن وجه يعيد إليه البهجة " ومحاسبة الذات إلى حد القسوة المتمثلة فى " ينتفض واقفا خارجا من مسوخه وأطيافه وكوابيس غفوته"؛ فنكتشف ما بداخلنا. وأيا كان الاكتشاف مسخا كان أو ملاكا. فينفرد السارد والمسرود عنه بالشخصية الواقعة تحت مخدر السرد الذى يعرينا بين السطور أو المسخ الذي يوجهنا بحقيقة ذواتنا الممسوخة السافلة شديدة الوقاحة في المرآة . السرد هنا هو المرآة التى ينعكس فيها هياكل وصور تعبر كل منهم على حدة عن شخصية ما تقبع بداخلنا.
2- الهاربون. المفتاح الثانى لوشم الهناجر. الهاربون والسرد الهارب ما بين لحظة الضياع ورغبة التحقق " وهي جالسة في ركنها المفضل من المقهى الذي اعتادت الذهاب إليه في محاولة للتفاعل مع الحياة من حولها"، لكنه الزمن لن يعود إلى الوراء مهما" توقفت عقارب الزمن في المقهى" فالوقت يمضى وجروح الماضى تحاول أن تخرج " في صيحة المرأة" ولكن سطوة السرد وقدرة السارد المتجبر كالقدر الذى لا يجدى معه هرب أو" تأنيب الضمير" يؤكد أن الزمن لن يعود إلى الوراء!
3- الوقت وقطرات المطر. المفتاح الثالث لوشم الهناجر. السرد المعذب إنسانيا وعشقيا في العشق المبتور بسكين بارد صدأ.
4- برقية عزاء. الدهليز الأول لوشم الهناجر. السرد المحزون المغترب المكنون على كنز لم يكتشف بعد داخل عم إسماعيل بطل قصة "برقية عزاء".
5- بلا عنوان. الدهليز الثاني لوشم الهناجر، لعل السرد في قصة "بلا عنوان" بلا عنوان فعلا ناقلا لنا صورة من واقع الحياة اليومى ما بين حب ملائكى يضل الطريق بين الأديان.. والسارد هنا الذي ضم أكثر من حكاية لأكثر من شخصية في حيز صغير،بداية من خالد وايزيس إلى ركاب الأتوبيس إلى جيران خالد ثم أقارب زينب إلى القسيس. ثم المحور الأساسي في الحكاية وهو السائق الذي يدل برمزيته إلى الأيام التي تعرض عليها نماذج حياة الناس، والأتوبيس أو الحافلة التى يقودها هى الدنيا بكل ما تحمل من نقائض من مسلم إلى مسيحي إلى جاد إلى لاهٍ إلى عابث إلى الدنيا التي يحملها وجوه البشر الذين" أداروا وجوههم للنوافذ في محاولة غياب عن الوعي بمتابعة أحداث الطريق. الواقفون مهمومون بالبحث عن مقعد للجلوس أو موضع قدم أو أشياء أخرى. القريبون من المشهد اعتبروه حالة خلاف عائلي يحسم فلا داعي للتدخل"، وحقا قد كان، فلا داعي للتدخل هي الدنيا هكذا شئنا أم أبينا تسير وفقا لمخطط لا يعلمه البشر سوى بعض المعلومات أو القدرة الضئيلة التي يمتلكها البشر فيحولون الدنيا إلى جحيم. ويختلط السرد ويمزج ما بين الزمان والمكان فى رباط حريري حساس ما بين الشد والجذب ما بين اللين والإرهاب ما بين حب الحياة وحب الله. إلى أن ينتهى السرد بنا إلى حالة خوف على مصير زينب الصغير فتحملها الأيام المتجسدة فى السائق" حمل وليدته ضمها بخوف وسار خارجا وسط ذهول أمه وزوجته".
6- ترنيمات على أوتار الزمن. الدهليز الثالث لوشم الهناجر. السرد فى " ترنيمات على أوتار الزمن" حالة شجن ونظرة عين فى "التيه الممتد في بحر عيون خبرت الحياة" يبدأ السارد فى ذكريات مرت.. عصفت بكل جميل كان له حضور حتى سيرة الآباء أو الأشقاء الذين ذهبوا أحياء عند مليك مقتدر شهداء في سبيل إسعاد وطن تبرأ من ذويهم!
