تكريم عدد من أسر الشهداء والمصابين بقيادة الجيش الثالث الميدانى ومحافظتي الشرقية والقليوبية    مرصد الأزهر يناقش مع شباب الجامعات أسباب التطرف وحلوله وعلاقته بالمشاعر    "إدارة الصراع وفن المفاوضات» .. محاضرة لرئيس جامعة طنطا بفعاليات إعداد القادة    جمعية المحاربين القدماء تكرم عددا من أسر الشهداء والمصابين.. صور    "نموذج ناجح".. قومي المرأة يهنئ سحر السنباطي بتولي رئاسة مجلس الطفولة والأمومة    رغم الأحداث الجارية، تراجع أسعار الذهب فى البورصات العالمية    أسهم أوروبا تصعد مدعومة بتفاؤل مرتبط بنتائج أعمال    محافظ الدقهلية: الصناعة المصرية لن تنطلق نحو العالمية بدون جهد وتعب عمالها    «تويوتا» تخفض توقعات أرباحها خلال العام المالي الحالي    «هيئة المعارض» تدعو الشركات المصرية للمشاركة بمعرض طرابلس الدولي 15 مايو الجاري    مفيد شهاب: الجيش المصري قوي وجاهز والحرب محتملة فى هذه الحالة    مستشار سابق في البنتاجون: نظام كييف يعاني من أزمة قد تنتهي باستقالة زيلينسكي    دفاعًا عن إسرائيل.. أعضاء بالكونجرس الأمريكي يهددون مسئولي الجنائية الدولية    التعاون الإسلامي والخارجية الفلسطينية يرحبان بقرار جزر البهاما الاعتراف بدولة فلسطين    افتتاح الدورة 36 من بطولة مصر الدولية ل البريدج    تفاصيل حفل تأبين العامري فاروق بحضور رموز الرياضة المصرية    جامعة العريش تحصد كأس المهرجان الرياضي للكرة الطائرة    الساعة بألف جنيه، التحقيق مع القوادة أم جمال و4 ساقطات    الحكم على المتهمين بق.تل شاب وإلقائه من الطابق السادس بمدينة نصر    "الموضوع خطير".. أول تعليق من ابنة أصالة بعد أنباء انفصال والدتها من فائق حسن    عبد الرحيم كمال بعد مشاركته في مهرجان بردية: تشرفت بتكريم الأساتذة الكبار    قصور الثقافة تبحث عن حلول لمشاكل مسرح الأقاليم    دعاء دخول شهر ذو القعدة 2024.. ادركه ب17 كلمة لفك الكرب والتفريج    دعاء للميت بالاسم.. احرص عليه عند الوقوف أمام قبره    الصحة: اكتشاف 32 ألف إصابة ب«الثلاثيميا» عبر مبادرة الرئيس لفحص المقبلين على الزواج    11 جثة بسبب ماكينة ري.. قرار قضائي جديد بشأن المتهمين في "مجزرة أبوحزام" بقنا    محافظ الفيوم يشهد فعاليات إطلاق مشروع التمكين الاقتصادي للمرأة    انطلاق الموسم الأول لمسابقة اكتشاف المواهب الفنية لطلاب جامعة القاهرة الدولية    «القاهرة الإخبارية» تعرض تقريرا عن غزة: «الاحتلال الإسرائيلي» يسد شريان الحياة    يوسف زيدان عن «تكوين»: لسنا في عداء مع الأزهر.. ولا تعارض بين التنوير والدين (حوار)    جامعة عين شمس تبحث التعاون مع ستراسبورج الفرنسية    المشدد 10 سنوات لطالبين بتهمة سرقة مبلغ مالي من شخص بالإكراه في القليوبية    أحدثهم هاني شاكر وريم البارودي.. تفاصيل 4 قضايا تطارد نجوم الفن    استمرار تطعيمات طلاب المدارس ضد السحائي والثنائى بالشرقية    «8 أفعال عليك تجنبها».. «الإفتاء» توضح محظورات الإحرام لحجاج بيت الله    تعرف على التحويلات المرورية لشارع ذاكر حسين بمدينة نصر    فرقة الحرملك تحيي حفلًا على خشبة المسرح المكشوف بالأوبرا الجمعة    رئيس قطاع التكافل ببنك ناصر: حصة الاقتصاد الأخضر السوقية الربحية 6 تريليونات دولار حاليا    ذكرى وفاة فارس السينما.. محطات فنية في حياة أحمد مظهر    تعمد الكذب.. الإفتاء: اليمين الغموس ليس له كفارة إلا التوبة والندم والاستغفار    الزمالك يكشف مفاجآت في قضية خالد بوطيب وإيقاف