المثير للدهشة أنني وسط ذلك الخضم الذي وجدتني فيه، فوجئت بأنني أنتحي جانبا وأكتب القصة الوحيدة التي كتبتها داخل السجن. لم أفكر فيها من قبل، بل لم تمر مجرد مرور علي خاطري، كما أنني لست من بين الكتاب الذين يحرصون علي تسجيل مثل تلك الأحداث »الكبري» في أعمالهم الأدبية. سبق أن ذكرت أننا في سجن المرج كنا في أحوال بالغة السوء، وندافع عن كرامتنا بالكاد، وأظن أننا كنا قد بدأنا أولي مراحل الانفراج، وانتظم خروجنا لطابور الشمس، واستطعت الحصول علي قلم ( أظن أنه قلم رصاص) وغلاف علبة سجائر نفرتيتي ( لم تعد موجودة منذ عدة سنوات) وكتبتُ في جلسة واحدة داخل الزنزانة بعد التمام مايلي: بعد أن توقف المطر كان الجو قارسا بعد أن توقف المطر. وكان الهواء يهب، ويدفع بالأوراق والأشياء الخفيفة إلي أعلي. عبر الولد الشارع راكضا، وقد وضع يديه في جيبي سرواله، فيما قبض بيده اليمني علي البرتقالة الباردة ذات الملمس الخشن. راح يشم الرائحة العطنة الثقيلة النفاذة وهو يبص حواليه، غير قدر علي تبين المكان تماما، في ضوء الفجر الخفيف، قبل أن يتوقف بجوار الحاجز القصير المبني بالأحجار الصفراء، فوق الرصيف الذي يطل علي الجبل الغربي. وفي الشرق، أمامه مباشرة، كان السور الخلفي لسجن القلعة. كان الجو قارسا، وكان الولد يحاول أن يلم أعضاءه، وقد تصلبت أصابع قدميه العاريتين داخل الحذاء الواسع. يلسعه الهواء عبر القميص والسروال الواسع كذلك، إذ ينصت للضجيج المفاجئ، ويلتفت، مهيئا للركض. اشتد الضجيج مقتربا، وبان شبح العربة الخشبية، وهي تتدحرج مرة ..ومرة عبر المنحدر، في الضوء الخفيف. ثم أنه تدفق صهيل الحصان ولمح شبحه الذي انطلق. جعل ينصت مرتجفا لصوت حوافره القوي الآتي من بعيد، يضرب الأسفلت المغسول المنحدر، ضربات سريعة متلاحقة، لما تخلص أخيرا من العربة، وراح يعاود الصهيل. كان حصانا داكنا يطير بالفعل، وكان شبحه يخترق الفضاء البارد الواسع، وحيدا وسط الشارع، لاتكاد حوافره تلمس الأرض المنحدرة، وقد تطايرت معرفته في الريح. وعندما اقترب الحصان، طائرا وحيدا يلمع جسمه الداكن المشدود. استطاع الولد أن يخطو خطوات قليلة في اتجاهه. وفي لحظة خاطفة، التقت عيناه بالعين الواسعة المكحولة المرتعشة، ورغب في أن يسمع صوته ينادي الحصان، وفتح فمه رافعا يديه، علي أن الحصان كان قد تجاوزه وحيدا، ممتلكا للشارع في النهاية. وصرخ الولد صرخة قوية وحيدة ، اختلطت بالصهيل المذهل المحموم، وصوت حوافره ولحمه المصطدم بالأرض، عندماتعثر أخيرا. راح الولد يشاهده، أسفل عمود النور الواقف، وهو يحاول لمّ أعضائه. غير أنه همد أخيرا، واستلقت رقبته الطويلة عبر الشارع، بينما كان بقية الجسم غائما هناك، أسفل الرصيف. أخرج البرتقالة، وراح يتطلع عبر الجبل الغربي، وكان بإمكانه أن يري حلقات الدخان المتناثرة المتصاعدة، بعد أن تدفق ضوء الفجر أخيرا. راح يحدق إلي تلال القمامة الصاعدة حتي سفح الجبل، بينما كانت الحرائق المتناثرة تملأ المكان جيف ونفايات وأكوام قمامة نفاذة نتنة. لقد قذف بالبرتقالة بأقوي مايستطيع، ثم اندفع يركض إلي أسفل وحيدا. تلك القصة من القصص القليلة جدا التي كُتبت في جلسة واحدة، بل في دقائق قليلة، ولم أفكر فيها من قبل مطلقا، ولم أغيّر فيها منذ أواخر نوفمبر 1981 حرفا واحدا. في الأسبوع القادم أستكمل إذا امتد الأجل ..