وهنا يضعنا السرد فى مأزق حرج بين واجبنا نحن نحو هؤلاء الذين أطلقنا عليهم حماة الوطن أحياء الله وعجزنا على مسح دمعة عين مازالت فى قلوب الأطفال نحو مستقبل تعس وتركناهم" جيل بلا قضية"، وذهبنا نحن إلى الاغتراب والهجرة باختيارنا. أردنا الحياة السهلة ف " هاجرنا نحن كل إلى مقصده" وتركنا خلفنا أحلامهم ورغباتهم فى التحقق والوصول إلى الأنا الموصولة بال نحن، وبكل بشاعة الموقف الأناني تركنا " هذا الجيل التائه في مساحات الفراغ ما بين المتغيرات الكبرى"، والأبشع أننا نطالبه بأن لا يغرق بأن يكون له وطن. ولعل السارد سخر من هذا حين رصد صورة من ضحوا بأنفسهم وأرادوا أن يكون لهم وطن فى المجد والعلا عالٍ رفراف رايته فى الكبرياء والعزة، وانتهى بهم الحال إلى صور ذكريات على جدار أصم" فوق مكتبها صورة شهيد وعلى جدار حجرتها صورة شهيد آخر"!
ولآن كل الأشياء فقدت القيمة" فقدت كل الأقوال معانيها" يطل السارد من بين السطور ليصفعنا بعجزنا بعدم قدرتنا على فعل أي شئ " مرضنا بشواغلنا وصغائر الحياة"، ولهذا بقسوة المستبد كان السارد الذي ألهب سوطه ظهورنا ب" الملامح الشاردة والنظرات الباحثة عن عزيز مفتقد"، ومع كوننا نرى هذه الملامح جيدا ونطالعه كل يوم إلا أننا عاجزون عن فعل أي شئ لها!
ومازال السارد وقوة السرد فى سبنا بكل قبيح وإظهار عجزنا. فهو سارد يعلم ماذا يقول وماذا يريد وكيف يضرب تحت الحزام؟ حيث أعلن وفاتنا. نحن عابرون فى العمى والخرس والطرش" أنهيت إجراءات مروري وعبرت... فلم اقترب ولم أسأل عن الأحوال" على الرغم من قسوة الموقف إلا أن السارد يضع حدا للمهزلة وينصر المهزوم الضعيف الذى لا حول له ولا قوة فى مشهد أكثر رقيا بلا مواعظ أخلاقية أو تربوية فجة، إنما فى تحد وشموخ، فأنها"لا زالت تجاهد في سبيل موطئ قدم لتعرف أين تكون".!
7- حالة خاصة.القاعة الأولى لوشم الهناجر. السرد في حكاية " حالة خاصة" يضعنا أمام مرآة ذاتنا لنكتشف بشكل ما أننا كلنا حقا يوسف ذاك الشخصية الحقيقية المتحققة الوحيدة بين شخصيات القصة، والأكثر تحققا من بطلة الشخصية الرئيسية . الأمر الذى يجعل السرد يأخذ منحنى جانبيا وأساسيا فى محور الحدث وهو رغبة الشخصية الرئيسية فى التحقق مع يوسف؛ لعلها تجد ذاتها وأيامها الحلوة، أيام كانت والأمل والحياة المشرقة المبهجة تداعب الصبا، ولكنه الوهم والفجر الكاذب الذي صدم الشخصية بأن كل ما كان فى الطريق كان مجرد ذكريات وأطلال لا يعرف أحد معالمها، فتندهش إلى مجريات الأحوال المتبدلة إلى عالم أخر غير عالمها الذى كانت ترى فيه النور والمعرفة القابع فى دكان صغير يمثله عم يوسف بكتبه القديمة. والعجب أن الناس ما عادت تذكر الأطلال ولا من كان هناك أو هنا. ورحل كل شئ تغير على جنبات الطريق فما عاد أحد يهمه من الأشياء إلا أشياءه فقط، وتسأل" من يهمه أمر دكان الكتب القديمة وما آل إليه صاحب الدكان (يوسف ) تود أن تصيح متسائلة أين يوسف ؟"
ويوسف هنا حسب رؤية السرد له. هو الحد الفاصل ما بين النور والنار" إنه قادم من بين سطور أسطورة تحمل أسرار القديسين يضمها غلاف عتيق"، وبهذه الصورة السردية المثالية لشخصية تكاد أن لا يكون لها وجود في الحياة أصلا إلا فى مخيلتنا فهو على أية حال يقتات من عمله هذا بعض النفع وإن كان زهيدا" أما هو فقد توسط الطرفان يبيع لمن يبحث عن المعرفة ويشتري ممن لا حاجة له بكتب جاءته ضمن تركة أو من يتنازل عن مقتنياته من الكتب قبيل الرحيل".