القيد    بعد حلف اليمين الدستوري.. الصين تهنئ بوتين بتنصيبه رئيسا لروسيا للمرة الخامسة    صحة المنيا تقدم الخدمات العلاجية ل10 آلاف مواطن فى 8 قوافل طبية    لمواليد 8 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    محافظ كفر الشيخ: نقل جميع المرافق المتعارضة مع مسار إنشاء كوبري سخا العلوي    صالح جمعة معلقا على عقوبة إيقافه بالدوري العراقي: «تعرضت لظلم كبير»    مصرع سيدة صدمها قطار خلال محاولة عبورها السكة الحديد بأبو النمرس    علي جمعة: الرضا والتسليم يدخل القلب على 3 مراحل    ضبط قضايا اتجار في العملة ب12 مليون جنيه    "المدرج نضف".. ميدو يكشف كواليس عودة الجماهير ويوجه رسالة نارية    طلاب الصف الأول الإعدادي بالجيزة: امتحان اللغة العربية سهل (فيديو)    الصحة: فحص 13 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة    بايدن: لا مكان لمعاداة السامية في الجامعات الأمريكية    سيد معوض: الأهلي حقق مكاسب كثيرة من مباراة الاتحاد.. والعشري فاجئ كولر    «قلت لها متفقناش على كده».. حسن الرداد يكشف الارتباط بين مشهد وفاة «أم محارب» ووالدته (فيديو)    إعلام فلسطيني: شهيدتان جراء قصف إسرائيلي على خان يونس    «النقل»: تصنيع وتوريد 55 قطارا للخط الأول للمترو بالتعاون مع شركة فرنسية    «إنت مبقتش حاجة كبيرة».. رسالة نارية من مجدي طلبة ل محمد عبد المنعم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البساطي..عالم كامل داخل الرواية
نشر في القاهرة يوم 24 - 07 - 2012

يمثل البناء السردي في روايات الراحل محمدالبساطي، مرحلة انتقال مهمة في تاريخ الرواية المصرية بشكل خاص، والعربية بشكل عام، حيث أسهم مع رواد جيله في تجديد بنية السرد في الرواية، لأنه يؤمن، كما يؤمن روائيو هذا الجيل، بأن النص الروائي بناء من القيم الفنية، يشيد بواسطة اللغة، لذا آثروا البحث عن قيم فنية جديدة دالة، فتحققت في روايات البساطي، كما تحققت في معظم روايات جيل الستينيات، كإبراهيم أصلان، وصنع الله إبراهيم، وجمال الغيطاني، ويحيي الطاهر عبدالله، وعبدالحكيم قاسم، وغيرهم. فقد عاصر هذا الجيل من الروائيين، المدالثوري بقيادة عبدالناصر، ثم راح ينتقد بشدة، التجاوزات التي أسهمت في إجهاض الديمقراطية، وروجت للفساد والاستبداد والديكتاتورية، فكان جيل الستينات، هو صاحب الصوت العالي، الذي لفت الانتباه، بشدة، إلي هذا الأمر، حتي تجسد ذلك بقوة في كتاباتهم، فكتب صنع الله إبراهيم روايته: "تلك الرائحة"، التي صور فيها عذابات الإنسان داخل المعتقلات السياسية، كما قدم البساطي رواية "المقشرة"، التي أظهر فيها انحرافات الثورة عن مسارها، وجسد يحيي الطاهر الهم الفلسطيني، بكل ما فيه، في أعماله، وغيرهم كثيرون، وبالتالي، أصبح الشكل السابق للرواية، أو الشكل الرومانسي، كما يقال عنه، الذي كان يقدمه إحسان والسباعي ومحمد عبدالحليم عبدالله وغيرهم، غير قادر علي استيعاب هذا الاتجاه الروائي الجديد، فراح هذا الجيل يبحث عن شكل جديد للسرد، يستوعب الواقع السياسي والاجتماعي بتعقيداته، مستفيداً من تقنيات الكتابة لدي كبار كتاب الغرب، مضيفاً إليها من إحساسه بالواقع العربي المرير، ويعزي ذلك إلي هزيمة 1967، التي كانت بمثابة الحدالفاصل بين مرحلتين من مراحل تطور الرواية العربية، فاهتزت الشخصية العربية من جذورها، واتهم البساطي وجيله من رواد الرواية، بالانفصال عن القارئ العام، الذي ظل متمسكاً بالرومانسية، فترة من الزمن، ورافضاً للكتابات المهمة المثقلة بهموم الوطن. عندما عرف الكتّاب العرب "ديستوفسكي(1821-1881)، وعرفوا منهجه الذي لا يبتعد كثيراً عن منهج الواقعيين، وجدوا فيه ضالتهم، ذلك لأنه كان يعتمد، إلي جانب خبرته العامة بالإنسان والمجتمع، علي ملاحظة كل فرد في حالاته الخاصة، علي حدة، فكما كان بلزاك مثالاً للاتجاه الحديث الأول للقصة، كان ديستوفسكي أول من سن الاتجاه الثاني للأدب العالمي كله، وهكذا، أصبحت القصة الحديثة تتطلب من القارئ جهداً كبيراً، للكشف عن هدف المؤلف من وراء الأحداث والشخصيات، وبالتالي، يكون موقف الكاتب من قصته، موقفاً موضوعياً، إلا أن الموضوعية لم يقتصر معناها علي وقوف الكاتب موقف الحيدة من الحقائق التي يعرضها، كما كان ذلك لدي الواقعيين، منذ بلزاك وزولا، بل أصبح معناها أن يصور الكاتب الموقف من نواحٍ مختلفة، علي نحو ما يقول أندريه جيد: "أريد ألا يحكي المؤلف أبداً حوادث قصته حكاية مباشرة، بل يعرضها ويعرضها مرات كثيرة من زوايا مختلفة"، وهذا ما فعله البساطي في معظم رواياته، بعد استيعابه ديستوفسكي جيداً، وبخاصة في قصته: "جوع". جيل الرواية الحديثة فالبساطي وجيله من الروائيين، هم روادالرواية الحديثة، بمعناها ومبناها، التي تهدف إلي التأثير في القارئ عن طريق تقديم ما يسمي "بالحقائق النوعية الفنية"، بصورة مقنعة، والسعي إلي تجسيد عنصر مهم من جماليات التلقي، ويتمثل في "الإيهام بالواقعية"، أي الإيهام بواقعية عالمها الفني، مما يفرض علي الرواية الاهتمام بالتفاصيل والجزئيات، أو تصوير نثريات الحياة، التي تبدو دالة داخل الإطار الفني للرواية، حتي أزهر هذا التطورعن ولادة الرواية الجديدة، التي قامت أساساً علي عدم الربط بين الظواهر، ولم ينهل البساطي من هذا التنوع في البني السردية، فحسب، بل كثيراً ما تمرد عليها، من أجل أن يترك العنان لشخوصه الروائية، تحدد بنيتها الخاصة بها، فتكتب نفسها. والبساطي من مواليد بلدة الجمالية، بمحافظة الشرقية، عام 1937، ثم انتقل طفلاً مع أسرته إلي بلدة في محافظة الدقهلية، وهنا يقول البساطي: "وهناك كانت الصدفة السعيدة، أن بيتنا كان يطل علي بحيرة المنزلة، فكانت هذه المنطقة تمثل حالة فريدة بالنسبة لي، بسبب جزرها التي تعيش عليها عائلات صغيرة، موردها الأساسي تربية الماشية وصيدالسمك، وكان نمط الحياة بين هؤلاء البشر، مليئاً بالدفء والحميمية، رغم ظروف الحياة الصعبة، بعد ذلك، نزحنا إلي القاهرة، للتعليم، وكان عملي في الجهاز المركزي للمحاسبات، في مجال التفتيش علي الوحدات المالية للحكومة، وهذا أتاح لي أن أجوب كل نواحي مصر، ومن ضمن الأماكن التي كان علىّ أن أزورها، مصلحة السجون، لذلك كتبت مجموعة قصصية عن عالم السجون، تضمنت خمس عشرة قصة، ويوجدالسجن في بعض المشاهد من رواياتي، وكتبت أيضاً عنه في رواية "التاجر والنقاش"، هذا الانتقال المتعدد، ساعدني علي وصف الأمكنة والشخوص، خاصة التي من بيئات معينة، لا يستطيع الخيال وحده أن يستحضرها..