وبهذه الجمل السردية .. الأقرب إلى حالة بوح خاص في حكي مشجون بحالة ولع إلى شخص ما في الغد ربما يأتي ومعه الحياة للشخصية الرئيسية الساردة التى تبحث عن شخص معين يحمل نفس سماتها وملامحها الروحية . وينجلي لنا الموقف المتأزم والنكتة المريرة وغباء عقول من ينتمون إلى البشر. فدوما هم يتخلصون من أشيائهم التافهة، وهى نفس الأشياء النادرة جواهر مكنونة بحساب يوسف. وهذا التناقض والصورة المزدوجة لنظرة الأشياء. يتصارع السرد الداخلي ليستنهض الشخصيات إلى وضع علامات واستفهامات تصل لحد الفطنة تارة وأخرى تصل لحد السذاجة، وهى فى النهاية مجرد" تركة من الأوراق لا يقدرها الوارثون فيلقون بها أو يبيعونها".
السارد يغزل ثوبا فضفاضا من المشاهد التى تضع القارئ فى الختام إلى الاعتراف حتى لو كان ضمنيا بأن داخل كل منا بعضا من يوسف. فما منا من يهوى اقتناء الأشياء على اختلافها؟! فهؤلاء عائلة الزوج المتوفى أرادوا الاحتفاظ بالإرث المادي. تاركين الإرث الذي لا يجلب لهم أي نفع في اعتقادهم ألا وهو بعض أوراق وكتب ضاقت بها المكان؛ فأزاحوها إلى زوجة المرحوم التي هي الأخرى ضاقت بعض الشئ من هذا الإرث" تكدست الكتب والمؤلفات القديمة في بيتها حتى ضاقت بها هي التي كانت من قبل مولعة باقتناء الكتب"، فقررت البحث عن يوسف فى زحمة المقتنيات، ولكنها لم تجد يوسف لأن يوسف الحقيقى موجود بها متحقق بصورة أخرى في كائن آخر "لا تدري لماذا وجدت فيها ريح يوسف"، ولعل هذا ما صادف وجود شاب من بين الألوف على شبكة النت. جاء لها وأراد أن يتحقق بما لديها من كتب قديمة " كان من بينهم شاب جاء يحمل حصيلة من الكتب القديمة ، يرغب في ضمها لمكتبتها ، تفقدتها جميعا"، فتشعر معه بألفة غريبة برباط قوى وكأنه" مثالا لابن لم تلده"، وهنا قد تحققت شخصية الساردة مع هذا الشاب الأقرب إلى الحلم المحال.
8- ست غرز. القاعة الثانية لوشم الهناجر، ست غرز مازال السارد هنا ينقل لنا الحياة بكل تفاصيلها واهتماماتها حتى لو كانت بسيطة ببساطة ناسها فهنا الساعى الذى يتحسس دوما" تحسس جيبه بحثا عن الحبة الزرقاء" الأمل والرغبة فى إثبات الذات أمام الزوجة عندما فشل في إثبات الذات أمام فاتورة أنبوبة الغاز الفارغة و إثبات قدرة لاحتساء كوب شاى كامل بدلا من الشفطات التى يسحبها خلسة من كوب المدير! برغم طرافة الموضوع والمعالجة فالسارد هنا ملم وماهر على تفاصيل قصته التى لم تهرب منه بداية من العادة الصباحية فى دخول الحمام " وهو كما هي عادته يوميا استيقظ خاويا من كل الأفكار تحرك مغيبا إلى حيث طقوس الصباح المعتادة ، يغيب في دورة المياه مواصلا إغفاءاته بين قضاء حاجته وشرود في اللاشئ المبهم البعيد ، يفيق.. يتحرك مغيبا إلى مصدر المياه الشحيح يكتفى بما يستطيع تحقيقه من نزول الماء على جسده بما يعتقد أنه اغتسل بين تكرار انقطاع واندفاع الماء وعودته"، وصولا إلى حالة الاستسلام المعاد الباهت" واستسلم لآلية الحياة هنا كما سنها من سبقوه . لا يفرح لا يحزن لا يغضب لا يفكر"، غير مكترث ولا مبال سوى أن يمضى ويسير كالمغيب " الحياة تسير هادرة تارة هادئة تارة وهو حيثما يجرفه التيار يمضي"، ختاما إلى الخروج عن المألوف ليكسر هذا الروتين الذى أصاب حياته وأعضاء جسمه التى أصابها العطن والانحلال والانهزام