ولأن الكاتب في عالمنا العربي، لا يستطيع أن يعتمد علي دخل نشر إنتاجه الأدبي في معيشته، لهذا، قررت أن تكون لي وظيفة مستقلة، حتي لا أعاني ما عاناه يحيي الطاهر وأمل دنقل..". حصل البساطي علي بكالوريوس التجارة عام 1960، صدرت له أول أعماله عام 1968، وكانت مجموعة قصصية بعنوان: "الكبار والصغار". وبهذا، بدأ البساطي كاتباً للقصة القصيرة، التي تميز فيها، حيث قرأ في صباه لكل من: شيكوف، وهيمنجواي، وديستوفسكي، ويوسف إدريس، وتأثر بهم جميعاً، تأثراً كبيراً، حتي كاد يحاكي أساليبهم الفنية في القصة، وبعد صدور مجموعته الأولي: "الكبار والصغار"، توالت أعماله، وهي كالتالي: المجموعات القصصية: "حديث من الطابق الثالث"، 1970، "أحلام رجال قصار العمر"، 1979، "هنا ما كان"، 1987، "منحني النهر"، 1990، "ضوء خفيف لا يكشف شيئاً"، 1993، "ساعة مغرب"، 1996، "محابيس"، 2002، "الشرطي يلهو قليلاً"، 2003، أما الروايات فهي: "التاجر والنقاش"، 1976، "صخب البحيرة"، 1994، "أصوات الليل"، 1998، "ويأتي القطار"، 1999، "ليالٍ أخري"، 2000، "فردوس"، 2001، "أوراق العائلة"، 2003، "الخالدية"، 2004، "جوع"، 2005، "دق الطبول"، 2005، "أسوار"، 2008. وبمناسبة روايته "ليالٍ أخري"، قال لي البساطي في حديث ودي معه علي مقهي في مدينة نصر، أنه لم يشأ أن يقع فيما وقع فيه يوسف إدريس في مجموعته: "أرخص ليالي"، ويضيف الياء لكلمة ليالٍ، ولو أنه معجب بإضافتها لمجموعة يوسف إدريس، وقد كان هذا اللقاء معه منذ عامين تقريباً، حين هاتفته، وطلبت لقاءه لعمل دراسة عن قصصه، فأتي ومعه ما لا يقل عن اثني عشر عملا من أعماله بين رواية ومجموعات قصصية، ليهديها لي، ومنها رواية "جوع"، التي صعدت للقائمة القصيرة في جائزة البوكر عام 2009، أحسست أنني أجلس مع حكاء لا يمل من حكاياته، لكنه أراد العودة للمنزل، ليلهو مع أحفاده قبل أن يناموا، وانصرف، وتركني مع رواياته. السير في طريق التجديد استطاع البساطي أن يحطم فكرة القوالب والأنماط، ويخرج بالرواية العربية إلي حداثية جديدة، تتسم بالعمق والأصالة، مما جعل خطابه السردي يتهم أحياناً بالتعقيد وعدم الفهم، لكنه آثر السير في طريق التجديد، لإيمانه بدوره الفني في تطوير الرواية، فقد عاش البساطي مع أبناء جيله فترة الانكسار بعد هزيمة 1967 ، كما عاشوا تداعيات وانهيارات فترة الانفتاح، بما فيها من ترسبات وأمراض وسلبيات، ورأوا بداية نهاية الطبقة الوسطي، التي اعتمد عليها المجتمع في عصر النهضة، وفترة التنوير، ففقدوا اليقين، وتلك كانت مشكلتهم الكبري، عاش البساطي تلك الأزمات السياسية والاجتماعية، بكل تفصيلاتها، فكونت نسيجه الروائي، وراح يجسد إحساسه بهذه الأحداث في أعماله الفنية، بعد أن اتخذ من قريته الصغيرة، المطلة علي بحيرة المنزلة، مسرحاً لمعظم الأحداث، في قصصه ورواياته؛ فنراه في روايته "التاجر والنقاش"، يحكي قصة قرية صغيرة تتناثر بيوتها بارتداد الشاطئ، يحدها جبل من الجانب الآخر، يمتد ليحجب الصحراء وراءه، ويدور مغزي الرواية حول هذا الجبل الذي أحاطه الكاتب بهالة أسطورية من الأسرار والغيبيات، حتي أصبح رمزاً للمجهول الآتي، وهنا يعزف البساطي علي تنويعة الحلم والرمز، ويدخل تلك المنطقة التي طالما أحب الدخول إليها في رواياته، وهي منطقة من العقل، يختلط فيها الوعي باللاوعي، والواقع بالفانتازيا، والانتباه بالغيبوبة، ففي هذه القصة، يمثل الجبل الحلم الذي يسعي إليه كل أهل القرية، وفي الوقت نفسه، يخشونه، لأنه الحلم الآتي، ويأخذ الجبل الموضوع الأساسي في حكايات العجائز، حين يلتفون حول النار في أمسياتهم: "أنتم لم تروا شيئاً عندما كان الجبل جبلاً، تجرون الآن فوقه وتمرحون..زمن لم تروه من قبل..صخوره الضخمة الملساء التي لم يصبها وهن، والجن من كل نوع التي كانت تعشش فيه، وأصواتها الرهيبة في الليل..". وقد استلهم فيها الكاتب الأنواع السردية القديمة، مع بنية سردية تعتمد علي التجاور، أكثر من اعتمادها علي التراكم، فتجسدت بنية سردية هجينة غنائية جديدة. وفي "يأتي القطار"، لم نسمع سوي صوت الراوي الذي يقوم بسرد قصة حياته، منذ كان جنيناً في بطن أمه، لم يعتمد علي الترتيب الزمني في سرده، لأنه كان يعني بالسوابق واللواحق الزمنية، ويقصد بالأولي؛ تداعي الأحداث الماضية، واسترجاعها في الزمن الحاضر، أو اللحظة الآنية، أما اللواحق الزمنية، فهي تداعي الأحداث المستقبلية التي لم تقع بعد، وكلا الاستدعائين يسمي: "بنقطة الصفر"، اعتمد فيها الكاتب علي الراوي الحاضر، فيحكي بالقدر الذي يسمح به نزق الصبا، وعندما يصل إلي ذروة الحكاية، تراوغنا ذاكرته، وترفض الكشف، ولا يتجلي جمال هذه الرواية في الأشياء الحاضرة فحسب، بل في الغائبة، وعدم الاكتمال، الذي يجعل من الصمت لغة: "نلتف حول الطبلية، ويأتي أبي ليأكل معنا، ولأننا لم نتعود وجوده معنا أثناء الأكل، نكف عن الهزار، حذرين أن يفلت منا كلام، أو نمضغ بصوت مسموع، ونسرع في الأكل لننتهي، غير أنه يزجرنا لنأكل علي مهل..". صخب البحيرة وفي "صخب البحيرة"، قال عنها النقاد إنها رواية غامضة، ولكن البساطي يري أن لكل رواية خصوصيتها، وإن كانت غامضة، قهو يعترض علي تدخل الكاتب بالشرح، لأنه بذلك يضر بالعمل الأدبي، وتعد رواية "صخب البحيرة"، رواية المكان بامتياز، حصر الكاتب شخوصها في أماكن نائية معزولة، حتي يستطيع الكشف عن المخزون الروحي لها، وقد استطاع، ببراعة نادرة، أن يكشف عن سمات هذه الشخصيات المعزولة البعيدة، المرتبطة بالبحر والمراكب والأكواخ، اعتمد فيها الكاتب علي الحوار، كما كان يعتمد عليه في معظم رواياته، ويعتبره قيمة جوهرية، فيما تتراجع أحياناً أبنية السرد، لتفسح المجال للحوار، فهو أكثر حيوية وحياداً، كما يعبر عن الأفكار التي يريد لها الكاتب أن تصل إلي المتلقي مباشرة. وقد فازت هذه الرواية بجائزة أحسن رواية لعام1994 . أصوات الليل وفي "أصوات الليل"، يقترب البساطي بكاميرته إلي عالم بعيد ناءٍ، وهو عالم البسطاء والهامشيين، يجوسون خلال ليل الحياة، باحثين عن عزاء، عن التئام لجروحهم وأرواحهم، عن تواصل حميم، يعينهم علي تحمل عبء العيش، عن إدراك لمعني وجودهم الإنساني، وفيها، ينهل السرد من جماليات التفكك والتشظي والتجاور والتضاد والتوازي والتنافر، تغيب فيها البطولة، أو الشخصية المحورية، وإن كانت "بدرية"، تطل برأسها، وسط حشد هائل من الشخوص، ولكنها تضيع مع تعاقب السنين، وتتحول إلي رمز، أو صوت، أو طيف، كباقي شخصيات الرواية، ولو أنها شخصيات حقيقية موجودة بالفعل، إلا أنها تتحرك وراء ستار ليل طويل، لا نهائي، فيلمح القارئ خيالات لشخصيات طريفة، وكأنه يشاهد "خيال الظل": "يغادر الحاج بسيوني المقهي، بعد أن يخلو من زبائنه، ويكون قد أتي علي خمسين حجراً، وأصبح خفيفاً رائق المزاج، يبحث في الركن عن عصاه، ويذكّره أحدهم أنه لم يأت بها، ويأخذ عصا من صاحب المقهي، فكلاب الحواري لا ترحم في الليل..". فردوس أما "فردوس"، فهي شخصية عاصرها الكاتب، حاصرها، كمعظم شخوصة، في أماكن نائية في الريف، دون تدخل منه، رغبة في معرفة مدي قدرة هذه الشخصية، علي اكتشاف العالم من حولها، ومواجهة مصيرها، ورواية "فردوس" مستمدة من الواقع، فصراعها يبدو مع ذاتها، قبل أن يكون مع الآخر،