فى ليالى الخميس فيستعين بالصديق، والصديق هنا متعدد الأوجه بتعدد أوجه الأشياء التى يطمع فيها بكينونة أخرى قوية نابهة ناشطة مركز الكون. استعاد الإنسان المفقود بدواخلنا المنهزمة. ويا له من سحر داعر بفكر عاهر ابتكرته كائنات الزمن الحديث المسماة مجازا بالبشر. أوهمه الآخرون من البشر بأن الإنسان المفقود يمكن أن يعود بالحبة الزرقاء. لذا نجد السارد يأخذ شخصيته برغم الجرح و" ست غرز" وتعطيل العمل وحوائج الناس المرتبطة بوجود هذه الشخصية أمام باب المدير، لم يعنيه الأمر شيئا سوى رغبته الأكيدة فى أن يتحقق مع "أم العيال" بأن تنتصب إنسانيته المفقودة المرتخية.!
9- شات وفات. القاعة الثالثة لوشم الهناجر. قسوة السرد أم الغربة؟ وكليهما سارد قاس فما أبشع إحساس الغربة حين تكون فى البيت الواحد وبين الأخوة فى العائلة الواحدة.
10- علامة تعجب. الشرفة الأولى لوشم الهناجر. استفهامية السرد .. السرد هنا يشكل فارق حياتيا وأيدولوجيا وقوميا على مستوى الأنا والأفراد والمجموعات والكيان الوطني كله الذى انعدم فيه كل قيمة، وعلت قيمة التسهيلات فقط. ولعل الكاتبة هنا تقدم نموذجا الأوفر فى هذه المعايشة المتناقضة وهى حياة " صحبة عبد الباري حسان اسم بشهادة الميلاد ، رئيس مجلس إدارة مجموعة فرندلي . شركات ومتاجر وأعمال وسفرات . صحبة ابنة عبد الباري حسان صاحب محل العصير القديم بميدان السيدة زينب"، فكيف لابنة بائع العصير تصبح رئيس مجلس إدارة؟ والاستفهام الأكثر مرارة هو من أين "فيلا بالمنصورية"؟ ويأتي الرد بلا علامة تعجب خاصة أنها باعت ضميرها مع أول من طلب شراء الضمير. وكم من ذئاب البشر من يهوى شراء الذمم لمصلحته وتجنيد الطامحين حيث سقف الشيطان أو الناقمين على أوضاعهم. وهنا يضعنا السارد أمام شخصية موظفة الحكومة التى تمتلك مفاتيح كنوز الوطن فتقدم المفتاح تلو الأخر لمن يدفع الثمن، لمن ينشلها من فقرها، لمن يداعب شيطانها. لم يتركنا السارد هنا وإلا رسم لنا صورة امرأة ثرية نشتهى القرب منها لا لجمالها إنما بما تحمل من كنوز. فهناك سيارة مكيفة وبركة سباحة داخل قصرها وخدم وحشم وكل ما تحتويه قائمة الأغنياء من بذخ وحياة راغدة ناعمة. ويا له من سارد ماهر ماكر لم يغير بطلته ولم يشعرنا أنها نادمة على ما فعلت حيث ركبت موجة انفتاح البلد واستغلال النصر لصالحها. وكنتيجة منطقية لكيان أنثى مازالت تتمرد بداخلها لمن يداعب جمالها أو بقايا أنوثتها التى أوشكت على الهروب حين تقابل رفيق القلب القديم فى المتجر، وتقبل عليه فرحة إلا إنها الصدمة ولطمة على الدهر والعمر والقلب والجمال. لم يعرفها.! وهنا مرة أخرى يبرع السرد فى وصف مشاعر الأنثى العادية التى لا تهتم بالثراء إنما تهتم بالذكر الذي يجب أن يخشع بضراعة على محرابها.. ولأن هذا لم يحدث فهنا بدا الضمير الأنثوي فى الغضب والقلق وعلامات التعجب. فى حين أنها لم تتعجب عندما باعت الوطن وباعت الأسرة. أسرتها الفقيرة وأخاها البطل فى حرب أكتوبر الذى مات تحت أنقاض البيت القديم، لم تثر لكل هذا. إنما هو قلب الأنثى الذي يثور دوما عندما يتم صفعه في مشاعره .. وها هى "صحبة" – الشخصية الرئيسية بالقصة- ينكرها رفيق القلب مرتين. قديما وحديثا، ربما فى الثانية كان موفقا في نكرانها، هكذا نفهم من السرد المستفهم.