وذلك من خلال حالة الشك التي تعيشها فردوس، نتيجة لتصرفات ابن زوجها الغريبة، هذا الصبي الذي لم يبلغ سن الشباب بعد: "عندما انتبهت لمحاولاته معها، لم تعد تسمح له بالنوم في سريرها، أو الاستحمام عندها..في وقفتها بالباب تراه قادماً، تدخل وتغلق الباب قبل أن يصل إليه، يحيرها تجرؤه عليها ولا تفهمه..". الخالدية أما "الخالدية"، فيعود فيها البساطي مرة أخري إلي منطقته التي عشقها، وهي المنطقة العقلية بين الواقع والوهم، والحقيقة والخيال، ويكتشف القارئ أن المؤلف قد نجح في خلق عالم جديد في فن الرواية العربية، تحكمه الكوابيس، وتديره الأحلام، وذلك من خلال شخصيات خيالية، يصنعها، ويضعها في مكان متخيل، ويحدد مصائرها، ويكشف، من خلالها، عن إحباطات وإخفاقات المجتمع، المليء بالفوضي والفساد، تقابلنا لغة جديدة، مخلوطة بمرارة الكاتب، يعتمد، في السرد، علي الحوار الحيوي النامي، واضعاً أمامنا الحالة بموضوعية شديدة، ولكنها حالة أقرب للفانتازيا: "احفر هنا جنب الجذر بالراحة-سرعان ما تظهر سطح العلبة الصفيح نصف متر في ربع-يا نهار أسود-قالها البستاني متراجعاً، صوت المعاون الصارم: -أخرجها-جثة؟-جثة إيه يا حمار-لا تحفرون إلا عن جثث، نال كفاً علي قفاه، ولم يلتفت ليري مصدره، انحني ورفع العلبة ووضعها عند حذاء المعاون..". أسوار وليال أخري ثم نقل جانباً من حياة السجون في "أسوار"، مزج فيها الكوميديا بالتراجيديا، بشكل عبقري، وقد فازت بجائزة العويس عام 2008، مناصفة مع الكاتب السوري زكريا تامر. أما في رواية "ليالٍ أخري"، فقد ظهر فيها تأثر البساطي بيوسف إدريس في مجموعته القصصية الأولي: "أرخص ليالي"، حتي استوحي منها عنوانها، يروي البساطي، بإرهاف لغوي، يوميات امرأة شابة، عاشت في فترة السبعينيات في مصر، أي في زمن الانفتاح، الذي اجتاحت سماته السبعينيات، وبقيت آثاره إلي اليوم. بطلة الرواية "ياسمين"، جاءت من الريف إلي المدينة، بعد أن فقدت الأب، لتلتحق بكلية الآداب في جامعة القاهرة، ثم تتخصص في الفنون الشعبية، تشتبك وحيدة مع المدينة، وتتزوج من مصري مقيم في إيطاليا، جاء إلي القاهرة ليدرس العربية، ثم يتركها عائداً إلي إيطاليا، فتضغط عليها الوحدة، ويحيط بها صخب المدينة وثرثرة المثقفين، ولا تفلح اهتماماتها وجولاتها في ربوع المدينة، في التخفيف من آثار الوحدة والضياع، فتطلق لجسدها العنان، في شبق لانهائي، تلقي به لكل جوعان، أملاً في الانعتاق، وفك حصار الروح، لكن الروح التي انطفأت، من غير الممكن استعادتها بابتذال الجسد، وهنا، تسقط قناعات كثيرة، وتنهار قيم تشربتها حين كانت صغيرة، وتضيع منها قريتها الصغيرة، كما ضاعت سنوات السبعينيات، وسقطت شعاراتها عن العدل الاجتماعي، ولكنها تواصل سقوطها يومياً، ثم تحدث مفاجأة! وهو قتل كل من يضاجعها في ظروف غامضة، وهنا، يترك الكاتب النهاية مفتوحة، دون أن يدلنا علي قاتل عشاقها، ويظل التساؤل: هل هو أحد أقاربها؟، أم هو شخص يهتم بأمرها؟ وياسمين شخصية حقيقية، عايشها الكاتب في وسط المدينة، ولكنه جعل منها رمزاً لحالة مصر في تلك الفترة. دق الطبول أما "دق الطبول"، فهي رواية الغربة التي تسحب الروح، وتلمس واقعاً لا يقتصر علي المصريين، بل يشاركهم فيه أبناء شعوب أخري، والقصة كلها من خيال الكاتب، صاغها بشكل فانتازي، يثير الضحك والبكاء معاً، وقد فازت بجائزة ساويرس، وجاء في تقرير اللجنة التي رأسها الناقد فاروق عبدالقادر: "إن فوز البساطي بالجائزة التي نافست عليها أكثر من 40 كاتباً، تقدموا برواياتهم إلي اللجنة، يأتي لتميزه وإبداعه وكثافة لغته المستخدمة دون إسفاف"، وأبطال روايته موظفون وعمال وسائقون وخدم، يقدمون جهدهم وأرواحهم وأحلامهم، للترفيه عن سكان دولة خليجية متخيلة من الكاتب، يسافر سكانها الأصليون، ويتركون البلد للخدم والموظفين والعمال، لتشجيع فريقهم في كرة القدم، لاشتراكه في المونديال، وهنا، تحدث المفارقات المضحكة، والمريرة معاً. أما "أوراق العائلة"، فهي سيرة ذاتية للكاتب، ويبدو فيها تأثر البساطي برواية السيرة الذاتية التي كتبتها لطيفة الزيات، وهي: "أوراق شخصية". جوع وفي "جوع"، يعود البساطي لمعينه الأول ومستودع حكاياته، وهو القرية، هذا العالم الذي أثري قصصه بالأحداث والحكايات. سلك البساطي في "جوع" مسلكاً جديداً في السرد، فهي ثلاثية، مروية بضمير الغائب من قبل أبطالها الثلاثة، ومع كل مرة، تكشف عن حقيقة جديدة، تلقي بظلالها علي مجري السرد، مع حرصه في كل مرة علي البدء باللازمة، أو الجملة الأساسية في الحكي، وقد فرضت القصة علي الكاتب أن يرويها من أكثر من جانب، وكأن الحكاية اختارت بنية السرد لنفسها، وكما يقول يونج: "مثلما ينتج النبات زهراته، هكذا تخلق النفس رموزها". يسبق الرواية جملة دالة تقول: "ادخلوها بسلام آمنين"، وهي جزء من آية قرآنية، استخدمت في الآونة الأخيرة في مداخل القاهرة، بهدف ترويج السياحة، وذلك بالطبع توظيف حكومي خالص، ليس للشعب دخل به، جاءت العبارة في مقدمة الرواية، بمثابة علامة، أو هوية، أراد الكاتب بهذه العبارة، التأكيد علي المفارقة الشديدة بين دلالتها، وجو الرواية، لإثارة التعجب. تحكي "جوع" قصة عائلة من أربعة أفراد، تعيش في فقر مدقع، داخل بيت من الطوب الأحمر، تساقطت بعض أحجاره من الرطوبة، مقفل بباب من الخشب، كتب فوقه علي الحائط باللون الأبيض هذه العبارة، فهذا هو ما سيجده الداخل لهذا المكان، فمن أين السلام ومن أين الأمن؟ إنه لم يجد سوي زوج فقدالحيلة، بائس، وزوجة مطحونة، وولدين يتضوران جوعاً، وحائط أكلته الرطوبه، فانتفخ أسفله، الزوج "زغلول" ليس له عمل ثابت، يعمل يوماً وباقي الأيام في البيت، "سكينة"، الزوجة، تحاول توفير الخبز لأسرتها، هذا هو شغلها الشاغل، فإما تستلفه من الجيران، وإما تخبزه، إذا حصل زوجها علي بعض المال من عمل، ثم ترد ما استلفته من خبز، وولدان، الكبير: "زاهر"، في الثانية عشرة، والصغير: "رجب"، في التاسعة، اعتادت هذه العائلة علي الجوع والنوم ببطون فارغة، حتي هزلت أجسامهم، وبرزت عظامهم، وفقدوا الإحساس بالحياة. يأخذنا الكاتب في جولة عبر الرواية، لتفقد أحوال تلك العائلة: "كعادتها حين ينفذ العيش من البيت، تصحو سكينة في البكور وتقعد علي المصطبة، والطرحة ملمومة في حجرها، وتكون غسلت وجهها ولبست الجلباب الوحيد لديها، عاش معها سنوات، نحل كثيراً، واختفي لون وروده.."، ويصف الكاتب البيت الذي يؤويهم: "واجهة البيت من الطوب الأحمر، انتفخ أسفلها بسبب الرطوبة، تساقطت بعض حجارته، فجوات كبيرة جري ترقيعها بالأسمنت، جدران البيت الجانبية والداخلية من الطين، الحجرة الوحيدة مسقوفة بعروق الخشب، والحوش نصفه بدون سقف، النصف الآخر معروش بخليط من فروع الأشجار والجريد وقطع صفيح، وخرق تتدلي أطرافها، لا تختلف، في شكلها، كثيراً عن التعابين التي تتلوي جنبها"، تتفرع من القصة الرئيسية قصص فرعية، تصب كلها في إثراء الخط الدرامي الرئيسي للرواية، حيث تكشف كل قصة عن جانب مأساوي لهذه العائلة، ويحكي "زاهر"، قصته مع عبده الفران، الذي كان يحصل منه علي كسر الخبز وبقاياه، ويبوح عبده الفران لزاهر، بمدي عشقه للنار! فهو يلازمها، ويلتصق بها، وكأنه يقيم علاقة حميمية معها، حتي "لحست النار ذراعه وجانباً من رقبته وحلمة أذنه، وأخلفت جلداً ميتاً"، وهي حالة مازوكية غريبة، وما أكثر الغرائب السلوكية التي تتفشي بين هذه الفئة المعدمة المهمشة من الناس، وذلك لإحساسهم بانعدام آدميتهم. ثم يظهر لنا الكاتب نوعاً آخر من الجوع عند زغلول الأب، ليس للخبز، بل إلي العلم والمعرفة، فقد تملكته حالة من الهرطقة، والشك في رحمة الله، فراح يبحث عن سبب منطقي لحالتهم المزرية، ويذهب لشيخ الجامع، الشيخ رضوان، يسأله، ظناً منه أن الحاج رضوان سيهديه، فما كان من الشيخ رضوان إلا أن رفسه رفسة قوية، أطاحت به خطوات للوراء: "بتعدّل علي ربنا يا ابن الكلب..