11- فنان تلقائي،الشرفة الثانية لوشم الهناجر. وهنا تكمن جماليات السرد القصصي عند سعدية .. فنان تلقائي هو سيناريو معاد ومكرر لدرجة الملل التي أصابت الناس بالعمى فما عادت ترى فى الوجود وجودا حقيقية إلا وشوهته حطمته على درجات المعرفة الأولى، حسن بطل القصة أراد أن يبتكر.. أن يقول أنا ذا ، فتتهمه الناس بالجنون، ففى فنان تلقائي الصورة مقلوبة والميزان جائر غير عادل بالمرة فهناك حسن فنان نحات. يبتكر من العدم فنا راقيا ولأنه فنان بسيط لا يحمل من الدنيا إلا هم لقمة العيش فعاش كما يعيش من يبحثون على لقمة العيش فى صفائح قذورات الذوق العقيم، داعبه الأمل الكاذب" حسن إحنا معجبين بفنك عايزين نهتم بيك وبفنك" وحين أهتم حسن بفنه، وبدأ يعرف ويقرأ ويجادل ويناقش قالوا له" عفوا قد كنت فنانا تلقائيا أنت الآن تعرف أنتهي دورنا." ولأن الدور منتهٍ مسبقا إلا أن دور الحلم. حلم البسطاء فى الطموح، فى تحقق الأنا لم ينته بعد فأخذ حسن يجوب حوارى الغورية بحثا عن أعضاء جمعية الأمل الوهمية" جمعية محبي الفنون التلقائية" فقد أغلق الأمل وانتهى الحلم بإغلاق مقر الجمعية. وبقت بقايا مس شيطان الفن فى عقل حسن حين عرف وقرأ حين استقر بداخله أنه فنان موهوب، وأنه ليس مخلوقا لجلب لقمة العيش فقط. أدرك بتلقائية فنه أن الحياة فيها ضروريات أخرى غير" فانوس رمضان"! يحاول صديق البطل هنا أحمد وهو شخصية موضوعية تمثل باقى القطيع فى البحث عن لقمة العيش وانتهاز الفرص والمناسبات والمواسم لتسخير مواهبهم فى جلب لقمة العيش، فيحاول أن ينقذ شريكة فى الدكان وصديق عمره "كفاية يا حسن يلا نشوف شغلنا رمضان قرب"، وعندما تمرد البطل الرئيسى على الزمان والمكان والمناسبة رافضا الانقياد إلى ثقافة القطيع مرة أخرى؛ فكان رد الشخصية الثانية بالقصة أكثر ألما وأكثر فجعا حين ينقاد الفن وراء المسخ مقلدا حتى يضمن له البقاء حتى لو على الهامش، فحين يصرخ أحمد فى حسن حتى يفيق من لوثة الفن "فن إيه يا حسن إحنا بقينا بنستورد فوانيس رمضان من الصين". وباقتدار منقطع النظير تختم الكاتبة مشهدها بدوامة الحياة" من نافذة ضيقة أطلت امرأة تنزع رأسا من الثوم المعلق تابعت ما يجري لبرهة قبل أن ينطلق صوتها مجلجلا نادت طفلا يلهو ويتسكع متفقدا مشاهد الحارة المتكررة" والى هنا كان يجب أن تنهى سردها الكاتبة حيث تعدد الفضاءات الواسعة للحياة المعادة التى لا ترى اى فن أو اى حلم. هى حياة المصريين الحالية – للأسف – فمن شدة دلالة هذه الفقرة السردية، وواقعيتها القاسية ألغت الفقرة التالية لها" يأس أحمد من استعطاف حسن أو إيقاظه سار يضرب كفا بكف يردد.. - نروح فين منهم أكل عيشنا زاحمونا فيه نروح فين منهم ظل يرددها حتى قطعه صوت المرأة المطلة من النافذة مجلجلا ... - الله يخرب بيوتهم ." .. فما كان للكاتبة أن تغامر وتضيف شيئا آخر قد يخل بسرد المحبك منذ سطرها الأول بقصتها،ويبدو أن الكاتبة تمردت على الراوي السارد، وأرادت أن تضيف شيئا أخر ظنا أنها تخدم فكرتها المطروحة. ولكن هو تهور القلم أحيانا الذي معه نعذر أي إضافة وإن كانت بلا قيمة، لأن قلم السارد هنا يبدو انه يمتلك الكثير عن المشهد ويبدو انه كان فى صراع مرير بينه وبين الكاتبة ما بين الشد والجذب، ولعلها التجربة الأولى للكاتبة فهذا يغفر لها تمرد قلمها عليها!
12- لقمة عيش، الشرفة الثالثة لوشم الهناجر.. لقمة عيش.. قسوة السرد هنا هو قسوة الحياة نفسها فلم تتكلف الساردة اى اصطناع فى قصتها" لقمة عيش" ولكن العنوان مباغت مراوغ فبين خبايا السرد الذي بدا أن ينجلى من اللحظة الأولى في مسألة القتيلة إلى رحلة القطار إلى باقى التفاصيل الأخرى لم يقدم لنا سبب السعى المباشر وهو كما يخبرنا به العنوان لقمة العيش إنما الأمر أكثر تعقيد إلا وهو البقاء. رغبة ما دفينة داخل الشخصية الرئيسية "رشيدة" لم يكن سعيها فقط من أجل لقيمات خبز أو طعام صدقة بجوار ركن مهجور فى بيت يحيى عرسا. بل هو السعى فى حد ذاته ليتناقض معه كل معادلة موضوعية فى المأكل والملبس والمشرب والمسكن. هنا لغز تركه السارد ولم يكشفه لنا رغم خدعة العنوان البراق. ويصر السارد على قذف علامة الاستفهام والحيرة والدهشة حين لم يكشف عن سبب العمل والسعى الشخصيتين الرئيستين فى القصة، واختتم ب" في الكوخ بدأتا بإحصاء حصيلتهما من اليوم وفي عقل كل منهما ما تدخر الأموال من أجله"، فى الكوخ. وفى الكوخ تبدأ هنا الحياة البسيطة المجهولة رغم ما معهما من أموال حتى لو كانت ضئيلة ربما تصبح مع الأيام أموال وفيرة كنزا ما يحقق لهما السعادة والفرح.!.. الفرح هنا طريق رمز به السارد بالبيت. والجد والتعب طريق أخر رمز به السارد إلى الكوخ.. طريقان فيهما ما فيهما من متع وعناء. طريق على هامش الحياة سهل أن يهدم ويحطم. وأخر ذو أساس متين قائم على امتلاك سبل الحياة وأشدها متعة ألا وهى الفرح .. السعادة. وهى السعادة التى تتاجر بها الشخصيتان وتعرض منها نوعا من الطبل والرقص وإدخال البهجة للأخر فينعم الأخر عليهما ببعض النقود أجر على إسعادهم. ومع هذه الأموال تركنا السارد وجها لوجه مع سؤال ترى لماذا تدخرا هذه الأموال؟ هنا تفرد السرد بهذه المسألة وأجاد في ختام قصته بهذه الجملة" وفي عقل كل منهما ما تدخر الأموال من أجله" وبالقطع ليس لقمة العيش وحدها السبب فى ادخار هذه المال! لا لم تنته القصة إلى هذا الحد بل تركها السرد مفتوحة على مصرعيها حين استخدم جملة" وفي عقل" وهذا يشير إلى عوالم أخرى سوف تجئ فى المستقبل تفسر لنا لماذا تدخر كل هذه الأموال وما هو الحلم الذي يدار فى عقلهما؟. ربما هو السعادة والبيت الفرح ! ربما.