يا كافر يا ابن الجزمة، نزلت ضرباته عنيفة علي زغلول..جذبه الشيخ وكفه الممتلئة مرفوعة، تتأهب لصفعه، بإصبعها الوسطي خاتم بفص كبير.."، هنا يقدم لنا الكاتب مفارقة ساخرة، فآثار النعمة ظاهرة علي الشيخ رضوان؛ متمثلة في كفه الممتلئة، وخاتمه الذهبي، بينما في المقابل، يقابلنا جسد زغلول الناحل، وجلبابه الذي شق من صدره للوسط، وعظام صدره البارزة، ويأمر الشيخ رضوان صبي المحل بإعطائه ثوب قماش، بدلاً من الجلباب الذي تقطع، يرفضه زغلول في عزة نفس، ويعود دامع العينين، دامي الوجه والجسد، تأخذه سكينة بين ذراعيها، وتمسح جروحه، وهنا، تظهر ثقافة هذه الفئة الثرية، التي لم تفهم من الدين سوي قشوره، يدّعون وصايتهم علي الإسلام، ويعتقدون، جهلاً، أنهم، بإلقائهم الحسنة للفقير، دون اعتبار لآدميته، يحسنون إليه، ويجب أن يحمَدوا علي ذلك، والرمز لا يشمل الأفراد فحسب، بل الأمم أيضاً!. والنقطة التي أراد البساطي إبرازها في "جوع"؛ هي كرامة الفقراء، التي لا يراها الغني، فغياب الحكومة تماماً عن هذه الفئة المهمشة، وتفشي الفكر السلفي، ووجود طبقة ذات ثراء فاحش، لا تشعر بالفقراء، كلها مشاهد تضافرت، وكونت مجتمعاً يشوبه الاضطراب وعدم التوازن، بنية السرد أخذت شكلاً دائرياً، فقد بدأ الكاتب بالنهاية وأنهي بالبداية، وكأنه يدور بنا في دوامة الفقر، التي لا تنتهي. تنهض اللغة، فتحمل التجربة الروائية بجدارة، فجاءت عباراته مكثفة، موحية، تنوء بكم من الدلالات، ويكون المسكوت عنه، أبلغ من المصرح به. تجسد رواية "جوع" تجليات الرواية الجديدة في نضجها، بدءاً بالعنوان، الذي آثر البساطي أن يجعله عارياً من "ال" التعريف، حتي يجعل من الجوع حالة إنسانية عامة، لكل زمان ومكان، ومروراً ببنية السرد، وانتهاء بالرمز الإنساني للجوع. تجول الكاتب بما يشبه الكاميرا المحايدة، بين المشاهد، فتجنب التورط في المشاعر ومصائر الشخصيات، والتدخل المباشر في أحداث الرواية، وراح يطلق صرخة مكتومة، من خلال هذه العائلة التي أذهلها الجوع، ويقول: نحن في زمن الجوع، لا للخبز فحسب، "فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان"، كما قال السيد المسيح، بل جوع للعلاقات الإنسانية، وللتراحم، وللترابط، وللحب وللجنس، وهكذا، تصور "جوع" الاحتفاظ بالكرامة الإنسانية. من خلال الاستعراض السابق لروايات البساطي، نري للمرأة دوراً مركزياً في حياته، وعندما سئل عن ذلك، قال إن من تناول المرأة بشكل أساسي هو نجيب محفوظ في رواياته، ولكن لدي نجيب محفوظ كان الرمز واضحاً وصريحاً، فلم تعدالمرأة عند نجيب من لحم ودم، بل مجرد رمز تجريدي، ولا ننسي شخصية "حميدة" في "زقاق المدق"، التي رمز بها لمصر، لكن المرأة عندالبساطي، هي واقع حي، مقهور، وهي في حالة شديدة السوء. رحل البساطي عن عالمنا مساء السبت 14 يوليو 2012 عن خمس وسبعين عاماً من العطاء، رحم الله الروائي محمدالبساطي، وأمتعنا بأعماله الخالدة.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.