13- ولكنها لا زالت تتذكر،المزلاج الأول لوشم الهناجر..... تسلسل السرد فى قصة" ولكنها لازالت تتذكر" يكاد أن يأخذك بتنقلاته السريعة بين الماضي والحاضر والمستقبل" تنظر إلى مالا نهاية" وأنت مبهور بهذا الحكى السحري الذي ينفك رويدا رويدا إلى لحظة التنوير. وسبب غياب أو مرض "عائشة" الأم أو الحبيبة السابقة التى تذكرت حبيبها السابق "عرفان". يضعك السرد فى حدثين متشابهين. حدث صار فى الماضي، وحدث زمانه جارٍ فى الحاضر وبينهما يجوب وعى عائشة الفتاة الصغيرة العروس الجميلة التي تستعد لليلة زفافها على حبيبها. وفى نفس الوقت هي الأم الكبيرة التي تحتفل بزفاف ابنها البكر، ولعل الحدث هنا وهو (ليلة عرس الفرح) وماله من تداعيات مبهجة في قلوب أصحابه إلا أن هذه اللحظة مع عائشة وهى البطلة والشخصية الرئيسية ومحور الحدث التي من خلالها تنكشف عوالم الحكاية التي تتنقل بسهولة ويسر يصعب معها أن تفرق في أي زمن يسير بنية الحدث وهذا من براعة السارد وهى إحدى جماليات السرد حين يتمكن منه الأديب وهو أهم ميزة في هذا النص.
14- وشم الهناجر، المزلاج الثاني لوشم الهناجر. السرد هنا كما بدأ ختم تاركا الحكاية كما هى بلا حل، وما بين البداية والنهاية بقت حياة الغجر لغزا لا يعرفه إلا أصحابه.بينما يقع الأخر الناظر إلى هذا العالم فى نظرة الدهشة أو الشفقة أو الاحتقار. ثلاث نظرات لا يربط بينهم أية صفة إنسانية تغوص في هذا الواقع المرير لتخرج لنا ما فيه من مرارة الدهشة؛ ولعل السرد هنا خاض وسطر بوضوح صك التبعية التى لا مفر منها، وكأن لسان حال السارد هنا يقول إن الإنسان يحمل وشم طبقته حتى الموت.
15- نهاية سعيدة. المزلاج الأخير لوشم الهناجر..... تخوض الكاتبة هنا ضربا جديدا من السرد حيث تقيم حوارات متخيلة بين أبطال القصص فى وشم الهناجر مع الكاتبة نفسها وفرض صراع متخيل بين الشخصيات والكاتبة، مع رغبة فى التبرير لنهايات هذه الشخصيات سواء من قبل الشخصية نفسها أو من قبل الكاتبة. وهذا النوع من السرد التقيمي أو التبريري لعله جديد ومبتكر وقليل- لم أشهده إلا في ثلاثة أعمال أدبية"لحد علمي"، الأولى رواية العشق والعطش لطه وادي. والثانية لمحمد طلعت فى المجموعة القصصية أين هي أين أنا. والثالثة هنا فى هذه المجموعة. وبرغم الاختلاف فى المعالجة إلا أن الخيط واحد، وثمة اشتراك جوهرى، وتأصيل طريق سردي جديد يحسب للسرد العربي.
ثانيا: البعد الدلالي ل البيت وشم الهناجر
جماليات السرد
أ‌- استفهامية السرد
ثمة حالة من الغربة التعسة والاغتراب المفروض على الذات، وبرغم التجول في بيت وشم الهناجر إلا أن ثمة مشترك سردي فعال يصول ويجول ويلهو بالقاعات ويتربع فوق الأرائك ويطل من الشرفات ويغلق الأبواب ويلقى بالمفاتيح فى عنف وقسوة، وتارة يلقيها فى ود وحنين واهن مشبوب لمن يعيد البهجة المفقودة للبيت؟ لمن يرتب ويزين ويمحو أوساخ النفس البشرية الرذيلة من وِشام البحث عن الذات خارج حدود الذات؟
ب‌- دهشة السرد
والدلالة الأكثر قسوة في قصص وشم الهناجر أنها لم تؤرشف لواقع بديل وحتى وإن كان مشتهيا كما فى (فات وشات - وحالة خاصة - والوقت وقطرات المطر...) ذاك العالم الافتراضي خلف شاشة الحاسوب. بينما تركت السرد متأرجحا فى علامات الدهشة والتعجب كما فى(علامة تعجب - فنان تلقائي - ست غرز...). فضلا عن غوص السرد فى قاع النفس البشرية ولمس جوانبها ليطفو لنا على السطح مخرجا لسانه متأففا كطفل فطن اكتشف زيف لعبته كما فى (ولكنها لازالت تتذكر- وشم الهناجر - بلا عنوان...).
ج _ مرجعية السرد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.